(نص + فيديو) المحاضرة الرمضانية الـ21 للسيد عبدالملك بدر الدين الحوثي 26 رمضان 1445هــ| 5 أبريل 1445هـ

سلسلة المحاضرات الرمضانية (1445هـ) ألقاها السيد القائد عبد الملك بدر الدين الحوثي “يحفظه الله”

المحاضرة الرمضانية الحادية والعشرون الجمعة 26 رمضان 1445هـ 5 أبريل 2024م

 

 

أَعُـوْذُ بِاللَّهِ مِنْ الشَّيْطَان الرَّجِيْمِ

بِـسْـــمِ اللَّهِ الرَّحْـمَـنِ الرَّحِـيْـمِ

الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَأَشهَدُ أَنَّ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ المُبين، وَأشهَدُ أنَّ سَيِّدَنا مُحَمَّداً عَبدُهُ ورَسُوْلُهُ خَاتَمُ النَّبِيِّين.

اللَّهُمَّ صَلِّ عَلى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّد، وَبارِكْ عَلى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّد، كَمَا صَلَّيْتَ وَبَارَكْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَعَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ، وَارضَ اللَّهُمَّ بِرِضَاكَ عَنْ أَصْحَابِهِ الْأَخْيَارِ المُنتَجَبِين، وَعَنْ سَائِرِ عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ وَالمُجَاهِدِين.

الَّلهُمَّ اهْدِنَا، وَتَقَبَّل مِنَّا، إنَّكَ أنتَ السَّمِيعُ العَلِيم، وَتُبْ عَليَنَا، إنَّكَ أنتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمْ.

أيُّهَا الإِخْوَةُ وَالأَخَوَات:

السَّـلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ؛؛؛

في سياق قصة نبي الله نوح “عَلَيْهِ السَّلَام” مع قومه، تحدثنا على ضوء بعضٍ من الآيات المباركة، وكنا وصلنا إلى الحديث عن دعوته لقومه، وتبليغه لرسالة الله إليهم، وكيف كانت ردة فعلهم، وكيف كان موقفهم، وذكرنا أن ملأهم (يعني: كبار القوم فيهم) من ذوي الوجاهة والنفوذ والمال، وكانوا مجتمعاً عشائرياً وقبلياً، تصدروا التكذيب له، والصدَّ عن رسالة الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، عن الإيمان بها، والتقبل لها، وهذا شيءٌ مؤسف؛ لأن الكثير من قومه تأثروا بهم، ويعود موقف بعض الملأ- وتكررت هذه الحالة مع غيره من الرسل والأنبياء في مختلف مراحل التاريخ- على تصورهم أنه لا يبقى لهم نفوذ، ولا تأثير، ولا أهمية، ولا مكانة، إلَّا ببقاء الوضع على ما هو عليه، وتؤثِّر على بعضهم طريقتهم وأسلوبهم، الذي يعززون من خلاله نفوذهم، ويستغلونه كأسلوب معين وطريقة معينة للتأثير على الآخرين.

فالبعض– مثلاً- يرتبط بمصالح ومكاسب مادية بطرقٍ غير مشروعة، فيها الابتزاز، فيها الظلم، فيها الاختلاس… إلى غير ذلك، ثم يرى أن رسالة الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، بتعاليمها القيمة والعادلة، سوف تغلق المجال عليه، عن مواصلة ما هو فيه، وهو يريد أن يستمر بتلك الطريقة.

البعض عقدة الكبر فيهم، يتصور أنه سيتحول إلى تابع، تابع للرسول، تابع للنبي، وبذلك سيفقد مكانته كمتبوع، ويجهلون أن اتِّباعهم للرسل والأنبياء هو عزة، ومكانة أعظم، وعزة عند الله وعند خلقه، وقد تحدثنا في المحاضرة السابقة: أن الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” يريد الخير لكل عباده، وأن رسالته ودعوته لعباده فيها الخير لكلهم، لجميعهم، {وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ}[هود: من الآية3]، الخسارة هي في المعارضة لهدى الله، في الصد عن سبيل الله، في المحاربة لدين الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، هي التي تُمثِّل خسارةً حقيقيةً للإنسان، فلو بقي له في هذه الدنيا شيءٌ من النفوذ والوجاهة والسلطة، فهو شيءٌ وهمي، هو نفوذ ومكانةٌ وهمية، ليست مكانةً مستندةً إلى قيمةٍ إنسانيةٍ وأخلاقيةٍ، المكانة التي تعتمد فقط على نفوذ مالي، أو نفوذ سلطوي، هي زائلة، منتهية، فانية، وتختلف عن القيمة الحقيقية للإنسان، فيما هو عليه من قيم، فيما هو عليه من أخلاق، فيما هو عليه من مبادئ إلهية، فيما يحظى به مما يجعله الله له من الود في قلوب عباده، كما قال “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا}[مريم: الآية96].

تختلف الحالة بين المكانة الوهمية، التي يمكن أن تتغير على الفور، خسر ماله، أو ثروته، أو سلطته، فانتهت مكانته، لم يبقَ له مكانة، ولم يبقَ له احترام؛ لأن احترامه وتلك المكانة التي كان يعتمد عليها، كانت فقط تستند إلى ما لديه: إمَّا من سلطة ونفوذ، أو من مالٍ وثروةٍ… ونحو ذلك.

فالقيمة الإيمانية والإنسانية هي القيمة الحقيقية، هي التي تجعل للإنسان مكانةً حقيقيةً:

  • أولاً: عند الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”.
  • ثم ما يجعله الله له من عزة الإيمان، من عزة التقوى، من عزة الاستقامة الأخلاقية والسلوكية، في واقع الحياة، وفي نفوس الناس.

فهم تصدَّروا موقف المعارضة، فيما آمن به- آمن بنبي الله نوح “عَلَيْهِ السَّلَام”- قلةٌ قليلةٌ جداً، وعلى فتراتٍ زمنيةٍ متفاوتة، يعني: من الألف سنة إلَّا خمسين عاماً، على مدى تلك المدة الطويلة كان يؤمن به بعد عشرات السنين من الجهد، والدعوة، والتذكير لقومه، والسعي لهدايتهم بكل الوسائل، يؤمن شخص- مثلاً- شخص واحد، وهكذا يبقى لوقت طويل، فيؤمن بعد عشرات السنين، وهو في عملٍ مستمر، عمل يومي، في كل يوم يسعى لهدايتهم، لتذكيرهم، فيؤمن شخص واحد، وهكذا على مدى ألف سنة إلَّا خمسين عاماً، يقول الله: {وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ}[هود: من الآية40].

وجَّهوا له- أولئك الملأ- مجموعة من الدعايات:

  • في مقدِّمة موقفهم قولهم: {إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ}[الأعراف: من الآية60]، يتهمونه بالضلال:

وهكذا من دون استناد إلى شيء، مع أنَّ دعوته كانت واضحة، دعوته لهم، عناوينها واضحة، ثلاثة عناوين أساسية:

  • دعاهم إلى أن يعبدوا الله: {اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ}:

تحدثنا عن هذا العنوان أنه عنوان شامل، يُعبِّر عن محتوى الرسالة الإلهية؛ لأنه يصلنا بتعليمات الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”؛ فنتوجه بالعبادة له، لا نُعَبِّد أنفسنا لغيره، نؤمن به أنه وحده إلهُنا الإله الحق، لا إله إلا هو، وأننا عبيده، ثم نتحرك بناءً على ذلك: في الالتزام بهديه، في التقبُّل لرسالته، في الإيمان بنهجه، في التمسُّك بنهجه بناءً على ذلك، فهناك جانب يتصل بالاعتقاد، باعتقاد الإنسان، بإيمانه: أنَّه لا إله إلا الله، وأنَّ غير الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” كلهم مخلوقون، مربوبون، عبيد، الكل ملكٌ لله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”.

وإضافةً إلى ذلك: أن نُحْضِعَ أنفسنا لهدي الله وتعليماته، ألَّا نقبل بأن يتدخل غير الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” في أن يملك فينا حق الأمر والنهي والتشريع، ويقرر لنا شرعا من دون الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ}[الشورى: من الآية21].

فرسالة الله هي تحريرٌ للناس من أن يُعبِّدوا أنفسهم لغير الله، لمربوبين، لمخلوقين: إمَّا لأصنام حجرية، أو لأصنام بشرية، هي إنقاذٌ للناس، وهي رسالة حق؛ لأن البشر بكلهم، والمخلوقات والكائنات بكلها ملكٌ لله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”؛ ولذلك ليس هناك أبداً أي حق في تأليه غير الله، في اعتقاده إلهاً، أو التعامل معه كإله، بدلاً عن الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، أو اعتقاده شريكاً مع الله في ألوهيته، أو التعامل معه كشريك لله في ألوهيته، ذلك باطل الباطل، باطلٌ محضٌ.

  • العنوان الثاني: هو التقوى لله:

قال لهم: {إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَلَا تَتَّقُونَ (106) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ  (107) فَاتَّقُوا اللَّهَ}[الشعراء: الآية106]، دعاهم إلى تقوى الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، وتقوى الله هي: بالاستقامة على نهجه وأمره، تتحقق تقوى الله بهذه الاستقامة: الالتزام بأوامر الله ونواهيه “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، بما يقي الناس من عذابه، ويقيهم من العواقب الخطيرة، لانحرافهم عن نهج الله، عن تعاليمه القيِّمة، التي تصلح بها حياتهم، ويضمنون بها مستقبلهم في الآخرة.

  • {وَأَطِيعُونِ}[الشعراء: من الآية108]:

لأنه سيسير بهم هو على أساس نهج الله، سيتحرك بهم من موقع القدوة والهداية، في إطار طاعة الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، ومنهج الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، فهو يطلب منهم الطاعة فيما يبلغهم به، من تعليمات الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، وأوامره، ونواهيه، وتوجيهاته.

فهم هكذا واجهوا دعوته بمجرد رؤيتهم الشخصية، وتقييمهم الشخصي، من دون الاستناد إلى أي حُجَّة، ولا برهان، تجاه تلك العناوين الواضحة في الرسالة الإلهية: {إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ}. كان هناك قائمة اتهامات ودعايات يُعتمد عليها في التشكيك في رسالته، منها: اتهامه بالضلال.

  • منها: مجادلتهم في إمكانية أن يكون هناك رسولٌ لله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” من البشر:

قالوا: الرسالة درجة عالية جداً، لا يمكن أن يرسل الله بشراً ليكون رسولاً، أنت بشر مثلنا؛ وبالتالي لابدَّ أن يرسل الله إلينا ملكاً من ملائكته، وبيَّن الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” دعايتهم هذه: {مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ}[المؤمنون: من الآية33]، وكذلك بيَّن الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” في آيةٍ أخرى في (سورة هود): {مَا نَرَاكَ إِلَّا بَشَرًا مِثْلَنَا}[هود: من الآية27]، هكذا كانوا يحتجون بهذه الحجة: {لَوْ شَاءَ رَبُّنَا لَأَنْزَلَ مَلَائِكَةً}[فصلت: من الآية14]، فهم يقولون: إن مقام الرسالة فوق مستوى مقام البشر، وهذا ليس صحيحاً، ليست حجة صحيحة أبداً، لماذا؟

أولئك الذين يجادلون بهذا الجدال، ويقولون: لا يمكن أن يكون هناك رسول من البشر، وإنما من الملائكة، هم بأنفسهم الذين ارتضوا بالألوهية، الألوهية بكلها التي هي الأعظم من كل شيء يعني، ليس هناك شيء مثل الألوهية، رضوا بها لأصنام حجرية، ينحتونها هم، يصنعونها هم، ثم يقلِّدونها وسام الألوهية: أنها إله، آلهة، أنها آلهة يعبدونها، فكيف لم يرتضوا بالرسالة لبشر، وهم قد ارتضوا بالألوهية لحجر من الأحجار، ينحتونه هم، صخرة ينحتونها بشكل معين، ثم ينصبونها صنماً معيناً، ويعتقدون فيها الألوهية.

ثم إنَّ دور الرسول نفسه ما هو؟ هو: تبليغ رسالة الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” وتعليماته التي توحى إليه، والسعي للتحرك بالناس من موقع القدوة والهداية، في تطبيق تلك الرسالة، والالتزام بها، والتَّحرُّك على أساسها؛ ولذلك كان لابدَّ أن يكون من البشر، أن يكون هناك رسلٌ للبشر من البشر أنفسهم؛ لأنه سيكون هو بنفسه قدوة للبشر في تطبيق تلك الرسالة، في الالتزام بما فيها من تعليمات الله وأوامره ونواهيه، لو كان- مثلاً- ملكاً من الملائكة، سيقولون له: [أنت لا تعرف حالنا نحن البشر، لا تعرف كيف هي طبائعنا، كيف هي شهواتنا، كيف هي رغباتنا، لا تعيش مشاعرنا، لا تعيش الضغط النفسي الذي نعيشه نحن، فلذلك أنت تُقدِّم هذه التعليمات المثالية جداً؛ لأنك لا تواجه ما نواجهه نحن من ضغوط نفسية، من رغبات، من أهواء، من انفعالات، أنت في خلقك وتكوينك تختلف عنَّا]، لكن لمَّا كان الرسل والأنبياء “صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِم” من البشر أنفسهم، ثم كانوا هم من يلتزمون بتعليمات الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” من موقع الهداية والقدوة، ويعيشون مع المجتمع البشري بشريته، إنسانيته، يعيشون كبشر، كناس، لديهم نفس المشاعر، نفس الأجواء التي يعيشها البشر، نفس الظروف التي يعيشها البشر، ثم ضمن ذلك الواقع: من واقع أنهم بشر، ومن الظروف التي يعيشها البشر أنفسهم، يلتزمون هم بتعليمات الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، يقدِّمون القدوة للناس في الالتزام بها، هذا له أهمية كبيرة جداً.

ثم على مستوى الأُنس والتكريم للبشر، أنس للبشر أن يكون منهم، يعني: هي نعمةٌ عليهم، أن يرسل الله إليهم رسلاً منهم، هي نعمةٌ عليهم، في هذا أنس لهم واطمئنان، لو كان- مثلاً- من الجن أتى إلى الإنس رسولاً إليهم، لن تكون حالة الاطمئنان والانسجام، والاعتياد على هذه الحالة كحالة طبيعية من واقع الناس أنفسهم، كما لو كان إنسياً منهم، على مستوى الأنس والاطمئنان.

على مستوى التكريم: هذا تكريمٌ للبشر أيضاً، ليس شيئاً يتحسسون منه، يغضبون منه، يأنفون منه، بل هو تكريمٌ لهم بشكلٍ عام: أن يكون منهم الرسل والأنبياء، الذين هم على درجة عالية، ومنزلة عظيمة، في المنزلة عند الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، وفي الكمال، الكمال الإنساني والأخلاقي العظيم، هذا تكريمٌ للبشر، فلماذا يجادلون في ذلك؟!

كان من ضمن ما يتضح من عقدتهم في مسألة طرح هذه المسألة: {مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ}، هي عقدة الكبر، وهي تؤثِّر على الكثير من الناس، وبالذات من له نفوذ، وجاه، وسلطة… وغير ذلك، إلَّا من رحم الله، من وفَّقه الله وسَلِم من هذا الداء؛ ولهذا قالوا: {مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَنْزَلَ مَلَائِكَةً مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الْأَوَّلِينَ}[المؤمنون: من الآية24]، فهم يتهمونه بأنه يريد أن يحظى بامتياز، عن طريق دعوى الرسالة يصبح هو متفضلاً عليهم، أفضل منهم، أعلى شأناً منهم، أكثر أهميةً منهم، أعلى منزلةً منهم، متبوعاً بدلاً عنهم، وهم يريدون أن يكونوا هم من يتصدر المجتمع باستمرار، وألَّا يأتي غيرهم؛ فهي عقدة الكبر، عقدة الكبر.

  • اتهموه بالجنون:

وهذا أسلوبٌ منهم للسخرية، والاستهزاء به، وللتنفير منه، وإلَّا هم يعرفونه، يعرفون رشده؛ لأن الرسل والأنبياء “صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِم” عادةً ما يكونون معروفين في وسط مجتمعهم بالكمال، بالكمال في رشدهم، في أخلاقهم، في زكاء أنفسهم، في حكمتهم، في طهارتهم وصلاحهم عمَّا هو موجود في المجتمع من المفاسد، والرذائل… وغير ذلك، {إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ فَتَرَبَّصُوا بِهِ حَتَّى حِينٍ}[المؤمنون: الآية25].

ثم بعد أن آمن به قلةٌ قليلةٌ من المستضعفين، الذين هم من الفقراء من المجتمع، ممن لا يملكون الثروة والجاه والنفوذ والسلطة، جعل المستكبرون والملأ ذلك دعايةً لهم، وسبباً يقدمونه، يحتجون به في موقفهم من رسالته: أنه آمن به الفقراء من المجتمع، والمستضعفون من المجتمع، {قَالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ}[الشعراء: الآية111]، هم يحتقرون من لا يمتلكون الوجاهة، والنفوذ، والمال، والسلطة؛ فيعبِّرون عنهم بهذا التعبير لاحتقارهم: {وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ}.

فاستمر حالهم على هذه الحالة، مع أنه استمر في إقامة الحجة عليهم، تبيين الحق لهم، الرد على دعاياتهم تلك، يفنِّدها، يوضِّحها، {قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي}[هود: من الآية28]؛ لأن الله يرسل رسله بالمعجزات والبيِّنات، يعطيهم البيِّنات التي تُبيِّن أنهم رسلٌ من عند الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، والبيِّنات التي يوضِّحون بها الحقائق للناس، الحقائق بالأدلة الكافية، بالحجة الواضحة المقنعة؛ إنَّما تحتاج من الإنسان إلى إنصاف فقط، أن يكون منصفاً، ألَّا يكون مكابراً، ولا متكبراً، ولا معانداً.

{وَآتَانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ}[هود: من الآية28]؛ لأن الرسالة التي منَّ الله بها عليه، هي رحمة، رحمةٌ من الله عليه، وله، ولقومه، وللناس؛ ولذلك يفترض أن يفهموا أنَّ ما منح الله رسوله ونبيه نوحاً “عَلَيْهِ السَّلَام” من الفضل، من الرحمة، من هذا الفضل العظيم: فضل الرسالة، هو لهم، لمصلحتهم، يتوجَّه إليهم.

الرسل والأنبياء “صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِم”، بكل ما منحهم الله من الفضل، والكمال، والخصائص، وما هيَّأهم له، وما أعدَّهم له من دورٍ عظيم، هو لمصلحة الناس، يتوجَّه إلى الناس، من أجل الناس، يصطفي لهم رسولاً عظيماً، يكمله، يجعله على مستوى راقٍ في كماله، في مؤهلاته، ثم في منزلته عند الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، وهو يتوجَّه بكل ما منحه الله من مؤهلات، وطاقات، وقدرات، وأخلاق، وسعة صدر، لهداية الناس، لإصلاحهم، للارتقاء بهم، للسمو بهم، لتزكية أنفسهم، من أجل أن يسمو الإنسان، أن تزكو نفسه، أن يصلح، أن يرتقي، أن يكون له شأن عند الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، أن يتحقق له كماله الإنساني، ولا يتَّجه اتجاه الحيوانات، {كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ}[الأعراف: من الآية179]، وهكذا.

{فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنْتُمْ لَهَا كَارِهُونَ}[هود: من الآية28]؛ لأنه أحياناً المشكلة تكون في عمى الآخرين، عمى المعاندين، العناد يعميهم، الكبر يعميهم، الأنانية… الاعتبارات الأخرى، التي تحول بينهم وبين الإيمان، تعميهم عن الحق، وعن الرحمة التي هي لهم، هو يوصل إليهم رحمة الله بهم.

ويستند إلى الحق الواضح، يقول لهم: {وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (61) أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَأَنْصَحُ لَكُمْ}[الأعراف: 61-62]، ورسل الله وأنبياؤه “صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِم” هم الأعظم نصحاً للناس، والأحرص على هداية الناس وإنقاذهم.

{وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ}[الأعراف: من الآية62]، ما يعلمه من هدى الله، من تعليماته، من هديه، من نوره، ما يرتقي بهم في وعيهم، في علمهم، في معرفتهم، في رشدهم، وفي نفس الوقت يعلم العواقب الخطيرة إن كذَّبوا بالرسالة الإلهية، ولم يقبلوا بها.

{أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَلِتَتَّقُوا وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ}[الأعراف: الآية63]، هل استغربتم من هذا؟ هل اعتبرتموه شيئاً مستحيلاً غير مقبول: أن يأتي إليكم هدىً من الله، وفق سنته مع عباده، لا يترك عباده من دون أن يقيم عليهم حجته، ويوصل إليهم هديه، {عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ}، وهذه نعمةٌ عليكم، رجل منكم تعرفونه، تعرفون أمانته، وصدقه، يحرص على إنقاذكم، على هدايتكم، {عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ}، وأنتم من تستفيدون من هذه الرسالة، من هذا الهدى، ولكن مشكلة العمى– المشكلة الخطيرة جداً- تجعلهم لا يكترثون للنذير، {لِيُنْذِرَكُمْ}؛ لأن هناك عواقب خطيرة للتكذيب والانحراف عن هدى الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، {وَلِتَتَّقُوا وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ}.

فاستمروا في جدالهم، وأصروا على تكذيبهم وعنادهم، وهو استمر الدعوة لهم إلى الله، والسعي لإنقاذهم بكل جهد وأسلوب، ولدهرٍ طويل، لزمنٍ طويلٍ جداً، يعني: ألف سنة إلَّا خمسين عاماً، واشتكى إلى الله في الأخير: {قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهَارًا}[نوح: الآية5]، كان يعمل بكل جهد لإنقاذهم، ودعوتهم، وهدايتهم، ويعمل في مختلف الأوقات: في الليل والنهار، وليس فقط في وقتٍ مُعيَّن، {لَيْلًا وَنَهَارًا}، فكيف وصل الحال بالنسبة لهم، مع الجهد الكبير الذي يبذله لهدايتهم، وهو يدعوهم، ويذكِّرهم، ويحاول أن يستفيد من كل المناسبات الموجودة في حياتهم لتذكيرهم، ويستخدم كل الأساليب، ويختار مختلف الأوقات معهم؟ {فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلَّا فِرَارًا}[نوح: الآية6]، كلما دعاهم أكثر؛ كلما عاندوا أكثر، وتهرَّبوا أكثر حتى من سماع دعوته.

{وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا}[نوح: الآية7]، وصل بهم الحال- مع الزمن الطويل، وهو يدعوهم، ويذكِّرهم، وينذرهم- وصل بهم الحال إلى هذا المستوى من العناد: أنهم لا يريدون أن يسمعوا صوته، فحينما يبدأ بدعوتهم وتذكيرهم، يصمون آذانهم بأصابعهم، يجعلون أصابعهم في آذانهم؛ كي لا يسمعوا دعوته، ويغطون على عيونهم بثيابهم؛ كي لا يشاهدونه وهو يتحدث إليهم، وهذه حالة خطيرة جداً: عندما يصل الإنسان في نفوره، يكون نافراً جداً من سماع الهدى، لا يريد أن يسمع، هي حالة خطيرة على الإنسان، حالة خذلان، وسلب للتوفيق، وسيطرة للشيطان، عندما يصل الإنسان إلى حالة أنه لم يعد يرغب لا بأن يسمع، ولا بأن يرى من يذكِّره، من يسعى لهدايته،

{وَأَصَرُّوا}[نوح: من الآية7]، أصروا على ما هم عليهم من العناد والتكذيب، {وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا}[نوح: من الآية7]: تحوَّلت الحالة بالنسبة لهم إلى كبر؛ وبالتالي إلى محاربة للرسالة الإلهية.

ومع معاناته الكبيرة مع قومه، عانى أيضاً من داخل أسرته: من ابنه ومن زوجته، أحد أولاده، وكذلك من زوجته، التي كانت تعمل مع قومها، كانت لها ارتباطات وصلة مع أهلها وقومها، فكانت من داخل منزله تفشي أسراره؛ لأن من يؤمن به، ويذهب إليه، كان قومه قد حاولوا أن يفرضوا المقاطعة له، ممنوع أن يذهب إليه أحد، أن يذهب إلى منزله أحد، فإذا ذهب إلى منزله أحد، وعرفوا بذلك؛ اضطهدوه، وظلموه، ووجهوا إليه الأذيَّة والمحاربة، فكانت زوجته من داخل منزله تعرف من أتى إليه؛ وبالتالي تعرف من أتى إلى منزله، ثم تبلّغ إلى أهلها وقومها، وهم من جهتهم يقومون بالدور الذي يقومون به، في المضايقة، في الاضطهاد، في الظلم، في الإساءة، في المحاربة؛ لأنهم أرادوا أن يفرضوا عليه حالةً من العزلة؛ ولهذا يقول الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” في القرآن الكريم: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَقِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ}[التحريم: الآية10]، فخيانتها كانت خيانةً للسر، خيانةً بتسريب الأخبار، لكشف من يذهب إليه للإيمان به.

ابنه كذلك، أحد أولاده اعتزله، وتخلَّى عنه، وذهب بمعزلٍ عنه، ابنه كان له رفقاء سوء، كانت لديه علاقات وروابط مع قرناء سوء؛ فأثَّروا عليه تأثيراً كبيراً في موقفه من والده، حتى أنه اعتزل عن والده؛ كي لا يحسب على والده، أو أنه معه لدى قومه، يتعيَّب من ذلك، يعتبر ذلك عاراً، وعيباً، وخزياً، فاتَّجه لمقاطعة والده، والاعتزال عنه، إلى هذه الدرجة بلغت معاناة نبي الله نوح “عَلَيْهِ السَّلَام”.

وهدده قومه، وحاولوا منعه من الاستمرار في تبليغ رسالة الله، {قَالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ}[الشعراء: الآية116]، وخوَّفوه من آلهتهم، من أصنامهم، فهو رد عليهم تجاه ذلك التهديد بهذا التحدي: {يَا قَوْمِ إِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآيَاتِ اللَّهِ فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلَا تُنْظِرُونِ}[يونس: من الآية71].

وهكذا استمروا على ما هم عليه من العناد، من التكذيب، من الجحود، من المحاربة، وبعد دهرٍ طويل أتت العقوبة الإلهية الزاجرة؛ لتكون عاملاً يساعدهم، إذا استفادوا من هذا العامل، وإلَّا فكثيرٌ من الأمم لا تستفيد أيضاً، يقول الله ضمن سُنَّته في القرآن الكريم، ضمن سُنَّته مع عباده، يقول في القرآن الكريم: {وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ}[الأعراف: الآية94]، فعاقبهم الله عقوبةً زاجرة؛ لكي يتذكَّروا، إن نفع فيهم ذلك، وإلَّا كانت حجةً عليهم، عاقبهم الله بالجدب الشديد، والعقم لنسائهم، فلا يَلِدْنَ، وعاقبهم الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” بنزع البركات في أرزاقهم ومعيشتهم.

واستمرت هذه العقوبة، وذكَّرهم نبي الله نوح “عَلَيْهِ السَّلَام”، ودعاهم إلى أن يستغفروا الله، أن يعودوا إلى الله، أن يؤمنوا بالله، ولكن مع ذلك أصرُّوا على ما هم عليه، دعاهم بكل الوسائل، أصرُّوا على تكذيبهم، يقول في شكواه إلى الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” وتقريره: {ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَارًا (8) ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَارًا}[نوح: 8-9]، استخدم معهم كل الأساليب: الدعوة العلنية، الدعوة السرية، الدعوة لهم جماعات، الدعوة لهم فراداً، استخدم كل الأساليب معهم، {فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا (10) يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا (11) وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا}[نوح: 10-12]، فهو ذكَّرهم بالله، وأنَّ عودتهم إلى الله تحل لهم مشكلتهم، وتصلح حياتهم، وحتى في واقعهم المعيشي؛ لأن حياة الإنسان مرتبطةٌ بالله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، هو محتاجٌ إلى الله “جَلَّ شَأنُهُ”.

مع ذلك لم ينفع فيهم شيء؛ لأن الأكثر منهم قد ارتبطوا بأولئك الملأ منهم، بملئهم، وهم ينتظرون لملئهم أن يؤمنوا، وملؤهم لا يريدون أن يؤمنوا، فأصبح ذلك عائقاً كبيراً أمام إيمانهم، وكانوا في حالة طغيان، ومعاصٍ، وعمى؛ ولهذا قال الله عنهم في القرآن الكريم: {إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا عَمِينَ}[الأعراف: من الآية64]، قال عنهم: {وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغَى}[النجم: الآية52]، كانوا أظلم وأطغى حتى من بعض الأقوام ممن أتى بعدهم، وأهلكهم الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”.

ولهذا قال نوحٌ “عَلَيْهِ السَّلَام” وهو يشكو إلى الله، قال: {رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ إِلَّا خَسَارًا}[نوح: من الآية21]، ارتباطاتهم تلك بملئهم من ذوي الثروة، من ذوي النفوذ، من ذوي الوجاهة، الذين عاندوا، واستكبروا، وحاربوا رسالة الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”؛ أثَّر عليهم، وحال بينهم وبين الإيمان.

{وَمَكَرُوا مَكْرًا كُبَّارًا}[نوح: الآية22]، اتَّجه ملؤهم أولئك إلى رسم الخطط الشيطانية؛ لمحاولتهم في أن تستمر تلك الحالة: من الضلال، من الباطل، من التكذيب لرسول الله ورسالته، من العناد، من أن يحجزوا بين الناس وبين التأثر بنبي الله نوح “عَلَيْهِ السَّلَام”، من مقابلة كل سعيٍ منه، وكل أسلوب بأسلوب آخر، بسعي آخر؛ لصد الناس باستمرار عن رسالته، وعن الإيمان به، وعن الاتِّباع له.

في الأخير قالوا له: {قَالُوا يَا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ}[هود: الآية32]، يطالبونه بالعذاب، بالعذاب الإلهي، أن يعجِّل بالعذاب عندما كان ينذرهم، يحذِّرهم، يذكِّرهم، {قَالَ إِنَّمَا يَأْتِيكُمْ بِهِ اللَّهُ إِنْ شَاءَ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (33) وَلَا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ}[هود: 33-34].

في الأخير رأى أنه مهما بذل معهم من جهد، ومهما قدَّم لهم من نصح، ومهما سعى لإنقاذهم وهدايتهم، واستخدم كل الأساليب الدعوية؛ بهدف التأثير عليهم، التبصير لهم، التذكير لهم، لم ينفع معهم شيءٌ أبداً، في الأخير توقع أن يكونوا قد خذلوا في الأخير، فلا يقبلون النصح أبداً، ولا يحبون أن يسمعوا النصح، ولا يريدون أن يستجيبوا أبداً؛ فلذلك وصل إلى هذا التصور معهم: يتوقع منهم أنهم بذلك العناد لمئات السنين، وأن يأتي جيل بعد الجيل السابق، جيل آخر يتعمَّر الشخص منهم أربعمائة سنة، ثم يوصي ابنه، يذهب بابنه إلى نبي الله نوح، ويقول: [أحذرك من هذا الرجل، لا تؤمن به]، يوصيه، يوصيه، [ولا تتبعه، ولا تقبل منه، واحذره، ولا تسمع له، ولا تصغي له]، حالة من الإصرار، والعناد، والتكذيب، حالة عجيبة جداً، وعلى مدى دهرٍ طويلٍ جداً؛ فهو وصل إلى حالة من الجهد، واستمر لزمنٍ طويل، حتى أتاه قول الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”: {وَأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ فَلَا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ}[هود: الآية36]، في الأخير أخبره الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” أنه لم يبقَ في غير الذين قد آمنوا- وهم قلة قليلة جداً- أي أمل في غيرهم، في البقية لن يؤمن أحدٌ منهم، قد خذلوا، ووصلوا في إصرارهم وعنادهم وتكذيبهم إلى درجة اللاعودة إلى الهدى، وعدم التقبل الحق نهائياً، وهي حالة خطيرة.

الإنسان يمكن أن يصل هكذا: إلى درجة أنه لم يعد عنده استعداد نفسي أبداً أن يتقبَّل الحق والهدى نهائياً، وتخبث نفسه خبثاً شديداً، النفس البشرية قابلة للصلاح، والهدى، والزكاء، وقابلة لأن ينمو فيها الخبث، ويترسَّب فيها الخبث، ويتجذَّر فيها الشر؛ حتى تفسد نهائياً، تفسد فلم تعد قابلة للحق، ولا للهدى نهائياً، وهذه الحالة التي وصل إليها قومه، باستثناء تلك القلة القليلة الذين آمنوا معه، وحينها أتاه التوجيه بالاستعداد؛ لأن العذاب آتٍ وقادمٌ على قومه لا محالة.

نستكمل- إن شاء الله- بقية القصة في المحاضرة القادمة، ونكتفي بهذا المقدار…

نَسْألُ اللَّهَ “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” أَنْ يُوَفِّقَنَا وَإِيَّاكُم لِمَا يُرْضِيهِ عَنَّا، وَأَنْ يَرْحَمَ شُهَدَاءَنَا الأَبْرَار، وَأَنْ يَشْفِيَ جَرْحَانَا، وَأَنْ يُفَرِّج عَنْ أَسرَانَا، وَأَنْ يَنْصُرَنَا بِنَصْرِه، إِنَّهُ سَمِيعُ الدُّعَاء.

وَالسَّـلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ؛؛؛

قد يعجبك ايضا