بهدوء.. من يلملم شظايا الردّ الإيراني المتناثرة؟
محمد فرج
شظايا الرد الإيراني، تطال أكثر من تغيير قواعد الاشتباك، وكسر هيبة الدفاعات الغربية والإسرائيلية، وتسير عملية لملمتها، جنباً إلى جنب، مع بناء النظام الدولي الجديد.
على أهمية الصورة التي كرّسها الرد الإيراني الواسع؛ إلاّ أنه لا يُختصر بليلة حافلة بالصواريخ والمسيّرات؛ فالأحداث في التاريخ لا تكمن أهميتها في ذاتها، ولحظتها التي تمرّ فقط، وإنما في الانعطافات التي تحدثها في مسار التاريخ، بالتفاعلات والنتائج والتداعيات، وبتعبير آخر بشظاياها..
شظية أولى: عين أميركا ترمش، وأكثر!
لا نمتلك إحصائية دقيقة وحاسمة لعدد المسيّرات والصواريخ الإيرانية التي تجاوزت منظومات الدفاع الجوية الأميركية والفرنسية والبريطانية؛ تماماً كما أننا لا نمتلك تصنيفاً دقيقاً (breakdown) للمسيّرات والصواريخ التي أطلقتها القوات المسلحة اليمنية والمقاومة العراقية منذ المشاركة في طوفان الأقصى (كم انطلق منها، كم وصل، كم أسقط، كم أصاب الهدف بعد الوصول).
ومع أننا لا نمتلك هذه الأرقام بالدقّة الكافية، إلا أن بين أيدينا ما يكفي من الانطباعات والمشاهد المصوّرة، والنتائج الحيّة، التي تثبت أن الوجود الأميركي فشل في حماية “إسرائيل”، وتضرّرت صورة الردع الأميركية إلى حدود غير مسبوقة في تاريخها المعاصر؛ فالوجود المتمثّل في عدد من القواعد العسكرية، القتالية واللوجستية، المعلنة وغير المعلنة، إضافة إلى ما تمّ إرساله من قطع بحرية وجنود، لم تتمكّن جميعها من أداء مهمة “التصدّي” بما يتناسق مع ما “نعرفه” عن القدرات الأميركية، بوصفها عيناً لا ترمش.
واحدة من شظايا الرد الإيراني، أصابت هذه الصورة بالذات؛ صورة التفوّق العسكري الأميركي. لا نبالغ هنا في رسم صورة ضعف، ولكننا بالغنا لعقود في رسم صورة قوة، وتغذّت واشنطن على سلطة الوهم طويلاً لردعنا، من دون أن نشعر أحياناً كثيرة.
إيران بالذات، أدّت دوراً في تفكيك سلطة الوهم هذه؛ فعندما قصفت قاعدة عين الأسد عام 2020، كانت المرة الأولى التي تحدث منذ الحرب العالمية الثانية، وبعد ذلك أصبح الأمر حدثاً عادياً يمكن تكراره. كنا نعتقد قبل ذلك أن القواعد الأميركية محمية بما لا نعرفه، وردودها قاهرة بما لا نحتمله، لكن الخدش الأول غالباً ما يفتح الباب لتدافع الجروح العميقة.
يقول سكوت ريتر، في مقابلته أمس مع جورج غالاوي، إنّ ما فعلته إيران في ردّها على “إسرائيل”، هو واحدة من أهم التظاهرات العسكرية في العصر الحديث، وإنّ إيران أظهرت أنها تستطيع الانتقام بنوع من القوة التي لا يمكن صدّها.
في كتاب “لماذا لا يستطيع الغرب أن ينتصر”، لمؤلفه فادي لاما، محاولة جادّة لكشف جوانب الوهم في القوة الأميركية، ابتداءً من إخفاء عدد القتلى الحقيقيين من الجنود الأميركيين في العراق، وصولاً إلى عيوب الـ F-35، التي لن نعرفها إلا عندما نراها في السماء أكثر!
إننا ببساطة أمام مرحلة جديدة، يتبدّد فيها وهم القوة الاستثنائية الأميركية، ويزداد الإيمان بالقوة الذاتية لشعوب المنطقة..
شظية ثانية: من هي الدول المارقة؟
قبل غزو العراق عام 2003، بحثت واشنطن عن تفويض مباشر وصريح من الأمم المتحدة، لم تتحمّس له روسيا وألمانيا وفرنسا، التي كانت تؤيّد تجريب مسار دبلوماسي أطول مع العراق. أقصى ما أدركته واشنطن كان قرار مجلس الأمن 1441، القاضي بتفتيش منشآت العراق، وحقّ استخدام “جميع الوسائل الضرورية” في حال العثور على أسلحة دمار شامل.
لم تقنع الصور الباهتة التي عرضها كولن بأول أحداً في مجلس الأمن، ولا حتى الشهادات المفبركة. قرّرت واشنطن ولندن حينها إدارة الظهر للهيئات الدولية، والاستناد إلى وضعية العراق العامة تحت عقوبات البند السابع، واعتبار استطلاعات الرأي الداخلية ومواقف الكونغرس ومجلس العموم كافية لشرعنة الحرب.
لا توجد علاقة مع الأمم المتحدة ومجلس الأمن، تشبه تلك التي تمارسها “إسرائيل”، وعلى الرغم من البداية السعيدة لـ “إسرائيل” مع القرارات الأممية (قرار التقسيم 181)، إلّا أن “إسرائيل” بعده هي صاحبة المركز الأول عالمياً في تجاهل قرارات الأمم المتحدة ومجلس الأمن (من قرار 56 إلى 2728) وانتهاك بنود ميثاق الأمم المتحدة. ليس الفيتو الأميركي وحده ما يعزّز هذه العلاقة الخاصة من التجاهل، فحتّى قرار مجلس الأمن الصادر قبل 3 أسابيع، مروراً بالامتناع الأميركي وليس بالفيتو، لم يغيّر شيئاً في السلوك الإسرائيلي، لأنه ببساطة لم يكن قراراً تحت الفصل السابع، ولا تندرج تحته أي عقوبات.
عندما نفّذت “إسرائيل” عمليتها ضد القنصلية الإيرانية في دمشق، كانت تدرك أن القانون الدولي يعتبر ذلك اعتداءً على أرض لدولة ذات سيادة، وهو تماماً كالاعتداء على العاصمة طهران؛ إلا أنها وبتاريخها الطويل من التنمّر على المواثيق الدولية لا تأبه للأمر، ولا سيما أن الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا حمتها في مجلس الأمن من إصدار إدانة لفعلتها، بحجة أنها بحاجة إلى البحث عن مزيد من التفاصيل المتعلقة بالمبنى!
على النقيض من الصورتين، الأميركية والإسرائيلية، يأتي الرد الإيراني محبوكاً ومتسقاً ببنود القانون الدولي، ولا تخطئ إيران في خطوة واحدة من خطوات الرد. استندت إيران إلى المادة 51 من ميثاق الأمم المتحدة؛ الحقّ الطبيعي في الدفاع عن النفس.
من الجدير بالذكر أن مبدأ الحقّ الطبيعي في الدفاع عن النفس، كان من الأفكار الناظمة لبدايات عصر التنوير الغربي؛ التي نظّر لها جون لوك في كتاب الحكومة المدنية. إنك ببساطة لا تستطيع انتظار جهاز الأمن للوصول إليك، واللص يعبث في بيتك ويهدّدك بسلاحه، في تلك اللحظة يبدو الحق الطبيعي في الدفاع عن النفس أسرع في الوصول. ومع أن إيران أجّلت حقّها الطبيعي في الدفاع عن النفس، إلا أن مجلس الأمن لم يصل، فقرّرت إيران استخدام الحقّ الطبيعي المؤجّل للدفاع عن النفس.
من الجدير بالذكر أيضاً، أن بوتين يخوض حربه ضد الأطلسي في أوكرانيا، باستخدام البند نفسه (المادة 51)، وقد أجرى الترتيبات القانونية اللازمة للّحظة الحاسمة بدقة، ومن ذلك الاعتراف بجمهوريتي لوغانسك دونيتسك، وعقد الاتفاقيات المشتركة اللازمة معهما، ومن ثمّ الدخول في الحرب.
شظية ثالثة: عبور أجواء، ولكن!
تعتمد “إسرائيل” خلال الحرب على أنظمة تقنية لتشويش وتزييف إشارات الأقمار الصناعية لتحديد المواقع (GPS)، فهي من جهة تعمل على إضعاف الإشارة المقبلة من الأقمار الصناعية (jamming) واستبدالها بإشارات أخرى، ترسل إحداثيات مضلّلة (spoofing).
تتوالى تقارير المنظمات الدولية حول خطورة استخدام هذه الأنظمة، ولا سيما تضليل طرق الطيران المدني، وإرباك التعليمات التي يتم إرسالها إلى الطيّارين، وينطبق الأمر نفسه على الملاحة البحرية، التي تتضرّر هي الأخرى بسبب التشويش المستمر، وتتعرّض مسارات الملاحة إلى الخطر في البحار والمحيطات.
لا تشغل “إسرائيل” بالاً لآثار أنظمة التشويش والتزييف التي تستخدمها في المنطقة، بحجة السيطرة على عمل المسيّرات، ولا تُسمع أصوات الاحتجاج من دول الجوار حرصاً على سلامة المسافرين وسفن الشحن!
تستمر “إسرائيل” في ممارساتها التقنية الخطرة، على الرغم من عدم نجاعة أساليبها في تضليل المسيّرات، ولا سيما مع تعدّد خيارات الأقمار الصناعية لتحديد المواقع، البديلة عن GPS، ومنها نظام Beido الصيني.
إيران المعنية بالردّ المحكم على “إسرائيل”، لم تتردّد لحظة في تنبيه دول المنطقة، حرصاً على سلامة الطيران المدني والملاحة البحرية، وكرّست بذلك مسؤولية تجاه أمن الإقليم وسلامته.
منذ عام 1938 في إيران، وقبل انتصار الثورة الإسلامية في إيران، وفي تحدٍ واضح للشاه الأب، رضا خان، أصدر محمد حسين كاشف فتوى مفادها، أن الجهاد في فلسطين (وليس في أي مكان آخر) واجب على العرب والمسلمين، وفي زيارة جديدة للتاريخ، تأتي رسائل إيران بما هو أبعد من الردّ، وأقرب إلى فلسطين!
شظايا الرد الإيراني، تطال أكثر من تغيير قواعد الاشتباك، وكسر هيبة الدفاعات الغربية والإسرائيلية، وتسير عملية لملمتها، جنباً إلى جنب، مع بناء النظام الدولي الجديد.
المصدر: الميادين