حينما تقضّ فلسطين مضاجع أمريكا والكيان الصهيوني

|| صحافة ||

ممّا لا شك فيه أن الحركات الاحتجاجية الطلابية وغير الطلابية العالمية ليست بالأمر الغريب وغير المألوف. إذ إنه على امتداد التاريخ الحديث والمعاصر شهدت العديد من البلدان حركات من هذا القبيل، كان لها تأثير كبير جدًا في صياغة المعادلات السياسية، من خلال الإطاحة بأنظمة معينة وتشكيل أخرى بدلًا عنها، أو في أدنى تقدير، عبر فرض قوانين وتشريعات تقلص مساحات الظلم والإضطهاد، كما هو الحال بالنسبة إلى حركة الحقوق المدنية المناهضة للتمييز العنصري في الولايات المتحدة الأميركية، خلال النصف الثاني من القرن الماضي، وكذلك حركة مناهضة الفصل العنصري في جنوب أفريقيا التي امتدت طوال القرن الماضي.

مشهد حشود الطلبة، في الجامعات الأميركية والأوروبية العريقة، مثل جامعة كولومبيا وجامعة جورج تاون وجامعة كاليفورنيا، وهم يقلبون الأمور رأسًا على عقب، ويخلطون كل أوراق مراكز السلطة والقرار دعمًا لفلسطين وأبناء الشعب الفلسطيني ورفضًا لجرائم الكيان الصهيوني، بدا غريبًا ومختلفًا بشكل واضح وملموس، لا سيما أن التظاهرات والاحتجاجات المحدودة تحوّلت إلى حركة طلابية عالمية، تجاوزت حدود الولايات المتحدة الأميركية لتطرق أبواب أوروبا وآسيا وأفريقيا والأمريكيتين، ولتلهب حماس الشعوب من مختلف المشارب والانتماءات، وتقلق الكثير من الأنظمة والحكومات في العواصم الكبرى ومن يدور في فلكها ويسير خلفها.

لعل المختلف والغريب وغير المتوقع، في مجمل مشهد الحراك الطلابي العالمي الداعم لفلسطين والمتعاطف مع أبنائها، تمثل في أن الولايات المتحدة الأميركية كانت المنطلق الرئيسي للحراك الطلابي العالمي، وتحديدًا من جامعات عريقة، لم يعرف عنها أنها تحرّكت بمسارات متقاطعة ومتعارضة مع المنظومة السياسية العليا هناك، بل لم يعرف عنها أنها تبنّت مواقف تنطوي على عدم انسجام مع متبنيات ومواقف وثوابت الكيان الصهيوني منذ تأسيسه قبل ستة وسبعين عامًا.

وفي أوقات وظروف ومناسبات سابقة، شهدت الولايات المتحدة الأميركية حركات وانتفاضات شعبية، سواء طلابية أم غير طلابية، تمحورت مطاليبها وشعاراتها حول قضايا وشؤون محلية داخلية مطلبية إلى حد كبير، على خلاف الحراك الطلابي الأخير، والذي تبنى قضية عالمية ذات طابع إنساني بالدرجة الأساس، متناقضًا بالكامل مع التوجهات والسياسات الرسمية التقليدية الأميركية، وهو ما دفع المؤسسات السياسية والأجهزة الأمنية الأميركية للذهاب إلى خيار المواجهة المباشرة والتصعيد العنيف في إطار محاولاتها ومساعيها المحمومة لاحتواء ذلك الموقف الحرج والخطير وغير المسبوق، حيث إن أعداد المعتقلين من الطلاب والأساتذة والموظفين المحتجين، بلغت أرقامًا غير مسبوقة، وبعيدة كل البعد عن جوهر الشعارات البرّاقة عن منظومة القيم الديمقراطية الغربية.

وبدلًا من إنهاء ذلك الحراك وتطويقه ووأده ضمن حدود الولايات المتحدة، راحت أصداؤه تمتد وتتوسّع سريعًا كالنار في الهشيم إلى بقاع أخرى، ليتكرر ويتسع المشهد إلى الجامعات الفرنسية والبريطانية والألمانية والهولندية والنمساوية والكندية وغيرها. وثمة مفارقة مهمة للغاية، وهي أن الحراك الداعم لفلسطين والمناهض للكيان الصهيوني انطلق هذه المرة بقوة وزخم كبير جدًا من أبرز المعاقل الغربية المؤيدة لذلك الكيان، وصاحبة الفضل في إيجاده وتأسيسه على حساب الحقوق الشرعية والتأريخية للشعب الفلسطيني.

وفي السياقات الطبيعية، يمكن لنا أن نفهم ونتفهّم ونستوعب حقيقة أن تبادر شعوب وحكومات دول تتبنى نهجًا ثوريًا تحرريًا معاديًا للغرب إلى أي ممارسات داعمة ومساندة لفلسطين وشعبها المظلوم المضطهد، ولكن أن تكون الولايات المتحدة وأوروبا بقواها الكبيرة هي المنطلق للحراك الطلابي العالمي المساند لفلسطين، فهذا يعد تطورًا دراماتيكيًا مهمًا يستدعي إعادة قراءة المشهد العالمي بالكامل، ويستدعي كذلك استشراف التداعيات المترتبة، أو التي يمكن أن تترتب عليه مستقبلًا، خصوصًا وأن مجمل المؤشرات تؤكد أن مديات الحراك آخذة في التصاعد والاتساع لا التراجع والانحسار.

مع أن موجة القمع الصهيوني التي ترافقت مع معركة “طوفان الأقصى” لم تكن الأولى ضد الشعب الفلسطيني، بل إن للكيان الصهيوني سجلًّا طويلًا حافلًا بشتى الانتهاكات والجرائم المنافية للقوانين والمواثيق الدولية، لكن لم تصل ردود الأفعال العالمية في أي وقت من الأوقات لما وصلت إليه الآن. وهذا ما يعكس حجم الجرائم الصهيونية المروعة من جانب، والبعد العالمي الذي بلغته القضية الفلسطينية ارتباطًا بحقانيتها وقوة وصلابة إرادة أبنائها، من جانب آخر. فضلًا عن كونها باتت جزءًا من محور المقاومة، والذي أصبح ندًا وخصمًا للمحور الأميركي الغربي، يحسب له ألف حساب، لا سيما وأن مساحاته اتسعت، وميادينه تعددت، وأدواته تطورت، ووسائله تنوعت.

ومما لا يختلف عليه اثنان، هو أنه حتى الان، اذا لم يكن الكيان الصهيوني، قد خسر المواجهة العسكرية مع حركة المقاومة الاسلامية الفلسطينية (حماس)، فإنه من دون شك، لم يربحها. وهذا ما تؤكده مجمل الأرقام والحقائق على أرض الواقع. ووفقًا لكل القراءات والتحليلات والتقديرات، مثلت معركة “طوفان الاقصى” ضربة قاصمة للكيان الصهيوني، ربما لم يتلقَّ مثلها منذ تأسيسه. لكن وبحسب ما يدور ويتداول، في الأوساط السياسية ووسائل الإعلام الصهيونية ومراكز الرأي في تل أبيب، فإنّ وقع وأثر الحراك الطلابي العالمي كان أشد وقعًا من نتائج ومعطيات ومخرجات المواجهة العسكرية؛ لأن الأخيرة مساحاتها محددة ومحدودة ونتائجها معلومة وملموسة، بينما الأولى- أي الحراك الطلابي العالمي- مساحاتها وأفاقها مفتوحة ونتائجها وانعكاساتها وتداعياتها غير منظورة.

الأهم من ذلك كله، هو أنه في مقابل مشاركة أعداد من الطلاب الجامعيين من أصول عربية ومسلمة في الحراك الطلابي العالمي في الولايات المتحدة الأميركية وأوربا، هناك أعداد لا يستهان بها من الطلاب الأميركيين وغير الأميركيين الذين ينتمون إلى الديانة اليهودية، كان لهم دور فاعل ومؤثر في ذلك الحراك، انطلاقًا من معاداتهم للصهيونية، وعدّها عقيدة سياسية منحرفة تتضارب مع العقيدة الدينية اليهودية. ولعل ذلك ما رفع مستويات القلق عند أوساط مراكز القرار في “تل أبيب” وجماعات اللوبي الصهيوني – اليهودي في واشنطن وعواصم أخرى. وربما جزء من ذلك القلق يتعلق بمستقبل العلاقات الاستراتيجية بين واشنطن و”تل أبيب”؛ بل بين الأخيرة وعموم العالم الغربي.

العهد الاخباري: عادل الجبوري

 

قد يعجبك ايضا
WP Twitter Auto Publish Powered By : XYZScripts.com