اتقان الإدارة الأمريكية لعبة الجولات التفاوضية
د. عبد الرحمن المختار
يأتي دور الإدارة الأميركية التضليلي في ما يتعلق بالوساطة ولعبة الجولات التفاوضية، منسجما تماما، بل ومتطابقا مع دورها في تهيئة المناخ المناسب لاستكمال فصول جريمة الإبادة الجماعية التي يقترف أفعالها المباشرة جيش كيان الاحتلال والاجرام الصهيوني، بشراكة كاملة من جانب الإدارة الأميركية، تحريضا وتخطيطا وتحشيدا وتغطية ودعما ومساندة ومساعدة، سابقة ومعاصرة ولاحقة لأفعال جريمة الإبادة الجماعية، بحق أبناء الشعب الفلسطيني في قطاع غزة، منذ عشرة أشهر، أتقنت الإدارة الأميركية المجرمة خلالها دورها التضليلي بكل احترافية، هذا الدور المساند والمسوغ والمموه لشراكتها في جريمة الإبادة الجماعية.
فقد عملت الإدارة الأميركية بشكل حثيث على التسويق والترويج لما يجري في قطاع غزة، بأنه حرب بين “إسرائيل “وحماس، وعملت كذلك على الترويج لدور الوسيط الحريص على وقف إطلاق النار، وإطلاق الرهائن المحتجزين لدى فصائل المقاومة، وهي في ذات الوقت من يسعر النار، وهي من يضخ زيت اشتعالها، ومع ان الإدارة الأمريكية هي من يطالب بإطلاق الرهائن، فهي من يعطل إتمام تلك الصفقة، فلماذا تفعل الادرة الأميركية كل ذلك؟ ولماذا كل ذلك التناقض في مواقف هذه الإدارة؟
يبدو للوهلة الأولى أن هناك تناقضا في موقف الإدارة الأميركية، بسبب أدوارها المتعددة، لكن نظرة فاحصة عميقة لهذه الأدوار ستؤدي الى تلاشي ذلك التناقض الظاهري في موقفها الحقيقي، وإن تعدد وتلونت الأدوار التي تؤديها هذه الإدارة، فتلك الأدوار لا تعدو عن كونها تلون خادع للناظر لدورها بسطحية، أما صاحب النظرة العميقة فلن يرى الا لونا واحدا اسودا قاتما موحشا، مجسدا للموقف الحقيقي للإدارة الاميركية المجرمة، وهذا الموقف الذي جسدته وتجسده سلوكيات هذه الإدارة على ارض الواقع على مدى عشرة اشهر انقضت على اقتراف أول فعل من أفعال جريمة الإبادة الجماعية، لتستمر تلك الأفعال وتتابع بشكل يومي وعلى مدار الساعة.
ولا بد لمن لا يزال ينظر لمواقف الإدارة الأميركية ان فيه شي من التناقض، بسبب ما يتراء له من أدوار إيجابية وسلبية، ولا بد أن يستقصي هذا الموقف منذ أول زيارة لبينكن وبايدن الى عاصمة دولة كيان الاحتلال والاجرام الصهيوني، وأن يستحضر كل ما قيل في حينه، ثم يتتبع سلوكيات وأدوار الإدارة الأميركية من ذلك الحين وحتى اليوم، وسوف لن يجد أي تناقض في موقفها، وسيصل الى قناعة تامة، بأن التلون الخادع في أدوار وسلوكيات الإدارة الأميركية، إنما هو من مستلزمات الصورة النهائية لموقفها المعلن، والمتابع المنصف الحصيف صاحب النظرة العميقة لن تخدعه تلك الألوان، وسيرى موقف الإدارة الأميركية على حقيقته من أي زاوية نظر اليه!
ولنتذكر جميعا ما قاله بلينكن أثناء زيارته لكيان الاحتلال والاجرام الصهيوني، عقب عملية طوفان الأقصى، لقد قال بالحرف الواحد أنه زار إسرائيل بصفته مواطنا يهوديا، قبل أن يكون وزيرا لخارجية الإدارة الاميركية! وهذه الصفة التي اختارها بليكن لنفسه يجب أن تكون ملازمة لنظرة المتتبع لأدوار وسلوكيات الإدارة الأميركية، وعليه أن يسقط تلك الصفة على كل سلوك وكل دور يرى أنه يناقض موقف الإدارة الأميركية المعلن سابقا، وسيتمكن من تجاوز حالة الزيف والتضليل الناتجة عن تلون الأدوار والسلوكيات، التي صدرت ولا تزال تصدر عن الإدارة الأميركية بشكل متتابع، وفي ذلك الحين أعلن بلينكن بشكل صريح وواضح أن الإدارة الأميركية ستقف الى جانب إسرائيل في ملاحقتها لمن وصفهم بالإرهابيين والقضاء عليهم.
وذات الموقف عبر عنه رئيس الإدارة الأميركية بايدن الذي جدد في ذلك الحين التأكيد على صهيونيته، وأكد كذلك على التزام إدارته بأمن دولة الكيان الصهيوني، والتزام إدارته بتزويد هذا الكيان المجرم، بكل ما يحتاجه من أسلحة ومعدات عسكرية، تمكنه من الدفاع عن النفس والقضاء على من وصفهم بالإرهابيين، وباستحضار المتابع لموقف رئيس الإدارة الأميركية ووزير خارجيته بلينكن، يمكنه قراءة سلوكيات وأدوار الإدارة الأميركية بكل وضوح، باعتبار أنها تصب جميعها في خدمة ذلك الموقف المعلن في أول زيارة لهما عقب عملية طوفان الأقصى، ومن ثم فإن إمداد الإدارة الأميركية للكيان الصهيوني بعشرات الالاف من أطنان القنابل والصواريخ الفتاكة، والمعدات العسكرية المتطورة، إنما يأتي لترجمة موقفها المعلن بكل وضوح بوقوفها الى جانب الكيان الصهيوني، ويجب فهم تعبيرها ( الوقوف الى جانب إسرائيل) بمعناه الحرفي فهي فعلا الى جانبه بكل إمكانياتها العسكرية، وشواهد الواقع تؤكد ذلك.
ورغم إدراك الإدارة الأميركية أن شحنات الأسلحة الفتاكة التي زودت بها كيان الاحتلال الصهيوني لا تستخدم في تدمير تحصينات عسكرية، ولم تستخدم تحديدا في قتل عسكريين في معسكراتهم ومواقعهم وثكناتهم العسكرية، بل استخدمت ولا تزال تستخدم في تدمير بنية وبنيان غزة، وإبادة سكانها صغارا وكبارا نساء ورجالا، منذ أول فعل من أفعال جريمة الإبادة، ومع ذلك استمر وتتابع تدفق شحنات القنابل والصواريخ، واردفت الإدارة الأميركية شحنات الأسلحة الفتاكة، بمليارات الدولارات، التي صبت في خزينة كيان الاجرام الصهيوني، ولم تكتف بذلك بل استخدمت نفوذها السياسي في مختلف الفعاليات الدولية، لتغطية جريمة الإبادة الجماعية.
ولكل ذلك يجب فهم أدوار الإدارة الأميركية وسلوكياتها في إطار محدد، وهو إرادتها لنتيجة الجريمة عن علم ومعرفة وإصرار وترصد، فالنتيجة المترتبة على استخدام كيان الاحتلال والاجرام الصهيوني للقنابل والصواريخ الأميركية في التدمير الشامل لبنية وبنيان غزة وابادة سكانها، هي نتيجة لا يرغب الكيان الصهيوني تحقيقها بمفرده، بل هي رغبة للإدارة الأميركية بدرجة أولى، ومن ثم فأي مزاعم لهذه الإدارة حول رغبتها ادخال المزيد من المساعدات الإنسانية الى قطاع غزة، أو وقف إطلاق النار، أو اتمام صفقة اطلاق الرهائن، فكل ذلك يندرج ضمن الأدوار التمثيلية المسرحية للإدارة الأميركية، للتغطية على الهدف الحقيقي، الذي جسده موقفها المعلن سابقا، المتمثل في الوقوف الى جانب كيان الاحتلال الصهيوني، وحقه في الدفاع عن النفس والقضاء وُصفوا بالإرهابيين، ووفقا لمعطيات الواقع، فجميع سكان غزة إرهابيين يجب القضاء عليهم صغار وكبارا نساء ورجالا، فجميعهم وفقا لهذا الوصف في دائرة جريمة الابادة الجماعية.
والواضح من سلوكيات الإدارة الأميركية أنه كلما ضاق الخناق على كيان الاحتلال والاجرام الصهيوني، بادرت هذه الإدارة بالإعلان عن جولة جديدة من المفاوضات لتصرف الأنظار، ولتعطل جهود القوى الإقليمية المنصبة على منع الكيان الصهيوني المجرم من الاستمرار في ارتكاب أفعال جريمة الإبادة الجماعية، وبمجرد أن يتحدد موعد الجولة التفاوضية زمانيا ومكانيا، يبادر الكيان الصهيوني الى ارتكاب فعل شنيع من أفعال جريمة الإبادة الجماعية، ليتأكد بذلك الدور التضليلي والغطائي القذر للإدارة الأميركية، ذلك الدور المحفز للنوازع الاجرامية لدى الكيان الصهيوني، الذي يقترف أفعال جريمة الإبادة الجماعية استنادا الى تلك الادوار.
كيف لا ووزير خارجية الإدارة الأميركية الصهيوني بليكن يبدأ جولاته المكوكية دائما بزيارة عاصمة هذا الكيان، وأول تصريح يطلقه عقب وصوله هو التأكيد على التزام إدارته بأمن الكيان الصهيوني، كيف لا تحفز أدوار الإدارة الأميركية النوازع الاجرامية لدى هذا الكيان المسخ؟ وكيف لا يعتمد عليها في اقتراف أفعال جريمته المستمرة والمتتابعة، منذ عشرة أشهر ورئيس الإدارة الأميركية يردد باستمرار التزام إدارته بالدفاع عن هذا الكيان المجرم في مواجهة أي مخاطر إقليمية؟ فإلى متى ستتقبل الشعوب العربية زيف وتضليل الإدارة الأميركية؟ والى متى ستضل وسائل الاعلام العربية تؤدي دور المخدر لشعوب الامة لتواصل سباتها العميق؟ وفي ذات الوقت تخدم الإدارة الأميركية، التي تستمر في إضافة فصول جديدة لإبادة الشعب الفلسطيني في قطاع غزة!