سياسة النقطة العمياء
موقع أنصار الله ||مقالات || عماد الحطبة
في تعليق لأحد المسؤولين العسكريين الصهاينة على عمليات المقاومة الإسلامية اللبنانية في شمالي فلسطين، قال: استطاع حزب اللّه اكتشاف نقطة عمياء في الدفاعات الجوية الإسرائيلية، وهو يستخدمها للمرور نحو أهدافه.
قبل هذا التصريح، سمعنا من خبراء ومحللين عسكريين أن حزب اللّه يعتمد خطة عسكرية اسمها «فَقْء الأعين»، تقوم على تدمير مراكز المراقبة والتجسس الصهيونية في شمالي فلسطين، ليحدّ قدرة العدو على مراقبة تحركاته على الأرض، ويمنح الفرصة لصواريخه ومسيراته في الوصول إلى أهدافها.
بعد التصريح، سمعنا خطاب السيد حسن نصر اللّه، الذي شرح فيه الخطة العملياتية التي اعتمدها الحزب في رده على عملية اغتيال الشهيد فؤاد شكر. كانت الخطة محكَمة عسكرياً، ومكّنت المسيرات من بلوغ هدفها في قاعدة غاليلوت وقتل من كانوا فيها. لقد تمكنت المقاومة من إصابة الكيان الصهيوني عن بكرة أبيه، وليس نقطة معينة، بالعمى العسكري، لتصبح أجواء فلسطين شبه مفتوحة لأسلحة حزب اللّه في حال تجرأ الكيان على توسيع المعركة.
لم يكن العمى العسكري الإنجاز الوحيد للمقاومة، بل صاحبه العمى السياسي، الذي لا يقل أهمية، بل لعله أكثر أهمية على المستوى الاستراتيجي. عندما قرر العدو اغتيال الشهيدين إسماعيل هنية وفؤاد شكر، كان يعلم يقيناً بأن حزب الله وإيران سيردان بقوة، لذلك كان من البديهي الافتراض أنه أعد خطة للرد على الرد.
لقد ذهب بعض المراقبين الغربيين إلى تفسير تأخر رد حزب الله وإيران بسبب «خشيتهما» من الرد الإسرائيلي، والذي يمكن أن يذهب بالمنطقة إلى حرب واسعة، ووصلوا إلى نتيجة مفادها أن «إسرائيل» وصلت إلى الردع المطلوب في جبهة الشمال، وأصبح في إمكانها التفرغ للقضاء على المقاومة في غزّة.
جاء الرد في توقيت يحمل مغزى عسكرياً وأمنياً. وصلت مسيّرات المقاومة إلى محيط «تل أبيب»، وإلى قاعدة استخبارات سرية معنية بالعمليات الخاصة، وفي أثناء اجتماع قياداتها.
هل كان يعلم حزب الله بموعد الاجتماع؟ سؤال سوف يؤرّق مضاجع الأجهزة الاستخبارية الغربية لأعوام. الأهم أن وصول المسيرات إلى هذا العمق، وإصابة الهدف بهذه الدقة، يعنيان أن أي رد انفعالي من الكيان يمكن أن يعرضه لضربات قاصمة، فما عليه سوى حبك رواية لا تنطلي على أحد بشأن تدمير آلاف المنصات والمسيرات، ثم الركون إلى الصمت. لقد انقلبت صورة الردع، وظهرت القيادتان العسكرية والسياسية للعدو في حالة ارتباك، وأن قرارتهما تُتخذ بناء على شهوة الدم، وليس التقدير الملائم للظروف السياسية والعسكرية.
في الجانب الآخر، كان اغتيال القائد الشهيد إسماعيل هنية محاولة من العدو للضغط على كل من حماس وإيران لقبول شروطه في محادثات وقف إطلاق النار.
لهذا السبب، سارع العدو إلى إرسال وفده إلى الدوحة في اليوم نفسه ليحصد نتائج عملية الاغتيال. لكن الفشل كان من نصيب مخططاته مرةً أخرى.
غاب وفد المقاومة عن جولة المحادثات، وأعلن تمسكه بورقة الـ2 من يوليو أساساً لقبول وقف إطلاق النار، وفي الوقت نفسه أعلنت إيران تمسكها بحقها بالرد الملائم، وأبلغت مجلس الأمن الدولي ووزيري خارجيتي بريطانيا وفرنسا هذا الأمر، ثم أتى تصريح القيادي في حركة حماس، خليل الحيّة، بشأن استعداد إيران لقبول ما تقبله المقاومة الفلسطينية من شروط لوقف النار، ليتحول الرد الإيراني إلى سلاح في يد المقاومة تمارس به الضغط على جميع الأطراف المؤيدة للعدو.
مرة أخرى، أثبت المستوى السياسي الصهيوني، الذي اتخذ قرار اغتيال الشهيد إسماعيل هنيّة، عجزه وفشله في قراءة خريطة المتغيرات السياسية التي نتجت من عملية طوفان الأقصى، وما تلاها من توحيد لجبهات الإسناد.
لقد وجد المفاوض الصهيوني نفسه محشوراً في زاوية القبول، وتلاشت اللغة المتشددة، التي كان يتشدق بها نتنياهو وبن غفير، وبدلاً من البقاء في محوري نتساريم وفيلادلفيا قبِلَ وجود قوات في هذين المحورين، وقَبِلَ وجود قوات دولية في معبر رفح، وكلها شروط يعلم تماماً بأنه سيضطر إلى التراجع عنها والرضوخ لشروط المقاومة.
في ظل الفشل المتكرر، التفت العدو إلى الضفة الغربية، وشن أكبر عملية له فيها منذ عملية «السور الواقي» عام 2002، والتي ارتكب خلالها مجزرة داخل مخيم جنين. العملية التي تجري في ثلاثة محاور (جنين، طولكرم، شمالي غور الأردن) تبحث عن تحقيق نصر ما، يداري سوأة الفشل المتكرر في جميع الجبهات. تشير المعلومات الصحافية إلى أن «جيش» العدو يخطط إجلاءَ الفلسطينيين عن مناطق القتال، وهو ما أكده وزير الخارجية الصهيوني، يسرائيل كاتس، الذي دعا إلى إجلاء السكان الفلسطينيين على غرار ما يحدث في غزّة، وأكد أنها «حرب على كل شيء، وعلينا أن ننتصر فيها».
«إسرائيل» العمياء ما زالت تحاول إنكار الهزيمة التي لحقت بها، فتمعن في الإجرام وارتكاب المجازر، وتهدد الأردن الذي تتهمه بمرور الأسلحة الإيرانية عبر حدوده في محاولة لتبرير دفع الفلسطينيين المهجرين من مناطق قريبة من الحدود الأردنية لعبورها، وخصوصاً أن عدداً كبيراً من سكان الضفة الغربية يحمل جوازات سفر اردنية.
المعركة مع العدو مستمرة، وهو لا يفرّق بين خصم وحليف. اليمين الصهيوني، المهووس بفكرة وصوله إلى الحكم، يبحث عن تفريغ الأرض بكل الوسائل. إذا كان عدوّنا يرانا خصماً واحداً، فعلينا أن نتكاتف في وجهه كعدو واحد لنا جميعاً.
إن إغلاق نقاط العبور بين الأردن وفلسطين أمام عبور الحالات غير الطارئة، وأمام البضائع والحركة التجارية الداخلة للكيان، سيكون له أثر لا يقل عن الفعل العسكري لمحور المقاومة. العدو في أضعف حالاته، يتخبط في ظلام الفشل، ولن يمنحنا التاريخ فرصاً كثيرة لنسدد ضرباتنا إلى مقتله، كما يمكن أن نفعل اليوم.
كاتب سياسي أردني