السيّد نصرالله: خطاب اليقين والبأس

||صحافة||

لم تنل من كبريائه، ولم تفلّ من عزيمته تلك الجريمة الإرهابية الغادرة التي استهدفت أبناءه وبيئته، بما فيها من الأطفال والنساء، وعلى الرغم من حجمها الكبير، وهول ما أراده العدو من خلالها من إرهاب وإبادة ومجازر تصل إلى حدّ إعلان حرب، فقد أطلّ سماحة السيّد على جمهور المقاومة قوياً صابراً محتسباً مهيباً متيقناً مؤمناً ليعيد برمجة القلوب والعقول التي حاول العدو استهدافها بواسطة التكنولوجيا الخبيثة والمتطورة التي يمتلكها، وهو كما وصفه السيّد “أحمق وغبي لا يفهم البعد المعنوي لهذه البيئة”، وأنّى للشياطين أن تعي ما تحمله القلوب المؤمنة التي أغشتها أنوار الفداء على مرّ السنين والأيام من كربلاء إلى يومنا هذا.

وبالولوج إلى خطاب السيد نصر الله بالأمس والذي خصصه للحديث عن جريمة الكيان “الإسرائيلي” التي استهدفت لبنان يومي الثلاثاء والأربعاء من خلال تفجير أجهزة “البيجر” وأجهزة اللا سلكي، فإنه يمكن لنا تقسيم الخطاب إلى ستة محاور، خمسة منها تناولها سماحته بتفصيل وتبيان، وواحد بقي خفياً يمكن لنا استنباطه من سياق الخطاب .

 

المحور الأول:

تناول السيد الطبيعة الإجرامية والإرهابية للعدو والتي ظهرت من خلال هذا العمل الإجرامي، ووصفه بالعملية الإرهابية الكبرى، وبالإبادة والمجزرة، وأنه يصل إلى مرتبة إعلان حرب، وظهر ذلك جلياً من خلال عشرات الشهداء من بينهم نساء وأطفال، و آلاف الإصابات، وأوضح السيد بأن العدو تعمّد تفجير أجهزة “البيجر” واللا سلكي لقتل 5000 شخص في يومين وبدقيقة واحدة لكل يوم دون الاكتراث بأي شيء، وعليه فإنه على العالم أجمع أن يعي الطبيعة العدوانية وحدّ الإجرام والإرهاب الذي وصل إليه الكيان “الإسرائيلي”، وأنه بات يشكل خطراً ليس على الفلسطينيين والمنطقة فقط، بل على العالم أجمع، وخاصة أنه تحوّل إلى استخدام التكنولوجيا التي من المفترض ان تسخر لرفاهية وخدمة البشرية إلى سلاح فتاك وأداة إرهاب وقتل جماعي.

 

المحور الثاني: 

تناول السيد في هذا المحور النتائج الحقيقية لهذه الجريمة بعيداً عن التضخيم والتهويل بالرغم من حجمها الكبير، وذلك لجهة ما خطط له العدو، حيث أكد سماحته أن مخطط العدو الرامي لقتل 5000 إنسان قد تمّ تعطيل جزء كبير منه، وأوضح العوامل التي ساهمت في تعطيل هذا المخطط، وأهمها الجهود البشرية واللهفة والهمة العالية من قبل الناس والتي أسهمت في التقليل من الإصابات الخطرة، وأن عدداً من البيجرات كان خارج الخدمة أو بعيد أو لم يتم توزيعه.

وأثنى سماحته على الوعي الجمعي للبيئة الحاضنة على وجه الخصوص، وللشعب اللبناني على وجه العموم، وعلى التفاف الأغلبية حول خيار المقاومة وعلى الطبيعة الإنسانية الخيرة لهذه البيئة في مواجهة الطبيعة الشريرة للكيان.

 

المحور الثالث:

خصص السيد هذا المحور للحديث عن التحقيقات التي تجريها أو أجرتها المقاومة، إذ أوضح أنه جرى تشكيل لجان تحقيق داخلية متعددة، وأن جميع الفرضيات والسيناريوهات والاحتمالات تجري دراستها، وأن التحقيق يشمل مجمل الملف من المنتج إلى المستهلك إلى لحظة التفجير، وأكد سماحته أن التحقيقات وصلت لنتيجة شبه قطعية، لكنه لم يكشف عنها.

يريد السيد طمأنة الناس إلى أن الملف بكامله في أيدي أمينة، وإلى أنه لا داعي للقلق والانسياق خلف الشائعات والحرب النفسية المضللة، والتي تتولى وسائل الإعلام التي تدور في فلك أجهزة المخابرات “الإسرائيلية” والغربية ترويجها للتخويف والتضليل، وبمعنى آخر يريد السيد أن يقول للناس، إن الحادثة بعينها قد انتهت طالما أننا وضعنا يدنا على كامل تفاصيلها.

 

المحور الرابع:

تحدث السيد في هذا المحور عن التأثيرات والمخاطر الحقيقية لهذه الضربة الكبيرة في المقاومة على وجه العموم، مؤكدًا احتوائها والاستفادة منها والبناء عليها لتعزيز قوة وقدرة المقاومة.

حيث أكد سماحته أن الضربة كانت قاسية وكبيرة أمنياً وإنسانياً وغير مسبوقة في تاريخ الصراع، وربما تعمّد السيد إظهار ذلك ليؤكد على حق المقاومة بردّ يوازي بحجمه وربما طبيعته ما أقدم عليه العدو.

ثم أوضح سماحته بأن امتلاك العدو للتكنولوجيا المتطورة يقابله الجهد والجهاد والاستنزاف الذي حقق انتصارات عدة، وهو بذلك يريد التأكيد بأن تفوق العدو تكنولوجياً لا يسقط صحة رهانات المقاومة وجدواها وصوابيتها وقدرتها على تحقيق الانتصار.

أما الأهم في هذا المحور كان تأكيد السيد أن المقاومة ستتجاوز ما جرى بشموخ، وأن تلك الضربة لن تسقطها، بل ستصبح المقاومة أشد صلابة وعزماً وعوداً، وهذا تأكيد من سماحته على أن المقاومة تمكنت من احتواء الضربة الكبيرة، وأنها الآن في مرحلة تجاوز ما جرى والانتقال إلى مرحلة الاستفادة منه لتعزيز القوة والقدرة والتحصين، وبمعنى آخر يريد السيد القول، إننا تمكنا من تجاوز أكبر خطر يمكن أن نتعرض له وهذا نجاح يبنى عليه لقادم الأيام .

 

المحور الخامس:

تضمن هذا المحور الخلفيات والأهداف التي دفعت بالكيان “الإسرائيلي” للقيام بهذه الجريمة، والفشل الذي مني به، حيث تناول السيد أربعة أهداف للعدو أراد تحقيقها من هذه الضربة وهي:

أولاً؛ وقف العمليات التي تنفذها جبهة الإسناد اللبنانية، حيث عرض السيد الفاعلية الاستثنائية لهذه الجبهة باعتراف العدو على اعتبار أن نتائج عملياتها تمثل أول هزيمة تاريخية لـ”إسرائيل”، خاصة أن العدو اعترف بخسارة الشمال، وأن هذه الجبهة تعتبر أهم جبهات الاستنزاف للكيان، وبالتالي تشكل أهم أوراق التفاوض التي تمتلكها المقاومة الفلسطينية لوقف العدوان على غزة، وبالتالي فإن العدو أراد تحييد هذه الجبهة، وأتبع جريمته برسائل التهديد عبر قنوات رسمية وغير رسمية.

لا شك أن سماحة السيد كان حاسماً في إسقاط هذا الهدف، عندما قال، إن جبهة لبنان لن تتوقف حتى يتوقف العدوان على غزة والضفة مهما بلغت التضحيات والعواقب.

وأيضاً في ردّ سماحته معنىً آخر يتعلق بتثبيت معادلات الاشتباك والردع الجديدة والتي باتت “إسرائيل” تخشاها وتريد كسرها، ونقصد بها أن جبهة لبنان باتت جبهة دائمة لدعم غزة والضفة ومرتبطة بها اليوم وغدًا ولا حرب بعد اليوم في فلسطين المحتلة بدونها.

ثانياً؛ ضرب البيئة الحاضنة، فقد ظن العدو واهماً أن جريمة إرهابية بهذا الحجم ستستنزف بيئة المقاومة وتخضعها وتدفعها لتصرخ في وجه المقاومة.

وأما دلائل فشل “الإسرائيلي” في تحقيق هذا الهدف كما أوضح السيد فقد ظهرت من خلال تصريحات الجرحى، وتصريحات عوائل الشهداء، واحتسابهم وصبرهم و عزيمتهم واستعدادهم للعودة إلى الميدان، وكذلك من خلال التضامن الذي أظهره اللبنانيون بمختلف طوائفهم، وهو ما أثنى عليه السيد وحث على الحفاظ عليه، وحذر التافهين من المساس به.

ثالثاً؛ تدمير بنية المقاومة، وهو ما كان ينتظره العدو معتقداً أن الضربة ستؤدي إلى ضرب نظم القيادة والسيطرة لديها، واستهداف أكبر عدد من القادة، وإحداث الفوضى والضعف.

أكد سماحة السيد جازماً ومطمئناً إلى أن بنية المقاومة لم يمسها ضعف للحظة واحدة، وأن المقاومة كانت جاهزة لأي سيناريو على الجبهة، ورمى الخيبة والفشل في وجه العدو عندما أكد بأن بنية المقاومة من القوة والمتانة والعدة والعديد والتماسك ما لا تهزه جريمة كبرى بهذا الحجم.

كلام السيد حمل رسائل تطمين لجمهور المقاومة، ورسائل يقين وثقة بالمقاومين والقادة، وببنية وهيكل المقاومة، وأنها عصية على المخاطر مهما عظمت، ورسالة إعجاز وإحباط للعدو وقادته، مع التأكيد على صلابة بنية المقاومة وقدرتها على احتواء وامتصاص الضربات والهجمات الكبرى بما فيها تلك التي يتفوق فيها العدو تكنولوجياً.

الهدف الرابع؛ كما قال السيد فهذا الهدف متفاوت بين توسيع أهداف الحرب وإعادة المستوطنين للشمال، وفي كلتا الحالتين فالسيد أعلنها صراحة بأن أي محاولة لتنفيذ ذلك سواء من خلال مقترح إنشاء حزام امني، أو إعادة المستوطنين الهاربين للشمال بالقوة، لن تحصد “إسرائيل” منه إلا الخيبة، وأن الحزب يعتبر هذا المقترح بمنزلة فرصة تاريخية ستغير مجريات المعركة، وأن على العدو أن يعلم أن الحزام الأمني سيتحول لفخ ووحل وكمين وسيواجه بحساب عسير ينتظره المقاومون بفارغ الصبر .

ومرة أخرى رمى السيد بورقة الفشل في وجه نتنياهو ووزير حربه عندما حسم ملف إعادة المستوطنين إلى الشمال بوقف العدوان على غزة و الضفة الغربية كسبيل وحيد .

 

المحور السادس :

في هذا المحور نتناول ما لم يقله السيد، ولم يأتِ على ذكره صراحةً، ونقصد به الدور الأميركي المفترض في الجريمة الإرهابية، فعلى الرغم من نفي واشنطن علمها أو دورها في تلك الجريمة، فالقاصي والداني بات يعلم أن واشنطن هي من تدير الحرب في الحقيقة، أو على الأقل تشارك “إسرائيل” في كل جرائمها .

لعل السيد تعمد عدم توجيه الاتهام صراحة لواشنطن، لأنه لا يريد توسيع الصراع، وهو بذلك يسحب من واشنطن ذريعة التدخل عند تنفيذ الحساب العسير الذي وعد به، وربما أراد من ذلك إيصال رسالة لواشنطن؛ مفادها ” سننتقم من حليفكم “الإسرائيلي” أشد انتقام بأنفسنا، و إن دخلتم على خط إسناده فلدينا جبهات إسناد تتولى التعامل معكم، لذلك من الأفضل لكم أن تتنحوا جانباً” ، وربما كان حديث سماحته عن خراب الهيكل الثالث يشكل دعوة لواشنطن للتخلص سريعًا من الحمقى والمجرمين الذين يحكمون “تل أبيب” وعلى رأسهم نتنياهو وغالانت وبن غفير وسموتريتش ..

أخيراً؛ نختم بما ختم به السيد “العدوان الذي حصل كبير وغير مسبوق، وسيواجه بحساب عسير وقصاص عادل، من حيث يحتسب و من حيث لا يحتسب، وبالنسبة للحساب العسير فالخبر في ما سترونه لا في ما ستسمعونه”.

 

العهد الاخباري: حيان نيوف

 

قد يعجبك ايضا
WP Twitter Auto Publish Powered By : XYZScripts.com