عام على الطوفان.. ظهور مقدمات وملامح نهاية الكيان المؤقت!
عادل الجبوري
منذ تأسيسه في الخامس عشر من شهر أيار/مايو من عام 1948، خاض الكيان الصهيوني عدة حروب ومعارك مع العرب، وكانت مجمل تلك المعارك والحروب خاطفة وسريعة، لا تدوم سوى بضعة أيام أو أسابيع قلائل، سواء كان ذلك الكيان رابحًا فيها أو خاسرًا.
ولأسباب وعوامل وظروف جيوسياسية وأمنية ومجتمعية مختلفة، لم يعرف عن الكيان الصهيوني قدرته على خوض حروب استنزافية طويلة الأمد، وربما أدرك مؤسسوه وأصحاب القرار فيه منذ وقت مبكر، أن الدخول في حروب ومعارك عسكرية طويلة، قد تشكل بدايات ومقدمات تفككه وتشظيه وانهياره، رغم الدعم والإسناد الهائل له من قبل العالم الغربي، والخنوع والخضوع والانهزام من أغلب العالم العربي.
وغالبًا ما كان كبار ساسة وعسكر الكيان الصهيوني يبحثون عن الخيارات التفاوضية السلمية، حتى وإن كانت زمام الأمور في الميدان بأيديهم، لأنهم على قناعة تامة بأن أي مطاولة عسكرية ستفرز عواقب وخيمة عليهم، ولن تؤدي في كل الأحوال إلى هزيمة أو استسلام أو تراجع عدوهم، فلسطينياً كان أم لبنانيًا، ولعل التجربة-أو التجارب المتلاحقة-مع حركة المقاومة الفلسطينية(حماس)، وحركة الجهاد الإسلامي، وكذلك مع حزب الله اللبناني، خير شاهد ودليل.
ولكي تكون الصورة واضحة، والكلام دقيقاً وموضوعياً، فإن التوقف عند حرب غزة التي اندلعت شرارتها الأولى في السابع من تشرين الأول-أكتوبر من العام الماضي، يمكن أن تكون مثالاً شاخصًا على عمق مأزق الكيان الصهيوني. فتلك الحرب التي كان مفترضًا ومخططًا لها أن تحسم خلال وقت قصير لصالح “تل أبيب”، طالت شهوراً وشهوراً، وباتت على أبواب ذكراها السنوية الأولى. ليس هذا فحسب، بل إن الكيان الغاصب وجد نفسه يقاتل على عدة جبهات في الجنوب والشمال، فضلاً عن جبهات أخرى قد تبدو بعيدة نوعًا ما، بيد أنها فاعلة ومؤثرة، كالجبهة اليمينة، والجبهة العراقية.
خسائر الكيان الصهيوني وانكساراته العسكرية والسياسية والمجتمعية، تبدو في هذه المرحلة واضحة إلى أقصى الحدود، ولم يعد هناك من يمتلك القدرة على التغطية على تلك الحقيقة المرّة والمرعبة لصناع القرار في “تل أبيب” وفي عواصم أخرى حليفة وصديقة، مثل واشنطن ولندن وباريس وغيرها.
الانقسامات السياسية الحادة بين كبار القادة السياسيين والعسكريين والأمنيين، لم تعد محصورة في الغرفة المغلقة والكواليس السرية، بل إنها باتت حديث الشارع ووسائل الإعلام في داخل الكيان وخارجه، والسجالات بين نتنياهو ووزير حربه يوآف غالانت، وصلت إلى أبعد الحدود.
والتشظي المجتمعي راح يتسع ويتمدد، خصوصًا من بعض الجماعات الدينية كـ”الحريديم” التي وجدت أن نيران الحرب أصبحت قريبة جدًا من أذيالها، ناهيك عن ذوي الرهائن والأسرى الذين وصلوا إلى قناعة تامة، بأن نتنياهو غير مهتم بمصير أبنائهم القابعين في سجون حركة حماس بقدر اهتمامه بمصيره وموقعه ومستقبله السياسي. ومن لم يفهم ويدرك حقيقة ومستوى التشظي المجتمعي داخل الكيان الصهيوني، ما عليه إلا أن يشاهد ويراقب ويتأمل في التظاهرات الحاشدة في شوارع “تل أبيب” وحول مقر رئاسة الوزراء تحديدًا، وما طبيعة الشعارات التي يرفعها المتظاهرون. ناهيك عن التظاهرات والاحتجاجات الطلابية العالمية التي اجتاحت مختلف الجامعات الأميركية والأوربية، وانطوت على رسائل بالغة الأهمية عن الحقائق والمعطيات الجديدة في مواقف الرأي العام الغربي حيال “تل أبيب”.
هذا من جانب، ومن جانب آخر، ربما لا يعرف الكثيرون أن الكيان الصهيوني لم يتكبد طيلة ستة وسبعين عاماً خسائر مالية كالتي تكبدها بصورة مباشرة وغير مباشرة جراء حرب غزة، فهناك متطلبات الحرب العسكرية من أسلحة وأعتدة ومؤن مختلفة، وهناك تعطل حركة المطارات والموانئ، وهناك كساد الأسواق والبورصات، وجمود عمل مئات الشركات. وقد بلغ “الشيكل”- وهو عملة التداول الرئيسة في الكيان الصهيوني-أدنى مستوياته مؤخراً بفعل تبعات وتداعيات حرب غزة الكارثية.
أضف إلى ذلك، أخذ الكيان الصهيوني، شيئًا فشيئًا يفقد دعم حلفائه وأصدقائه الإستراتيجيين، بعدما أدركوا ان سياسة نتنياهو وفريقه الحاكم، أصبحت تهدد مصالحهم وتحرجهم، وتظهر الكثير من عجزهم وفشلهم في إدارة الموقف بأقل قدر من الخسائر، وهذا ما ينطبق على الولايات المتحدة الأميركية بالدرجة الأساس. ناهيك عن أن مشاريع التطبيع أمست في مهب الريح تقريبًا، بحيث لم يعد بإمكان من كان يروج لها ويتبناها بالأمس، أن يتحدث عنها اليوم. علمًا أن الكيان الصهيوني كان قد تلقى ضربات قاصمة في الساحة الدولية، من قبيل قرار محكمة العدل الدولية-أكبر هيئة قضائية تابعة لمنظمة الأمم المتحدة-الذي صدر منتصف شهر أيار-مايو الماضي، وألزم الكيان الصهيوني بإيقاف هجومه على مدينة رفح جنوب قطاع غزة، بناء على الدعوى التي رفعتها دولة جنوب أفريقيا، واتهمت فيها “تل أبيب” بارتكاب جرائم إبادة جماعية في القطاع.
وقبل ذلك بوقت قصير، كانت كل من النرويج وأيرلندا وإسبانيا قد أعلنت اعترافها بدولة فلسطين، في خطوة شكلت صدمة كبيرة جدًا لـ”تل أبيب”، لا سيما وأنها جاءت من دول تعد جزءًا من المنظومة الغربية التي غالبًا ما عرف عنها تعاطفها مع “إسرائيل”، وصمتها عن الكثير من جرائمها وانتهاكاتها للقوانين والمواثيق الدولية، وفي ما بعد، وتحديدًا في الثامن عشر من شهر أيلول-سبتمبر الجاري، فإن الجمعية العامة للأمم المتحدة أصدرت قرارًا بأغلبية أعضائها (128 دولة)، يلزم الكيان الصهيوني بإنهاء وجوده غير القانوني في الأرض الفلسطينية المحتلة خلال 12 شهرًا، “بناء على فتوى طلبتها الجمعية العامة من محكمة العدل الدولية بشأن الآثار القانونية لسياسات إسرائيل وممارستها في فلسطين”.
إن الحديث عن خطورة الأمور في الكيان الصهيوني، ومؤشرات انهياره وتفككه وتشظيه، بفعل العوامل والظروف المشار إليها وغيرها، لم يعد مقتصراً على وسائل الإعلام والمنابر السياسية المعادية له في إيران ولبنان وفلسطين وسورية والعراق وغيرها، بل إن وسائل الإعلام الصهيونية الواسعة الانتشار، وكذلك الغربية، من صحف، وقنوات فضائية، ووكالات إخبارية، ومراكز دراسات وأبحاث، وشخصيات سياسية وأمنية وأكاديمية مهمة، أصبحت تتحدث بكل وضوح وصراحة عن حقيقة الواقع، وما يمكن أن تؤول إليه الأوضاع فيوما إذا واصل ساسة “تل أبيب” نهجهم العدواني الدموي.
ولعل صحيفة “واشنطن بوست” الأميركية لم تذهب بعيداً، إن لم تكن قد شخصت الواقع بدقة، حينما قالت في أحد أعدادها الصادرة قبل أربعة شهور، “إن اسرائيل وقياداتها السياسية، باتت معزولة ومحاصرة في الساحة العالمية، وإن هذه العزلة، راحت تتعمق وسط تحديات قانونية مختلفة، وتحوّل في الرأي العام العالمي”.
والواضح بعد نحو عام كامل على انطلاق معركة “طوفان الأقصى”، أن النهايات وإن لم تكن قريبة، فإنها لن تأتي كما يريد ويطمح بنيامين نتنياهو ورفاقه. فجزء من تلك النهايات قد تكون نهاية الأخير بصورة سيئة جداً بالنسبة له، وقد تكون مزيداً من التصدعات والاهتزازات والانقسامات السياسية والمجتمعية الكبيرة والخطيرة في الداخل “الإسرائيلي”، فضلاً عن الانكفاء والانعزال في مساحات كان ساسة “تل أبيب” يعدونها في متناول اليد متى ما قرروا الوصول إليها وإشغالها.
والحقيقة المحورية والمهمة، هي أن الكيان الصهيوني وإن حاول الظهور بمظهر المنتشي والمنتصر مؤخرًا محتفيًا ببعض النجاحات التكتيكية البديهية كونها ناجمة عن مده بكل أشكال الدعم والتفوق الغربي التكنولوجي والمعلوماتي، فهو ينازع ويحتضر على المستوى الاستراتيجي والوجودي ويغرق أكثر فأكثر في مستنقع الهزيمة الذي لا يمكنه الخروج منه والذي سيؤسس لزوال كيانه بإذن الله..