بين “أسهم الشمال” و”الحساب المفتوح” تبرز مشهديّة الحرب الوجوديّة

|| صحافة ||

استدرجت “إسرائيل” كرة الحرب إلى المنطقة، لأنها تعاني لازمة انعدام الوزن في أمنها ووجودها، ولأنّها مفتونة بالبطش والإجرام، مستمدّة قدراتها من الناتو بأحدث أدوات القتل، وتمثّل همجيّة الغرب المتوحّش في بناه الفكريّة وقيمه غير الأخلاقيّة وممارساته العمليّة تجاه كل “الأغيار”، وتؤدّي دورها في تحقيق مآرب السيطرة والاستحواذ. عبثًا تحاول “إسرائيل” إعادة إنتاج صورتها وذاكرتها التاريخيّة بترميم تصدّعها العميق الذي حفره السابع من تشرين الأوّل من العام الماضي، عبر إطلاق حملتها العدوانيّة على إيران بوصفها مركز الثقل الفعليّ والمرجعيّ الأكبر لجبهة المقاومة.

تسلسلت الخطوات العدوانيّة التصعيديّة وفقًا لخطّها المقدّر سلفًا من غزّة إلى رفح ثم الضفّة فلبنان، وشكّل الخطاب العدوانيّ لـ”نتنياهو” والتصفيق له في الكونغرس الأميركيّ لحظة افتتاح مرحلة جديدة من حروبها “غير المحدودة” إلّا بوظائفيّة التدرّج الغادر والمتسارع في العدوان، وها هي تفتتح حسابًا جديدًا مع إيران واليمن.

لقد جرى اختزال الرأي العام الدوليّ بصلف وتواطؤ معهود، بمؤسّساته ومراكز قواه كلها، وجرى توجيهه بعد تهيئة مسرح الجرائم والإبادة والتهجير والاغتيال، لقد اعتادت الأعين رؤية الإنسانيّة تذبح بسيف الأرقام.

من المفيد التذكير أن “إسرائيل” ترمي الذرائع ثم تبادر إلى تنفيذ مخطّطاتها على توافق تام مع الولايات المتّحدة الأميركيّة، وهي بذلك وبعمليّات اغتيال القادة المستمرّة، شيّدت مرحلة الانتقال من المعركة على النقاط وإعادة إنتاج موازين القوى إلى مشهديّة الحرب على الوجود والقضاء على جبهة المقاومة. ولكن غاب عن قوى الهيمنة العالميّة أن جبهة المقاومة تستند إلى أصولها الإيمانيّة الصلبة في العقيدة وإلى جذورها المتينة في الأرض وإلى روابطها الوثيقة مع الناس، أفرادًا وجماعات ومجتمعات. غاب عن تلك القوى المستكبرة أن العلاقات بين مكوّنات جبهة المقاومة ليست مصلحيّة حتى تناقش على طاولة المفاوضات، بل السياسة والدبلوماسيّة في خدمة المقاومة.

كما غاب عن قوى الهيمنة العالميّة أنها لن تستطيع أن تكتب التاريخ بكيان مؤقّت، ولا أن ترسم الجغرافيا بهدير طائراتها وأطنان صواريخها التدميريّة السامة، فالمشاة هم أرباب الميدان، والحرب غير التناظريّة في البرّ لها كلمة الفصل، كما أن المقاومة لمّا تستعمل كامل أوراقها متوسّطة وبعيدة المدى بعد.

الساعات والليالي والأيّام القادمة ستكشف بوضوح تتضافر الإرادات في جبهة المقاومة بما يحقّق التكامل بين مكوّناتها، بكل ما استطاعت إلى ذلك سبيلًا، وبما يدفع الضرر عن كلّ ما يمكن صيانته عنه، لا بما ينشر الخراب ويعمّمه من دون جدوى أو رؤية أو خطّة.

تثبت التجربة في محضر جبهة المقاومة أنه لا يوجد إشكاليّة التزاحم بين دفع الضرر وجلب المصلحة عند أي مكوّن من مكوّنات جبهة المقاومة دولًا وحركات؛ بل يوجد منهجيّة الحضور المناسب مواردًا وإدارةً وإسنادًا وتلبية كلّ ما يتطلّبه سير المواجهة لأهل الأرض المدافعين عنها وفقًا لما تنشده الجبهة لا بما يحلو لأهل الرغبات من بعد، ومن دون حرق المراحل أو استنزاف القدرات وإنهاك الجهود. فجبهة المقاومة تعالج اختلال موازين القوى على طريقتها في الكفاح الاستراتيجيّ ومن أعمدته الصبر ومراكمة القدرة وتفعيل العمليّات الناجعة لا انتهاج سبيل شعبويّ لا أفق فيه ولا حكمة.

لذلك تعمد”جبهة المقاومة” إلى استيعاب الجرائم العدوانيّة كافة وعمليّات الاغتيال وترميم الثغرات بشريًّا وماديًّا ومعنويًّا وبنيويًّا في مختلف الجبهات والاستعداد الصارم لأسوأ الأسوأ ولتوسّع الدائرة إلى أماكن وهيكليّات جديدة، لا سيّما في اليمن وإيران من دون الغفلة عن أهداف العدو في العراق وسورية؛ أمّا فلسطين ولبنان لن تنضب كنوزهما في إذلال “إسرائيل” وتكبيدها الخسائر تلو الخسائر، وفي المراكمة على الإنجازات بالمفاجآت.

كما تنتهج جبهة المقاومة التفاعل الملائم مع منهجيّة العدو القائمة على انعدام أي محظور ومحذور لديه تجاه أي هدف نتيجة قراره في تصفية المقاومة وجوديّا فضلًا عن طموحه في سلبها إرادة القتال. و”لا يوجد عند العدو أي محرّمات مطلقًا في إجرامه”، نعم يوجد لديه تفضيلات في الأهداف؛ لكنها تخضع للذكاء والغباء الاصطناعيّ في آن، ومن هنا قد لا تكون مضبوطة وفقًا لقياسات منطقيّة دائمًا نتيجة جموحه الواعي بارتكاب الإبادة.

لقد فرضت الأحداث الأخيرة، من مجزرة البيجيرات إلى اغتيال القادة والفتك بالمدنيين العزّل، الارتقاء في مستويات التشبيك والإسناد ودرجات انتقاء الأهداف المؤلمة للعدو وضربها بالتوازي التصاعديّ، وتصعيد الخسائر البشريّة في الكيانات العسكريّة والأمنيّة الإسرائيليّة، ولا سيّما المعارك البريّة ووضع كلّ السيناريوهات بما فيها بلا سقوف ولا قواعد على بساط الفعل المقاوم؛ بل ربّما وضع لائحة أهداف جديدة تتجاوز الإسرائيليّ إلى القواعد الأميركيّة والمنشآت العسكريّة للجيوش العربيّة المساندة للكيان الغاصب في الدفاع عنه، لتخرجها عن الخدمة أو تحدّ من مفاعيلها وتقيّد مناورتها.

إن تفعيل المفاجآت بتدرّج  وتوزّع وتنويع ملائم لا يسهّل على العدو مدّه بالذرائع، كما يسلب منه القدرة على تطبيق مخطّطاته ويعرقلها ويقيّدها، هو ما ستدوّنه الوقائع في القريب من الأيّام، وستكون حماقة العدو هي المحفّز لذلك.

وعليه، إن جبهة المقاومة بألف خير، لأنها تمتلك القيادة والسيطرة، واغتيال القادة يمنحها فرصة لتعميّة العدو عن القادة الجدد في تشخيص فن اللّعبة، فهو قتل من يمتلك عنه قراءة مراهنًا أنّ في ذلك سبيله إلى تصفية إرادة القتال وتفكيك البنية من القيادة إلى القاعدة، لكن استمرار المقاومة بقيادات مجهولة للعدو يعقّد عليه الموقف ويمنح المقاومة الإبداع والمناورة.

إن جبهة المقاومة تمتلك القدرة ووسائط، وإن تعرّض بعضها للاستهداف لا يمنع حيازتها على أوراق القوّة التي نجحت في إخفائها بالرغم من محاولات العدو استدراجها، وما تزال تقبض على قرارها باستقلال، ولا تعاني عقدة المركز والأطراف.

إن جبهة المقاومة، المجبولة بروح سماحة السيّد حسن نصراللّه حازت على موفّقيّة تاريخيّة لتسجيل ملحمة العزّة والبطولة والانتصار، وتلك الأيّام تحدّثنا أخبارها على طريق القدس وإزالة “إسرائيل”.

 

العهد الاخباري: عبد الله عيسى

 

قد يعجبك ايضا