رهاب الولاية الحوثية..ومحترفي التشغيب
موجة من ردود الافعال المتباينة أثارها ولا زال يثيرها إحياء جماعة انصار الله مناسبة الغدير والكلمة التي القاها السيد عبد الملك الحوثي زعيم الجماعة ومع انه ليس المرة الاولى التي يحيي فيها الجماعة مناسبة الغدير الا انها هذه المرة تاتي في سياق تحولات سياسية واجتماعية وبزخم غير مسبوق ربما.
جزء من هذه الردو هي عبارة عن اهتياج سياسي قهري يصدر عن عقل متربص تشغيبي ومخيلة فيباوية مرضية ووعي تخريفي يتغيا الوصم لا الفهم و يبين عن خصاء ذهني وحالة من القلق العائم والتوتر الداخلي الاسقاطي ورهاب سياسي انفعالي ,عقل تبخيسي اجتراري انفصل زمنيا عن لحظة حقبه الستينات ولم ينفصل عنها وجدانيا وذهنيا ,يعيد باستمرا اجترار الوعي المرتبط بها واستحياء مورثاتها ومؤثراتها الصراعية . مثل هذا العقل لا يمكنه مبارحة قمقمه فلا فائدة معه, فلو ان الحوثي صنف كتابا في فضائل الدولة المدنية لقال ان هو الا سحر مبين, ولو ان انصار الله احتفلوا بعيد الشجرة لقرائها المشغبون في فنجانهم المقلوب رمزا لازعزمة الحق الالهي .
والجزء الاخر منها هو اشتشكال مشروع كأثر من اثار أحزمة الغبار المثار التي كانت تلف جماعة أنصار الله وتضرب من حولها اسيجة وعوائق معرفية متكثفة , والتي رغما من تقشعها لا زالت تضبب الرؤية في بعض مناحيها , ومن جهة ثانية كاثر لثنائية (الدعوي والسياسي)كحقلين او مستويين في مشروع جماعة انصار الله ,وعدم أدراك الطبيعة الأصلية لها ومسار تشكلاتها والتطورات التي مرت بها ,وتوسع جغرافيتها الثقافية وحواضنها الاجتماعية وبالتالي تحولها الى قوة اجتماعية فاعلة ووازنة, وما فرضه هذا التطور من ضرورة التعاطي مع تعقيدات الراهن السياسي المحلي واثره على التداخل بين آليات ووسائط الفعل الدعوي والفعل السياسي .
جماعة أنصار الله في طبيعة تكوينها ونشأتها فعل دعوي تزكوي وتوجه إحيائي معرفي واجتماعي ونفسي يعنى بالترشيد العقدي والتهذيب القيمي والأخلاقي ويتبنى تدينا طائفيا –بالمعنى السوسيولوجي- وخطاب ديني شمولي يرتبط برسالة الإسلام الكبرى ويستهدف المجتمع لهدايته وليس لإدارته, ويعتمد على وسائط مغايرة لوسائط الفعل السياسي ولا يرتهن في اشتغاله لاكراهات الواقع وتوازنات القوى المحلية ,وعنايتها بالمسالة السياسية وبالإصلاح السياسي من حيث هو قيمة دينية ومقاربتها لها تتحدد بمقولة الأمة -بالمعنى العقدي – لتحقيق الخلاص وفي هذا المجال هي نزعة احتجاجية ظهرت كاستجابة للعولمة وتنتمى الى محور الممانعة -بحسب القسمة الثنوية للعالم -وبكلمة أخرى جماعة أنصار الله تيار ديني عام وشعبي وليست مشروعا لحزب سياسي ذي مرجعية دينية ولا تقبل التحول لحزب سياسي كما يطالب البعض فذلك يعني فقدانها لهويتها وطبيعتها كفعل دعوي وخطاب ديني . لكن من جهة أخرى جماعة أنصار الله في مسار تشكلها مرت بتحولات جيوثقافية انتهت بها كما سبق لتصبح مكونا سياسيا واجتماعيا وازنا وأساسا وبالتالي صار لابد لها من مواجهة تعقيدات الراهن السياسي اليمني بكل تعقيداته ووضعتها أمام استحقاقات كانت في مراحلها الأولى غريبة عليها ,او تتخذ موضعا على هامش إستراتيجيتها الأخلاقية.
وفي سبيل أرخنة مسار تحولات الجماعة تبرز ثورة شباط/ فبراير2011 كانعطافة نوعية دخلت معها مرحلة جيدة ,فرضت عليها إعادة تشكيل لحمتها العضوية وتحديث اولوياتها المرحلية واستجابة منها للتحدي المثمثل في بناء صيغة تنظم ثنائية (الدعوي والسياسي )سعت الجماعة كإجراء عاجل إلى استدخال المجلس السياسي على بنيتها التنظيمية كمؤسسة تعنى بالمسالة السياسية, الا انه بحكم جملة عوامل منها حداثة النشأة لا زال – لحد اللحظة -ثنائية (الدعوي والسياسي) في نشاطها غير متمايزين تمايزا يمنع اللبس سواء في شخوصهما ورموزهما او في وسائطهما .
وتجاهد جماعة انصار الله لانضاج العلاقة بين الحقلين او المستويين ,اما بتطوير اليات عمل المجلس السياسي الحالي ,او بتشكيل حزب سياسي ودلالة تصريحات زعيم الجماعة عبدالملك الحوثي انهم لا يمانعون تشكيل حزب سياسي (فرق بين تشكيل حزب والتحول لحزب) اذاما توافر مناخ سياسي يمنح أي تجربة سياسية ناشئة فرص النجاح.
والنتيجة التي اريد ان اخلص إليها هي ان مناسبة الغدير طقس ديني تحييه جماعة انصار الله بصفتها فعل دعوي وليس بما هي فعل سياسي فهذا الاخير مجموع النشاطات الهادفة الى التاثير على المجال السياسي العام بقصد الوصول الى السلطة وادارة المجتمع ,بالاشتغال على قضايا محلية متعينة وبالتفاعل مع اكراهاته والارتهان لتوازناته وبتوسل وسائط تخصه بخلاف الفعل الدعوي الذي لا يرهن نفسه الا لمثالياته الايديولوجية .
مقولة الولاية في الخطاب الحوثي الولاية والإمامة والخلافة مقولات تستخدم في التراث الإسلامي الكلاسيكي للدلالة على اعلى وظيفة تجمع بين الرمزيتين الروحية والسياسية في الغالب وتمتاز مقولتا الامامة والولاية باطلاقهما للدلالة على الوظيف الروحية والقيادة الاخلاقية منفردة .
والولاية أكثر التصاقا بالمذهب العرفاني الصوفي بل هي حقيقته بحسب شودكوفيتش "فهما أمران لا يفترقان بل ان وظيفة التصوف هي المساعدة على ظهور أولياء" . وتحاول د/سعاد الحكيم-أستاذة التصوف في الجامعة اللبنانية- ان تعطيها بعدا انسانيا ينفى عنها التصور التقليدي العالق بها كموقف سلبي من العالم فالولاية هي إنسانية الإنسان وهي مسؤولية يرث الولى هموم الناس واقع امة ومجتمع وبيئة يقتلع وجدانه من أماكن القرب ويصبرها في ارض الوقت ".
ويستعيض السيد حسين الحوثي مؤسس الجماعة مقولة الإمامة في التراث السياسي الزيدي بمقولة الولاية ويعيد تعريفها و بنائها بناء جديدا ويمنحها ابعادا فكرية ومعرفية وتزكوية تتجاوز الدلالة السياسية المباشرة لمقولة الامامة في التراث الزيدي والولاية تعد من الفرضيات الأساسية للخطاب الحوثي ومفهوم واسع يدل على سلسلة متصلة الحلقات كل واحدة منها تسلم للأخرى,الله ,النبي ,الإنسان الولي(الإنسان النموذجي ) وولاية الله أصل الولايتين الأخيرتين ,ودائرة تشمل وتربط مجتمع المؤمنين , وهي عملية شمولية واسعة تعنى إعادة بناء الأمة الفرد والمجتمع معرفيا وفكريا ووجدانيا وأخلاقيا ,وإعادة بناء التاريخ على أساسها , ولذلك ينتقد الحوثي اختزالها في بعدها السياسي والاداروي( ولاية الأمر) عند المتكلمين والزيدية وهي مجالي الشهود الإلهي في عالم الإنسان, ومبدأ الشهود الإلهي أو الحضور الإلهي هو البراديغم الناظم للبنية الداخلية للخطاب الحوثي ويعني به شهود التدبير الشهود الرعائي لا الشهود الوجودي بتأويل العرفانين (وحدة الوجود)أي الشهود على المستوى الهديوي /المعرفي,والتزكوي/الأخلاقي باعتبار الحقيقة الدينية محتواه في الملا الأعلى . ,يقول الحوثي "لو ترسخ في أذهاننا أن الله شاهد على كل شيء حاضر في كل شيء لتفادينا الكثير من الإشكالات .. ".
فهي رابطة دينية وجدانية بين المتولي(الإنسان) والولي(الله) تستدعيها الوظيفة الكبرى للإنسان (خلافة الأرض )ومحايثة للطبيعة البشرية المدخولة بالنقص وافتقارها لفيوض الكامل المطلق ,وهي كعلاقة وجدانه ليست علاقة رئيس بمرؤوس انها بحسب الحوثي اسمي وارفع علاقة تقوم على الرحمة والمحبة بالإنسان.
وتاسيسا عليه الولاية هي جدل الإلهي والإنساني جدل الغيب والشهادة , والنبوة هي المجلي الأظهر للشهود الإلهي في التجربة الإنسانية التاريخية في المجال المعرفي والهديوي ,ولعل هذا ما حمل المفكر المصري حسن حنفي على النظر للنبوة باعتبارها المعادل الديني للتاريخ .
(من العقيدة الى الثورة,ج/4) واختتام النبوة أعمالها بمحمد (ص)يضعنا أمام مشكل على هذا المستوى من جدل الإلهي والإنساني ,اذ كيف يتجلى الشهود الإلهي في تجريه الإنسان ,وكيف تتحدد شكل الصلة بين الله والإنسان ؟ إن إيقاف السماء إرسال مبعوثيها إلى الأرض فيه دلالة على بلوغ البشرية مستوى من النضج يرفع الحاجة لمبعوثين رسميين , وفي الخطاب الديني عموما القران خطاب الله للإنسان يحتوي خلاصة التجربة البشرية , لكن هل يعني ذلك إن مستقبل البشرية قد كشف دفعة واحدة لحظة التنزيل ؟وهل الشهود الإلهي عند هذه النقطة الزمنية أصبحت علاقته بالإنسان كعلاقة صانع الساعة بالساعة ؟ في الخطاب الحوثي يمثل القران النص الديني المركزي يليها السيرة النبوية من حيث هي التجربة التاريخية الممثلة للقران والمصادق عليها من السماء, وبشان الفراغ الذي خلفه غياب النبي (ص) يستبعد الحوثي "أن يهمل الله هذه الأمة وهي ستواجه قضايا كبيرة ومستجدات كثيرة .يتركها وهي آخر الأمم ويبعث لها نبيا ويقول لها هذا خاتم الأنبياء وكتابا واحدا ثم يقول لها هذا آخر الكتب ثم يقفل الملف ". والحل الذي يقدمه الحوثي يقترب من تصور المفكر السوداني محمد أبو القاسم ويقوم على فكرة "الوريث "بلغة ابوالقاسم "أعلام الهدي "بلغة الحوثي وكلاهما يرتكز على مبدأي الشهود والاصطفاء الالهيين ,يقول أبوالقاسم التوريث هنا "والقائم على وجود الله فعليا في الحركة الكونية هو الحل القرآني لقضية العلاقة بين القران ومتغيرات العصر "ويقول "من خلال الوارث يحل القران مشكلة انقطاع النبوة "(العالمية الاسلامية الثانية ,ص283) و"الوريث "او"العلم -أعلام الهدى " لا يتخذ فقط الصورة التقليدية لرجل الدين المتفوق علميا والخبير بفقه الشريعة ,وعلى حد عبارة الحوثي العلم او علم الهدى " ليس من انتهى من قراءة رصات الكتب ولا يقاس بكم انجازاته التي أثرى بها المكتبة الإسلامية "المؤهل الحقيقي يتمثل في الربانية التي تربطه بالله وتؤهله لتسديد الغيب ,انه إنسان نموذجي ليس وظيفته الفتيا الفقهية وإنما الهداية بالقران او كما يقول المفكر السوداني ابي القسم حاج حمد "يحمل القران في مبناه ومعناه في وحدة منهجية كاملة… فعنصر استمراريته(اي القران) ليس في نصوصه ولكن في فهم هذه النصوص ضمن المنهج القراني ……ص284" .بطبيعة الحال لا استقصد التبشير بفكرة الحوثي هذه ولا يهمنى استبرارها من عدمة فما يعنيني في هذه التناولة (مع الاخذ بالاعتبار ثنائية(الدعوي والسياسي)كما مر انفا لدى جماعة انصار الله)ان مقولة لولاية في خطاب الجماعة ليست نظاما في الحكم بقدر ماهي محاولة لاستصلاح النظام المعرفي التقليدي القعدي والفقهي, ولا هي نظرية في الإدارة السياسية تستمد سلطتها من مؤسسات القهر المادية والمعنوية ,بقدر ما هي نظرية في القيادة الأخلاقية ووظيفتها الرسالية الإصلاحية ,تستمد سلطتها الاجتماعية من رصيدها الرمزي والوثوق الذاتي للجمهور بها ,ومن مشروعها الاخلاقي –وبالتالي انتفاء عنصر القسر والاكراه عنها .
ويفضل الحوثي مصطلح "علم /إعلام (=الإنسان النموذجي )على مصطلح إمام /إمامة"الذي ارتبط بالولاية السياسية لاهل البيت في التراث الشيعي على نحو خاص وهو ما يشي إلى الوظيفة المعرفية والتربوية والسلطة الرمزية "للعلم "- في الخطاب الحوثي- المتمثلة في الترجمة الاجتماعية للخطاب ألقراني والإيناس إلى الحق والقدوة الحسنة التي تفتح السلوك الاجتماعي والأخلاقي والسياسي للمؤمن على أفق واسع من التسامي ,ومعالجة الفجوة بين النظرية الدينية –كما يحتويها النص الديني – والتجارب التاريخية القديمة والحديثة التي تدعي تمثلها في تجربتها , وتركز شرعيتها على أساسها والتي يكشف واقعها عن تعدد وتناقض ينتفي معه واقعية المضمون الاجتماعي للكلية النظرية الإسلامية التي يشتملها النص الديني .
وعلمّية "العلم" ليست رتبة روحية خالصة كرتبة الولي في المذهب العرفاني ولا تمنحه صلاحيات تشريعية كتلك التي للائمة الاثني عشر عند الجعفرية ,وانما فعالية اجتماعية وتاريخية ودينامية تحولية للوعي الفردي وللاجتماع السياسي والأخلاقي الا أنها تتوسل وسائط اجتماعية متمايزة عن تلك التي يتوسلها الفعل السياسي .