حزب الله: قوة رادعة توقظ الهمة في عالم متخاذل
تكاد مدينة حيفا تشبه الضاحية الجنوبية لمدينة بيروت، فكلاهما بلا حياة. عطّلت الغارات الجوية الإسرائيلية شديدة التدمير دورة الحياة اليومية في الضاحية، بينما شلّت صواريخ حزب الله النوعية العاصمة الاقتصادية للعدو الإسرائيلي، وأوقفت دوران عجلة المصانع الإستراتيجية فيها، كما ابتعدت السفن عن الميناء الشهير إلى عرض البحر، وتوقفت أعمال التنقيب عن الغاز والنفط في البلوكات المائية.
مدينة حيفا الواقعة في الشمال الفلسطيني المحتل، تعد مركزًا اقتصاديًا حيويًا للعدو الإسرائيلي، حيث تحتوي على ميناء حيفا، أحد أكبر الموانئ في المنطقة، وتهيمن على حركة التجارة الإسرائيلية. كما تستضيف المدينة أكبر مصفاة بترول في البلاد، مما يؤهلها لتلبية احتياجات السوق المحلي من المنتجات النفطية.
حيفا ومحيطها: المدن خالية والاقتصاد يتهاوى
في حدث يعدّ نقطة تحول تاريخية، شهدت منطقة خليج حيفا حالة من الهلع والفوضى، مع إطلاق حزب الله مئات الصواريخ نحو “الكريوت” وحيفا . هذه العمليات العسكرية جاءت تجسيدا لقدرة فعلية لطرف بات قادرا، بل ويمتلك الوسائل والجرأة لتهديد “إسرائيل” بشكل لم يحدث منذ 75 عامًا. وسائل الإعلام العبرية تصف هذا القصف بأنه “الأعنف والأثقل”، مما يكشف عن تحول نوعي في موازين القوى.
جاء قصف حيفا بعد وقت قليل من تصريح وزير الحرب الجديد، يسرائيل كاتس، الذي اعتبر أن “الغارات الجوية التي تستهدف لبنان وأعمال القتل التي يقوم بها جيشه تمثل صورة النصر التي تريدها إسرائيل”، مشيرًا إلى “عدم وجود هدنة أو وقف لإطلاق النار حتى تحقيق النصر”.
منذ بدء صواريخ حزب الله في 22 سبتمبر من العام الماضي، نزح نحو 300 ألف مستوطن من حيفا، وارتفع هذا الرقم إلى 400 ألف، وهو ما يمثل ربع سكان المدينة. في الأيام الأخيرة للعدوان الإسرائيلي على لبنان الذي يدخل شهره الثاني، شوهدت عشرات السيارات تغادر حيفا نحو “تل أبيب” في أحدث موجة من النزوح.
خلال 50 يومًا من الحرب، قامت المقاومة بقصف مدينة حيفا ومنشآتها العسكرية أكثر من 70 مرة، حيث تتعرض المدينة للقصف شبه اليومي. الكريوت، وهو تجمع استيطاني كبير شمال المدينة، يتعرض لقصف مستمر.
يُعتبر خليج حيفا نقطة حيوية، حيث تمر عبره 70% من تجارة السلاح والنفط والغاز والصناعات الدقيقة والثقيلة.
تحتوي حيفا على قاعدة “ستيلا ماريس” العسكرية، التي تُعد أحد أهم القواعد البحرية في خليج المدينة، ويستهدفها حزب الله باستمرار منذ منتصف تشرين الأول الماضي. هذه القاعدة تستضيف قطع الأسطول السادس الأمريكي أيضًا.
في الجانب الصناعي، صواريخ حزب الله عطلت الإنتاج في مجمع الصناعات العسكرية التابع لشركة “رفائيل”، الذي ينتج أنظمة القبة الحديدية والمضادات الجوية. حوالي 5 آلاف مستوطن يعملون في هذا المجمع ويعيشون في تجمعات قريبة، فيما تجبر الشركات العمال على العمل لتعويض حركة الموانئ التي شلها الحصار البحري.
واستهدفت المقاومة مؤخرًا قاعدة ومطار رامات ديفيد العسكري الواقع جنوب شرق حيفا برشقة نوعية من صواريخها، وهذا المطار الذي تقلع منه طائرات أف 15 وأف 16 والطيران المسير نحو لبنان وسوريا وبقية الدول المجاورة يلعب دورًا محوريًا في الاعتداءات الجوية المتواصلة ضد لبنان، وهو ما يسمح به موقعه الجغرافي في شمال فلسطين المحتلة.
وباتت التجمعات الاستيطانية في حيفا تشعر بأثار الحرب التي أشعلها العدو الإسرائيلي في الشمال ضد لبنان، وغادر نخبة العمال المختصين حيفا إلى الخارج وبذلك يرتفع عدد المغادرين إلى أكثر من مليون مستوطن بحسب إحصائيات متداولة في وسائل الإعلام الإسرائيلية، وتفيد الاحصائيات أن تعداد سكان حيفا بلغ 2,902,877 نسمة، بموجب سجل السكان لشهر ابريل 2024.
وعلى نفس الصعيد، كشفت صحيفة “يديعوت أحرونوت” الإسرائيلية أنّ “أكثر من 80% من أصحاب المشاريع الصغيرة في الجليل الشرقي والجولان يعانون انخفاض دخلهم منذ بداية الحرب، بحيث يُعاني نصفهم انخفاض دخل يزيد على 65%”. “إسرائيل” تعاني من خسائر مضاعفة في الشمال، حيث أثر تصعيد حزب الله على جميع القطاعات المهمة مثل الصناعة والزراعة والتجارة والسياحة.
وتضيف تقارير الاعلام الاسرائيلي “إن كل يوم يمر يزيد من الرمال المتحركة تحت أقدامنا. العدوان الذي تشنّه “إسرائيل” على لبنان يفرض فواتير ضخمة من التعويضات على الشركات في شمال فلسطين المحتلة، حيث بلغت قيمة التعويضات نحو 4.4 مليارات” شيكل” (أكثر من مليار دولار أميركي)، ولم تشمل بعد الأضرار المباشرة. العدد المتزايد من الشركات التي ستغلق أبوابها مرشّح للارتفاع، مما يهدد مستقبل العمالة ويزيد من وطأة الأزمة”. كما كشفت الأخبار عن أنّ البطالة في الشمال ارتفعت بنسبة 20% مقارنة ببقية المناطق بعد هذه الحرب، وهو ما يدقّ ناقوس الخطر على الكيان الصهيوني.
حزب الله: القوة الرادعة تبعث الأمل
يظهر حزب الله قوة رادعة تُعيد الأمل والحمية للأنظمة العربية التي تعاني من الخوف والخنوع. بل وتؤكد أن ما يحدث في غزة وجنوب لبنان يمثل رسالة واضحة تُظهر أن زمن التنازلات قد انتهى، وأن القيم والواجبات في الدفاع عن الأرض والعرض والمقدسات لا يمكن التفريط بها.
عندما يتقدم حزب الله لمواجهة العدوان الإسرائيلي، يُعيد الفخر والكرامة المفقودين ويُذكّر الأنظمة العربية بأهمية المواجهة مع “إسرائيل” ووحدة الصف. لعل وعسى أن الغمامة التي تخيم على سماء هذه الأنظمة المرتعدة تبدأ بالتلاشي، خصوصا وأنها تدرك جيدا أن “إسرائيل”، إذا ما تُركت تعبث دون رادع، فإنها ستصل إلى عقر ديارهم.
إن تجاهل هذه الحقائق الواضحة سيؤدي إلى عواقب وخيمة. “إسرائيل” تُظهر عدم التردد في الاعتداءات، ومن المحتمل أن تجد الجرأة للانقضاض على أي متخاذل أو متسامح يتعاون معها.
ومن الضروري أن يبدأ كل من يتنازل عن مبادئه وقيمه في مراجعة حساباته جيدا. خصوصا، وأن الفرصة، الآن، متاحة أمام هذه الأنظمة لدعم المقاومة التي تقف سداً منيعاً ضد الظلم، وأن يبدأ العرب والمسلمون في الاقتداء بقوة حزب الله، والتي تعيد للأمة كرامتها في ردع العدوان وإعادة الأمل والإرادة إلى النفوس التي ترضخ تحت وطأة مخاطر التنازل عن قيمها وتاريخها.
ما يلوح في الأفق
في مواجهة التصعيد المتزايد، وفي سياق دفاعها المستميت عن العدو الإسرائيلي، لجأت الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي إلى ممارسة الضغط على حكومة بيروت، مما يعكس رغبتهم في تكريس هيمنتهم على المشهد الإقليمي من خلال عقد اجتماعات تعكس واقعاً مفروضاً، قمة الخنوع العربي، التي تهدف إلى البحث عن إجماع واهٍ يشرّع ما تسعى أمريكا وحلفاؤها الأوروبيون إلى فرضه من تسويات شكلية. لكن الواقع على الأرض، كما يُظهره المسرح العملياتي، يرفض هذه الحلول المتعالية والمُستعجلة، حيث تُظهر الأوضاع أن المقاومة لن تقبل بالتسويات التي تتجاهل حقوقها ووجودها.
في ميادين المواجهة، تتجلى قوة الفصائل المقاومة، مثل حركة حماس وسرايا القدس والجيش اليمني والمقاومة الإسلامية في العراق وإيران، وما توجهه هذه المحاور الجهادية من ضربات قاسية للجيش الإسرائيلي، مما يُبرز الوهن والضعف الذي باتت تعاني منها قوى الاحتلال بشكل ملحوظ. هذه المقاومة الشجاعة تُظهر أن “إسرائيل” ليست في موقف يمكنها من فرض إرادتها، بل على العكس، تجد نفسها محاطة بالهزائم العسكرية، وهو ما يؤكد أن الاستجابة للتحديات لم تعد استراتيجيات قادرة على التفاعل معه بفعالية.
إن التحولات الحالية تعكس عمق الأزمة التي يعاني منها الكيان الصهيوني، ورغم محاولاته البحث عن التهدئة من خلال الاستشارة مع القوى العظمى، يبقى واقع المواجهة هو السيد، حيث تُسطر المقاومة قصصاً من الشجاعة والبطولة في خضم التحديات. من الواضح أن الصراع في المنطقة قد دخل منعطفاً جديداً، يختلف جذريًا عما شهدته “إسرائيل” في السابق، ومع اتساع دائرة المواجهة، قد تدخل في أزمة لم تكن تتوقعها.
صحيح أن الكيان الصهيوني لطالما تمسك بغطرسته المتعالية رغم الخسائر المتكررة في مواجهاته مع حزب الله. فمنذ العام 2006، عانت “إسرائيل” من تداعيات الحرب مع الحزب، الذي أثبت قدرته على تحقيق انتصارات استراتيجية رغم التحديات. ورغم زعمها القوة والعظمة، فإن السجل التاريخي يظهر أن إسرائيل تخرج من هذه المواجهات منهكة، ويبدو أنها غارقة الآن في ورطة تزداد تعقيدًا.
كما أن من الواضح أن الحزب انتقل من مرحلة الدفاع إلى الهجوم، وهذا تحول استراتيجي يعبر عن طموح الحزب في تحرير الأراضي المحتلة وتحقيق أهدافه، وهو ما يجعل “إسرائيل” تواجه تهديداً حقيقياً. التصريحات الواضحة لقيادات حزب الله، بما في ذلك تصريحات الأمين العام الشيخ نعيم قاسم الأخيرة، والتي تعكس هذا التوجه الجديد، حيث يتحدث عن مفاجآت قادمة قد تكون أكبر مما شهدته “إسرائيل” سابقًا، مما يسلط الضوء على الاستعدادات والتغييرات في التكتيكات.
هذا الصعود لحزب الله ينذر العدو الإسرائيلي بخسائر فادحة قد تتجاوز ما شهدته سابقًا، مما يعكس تحولًا في ميزان القوة.
إن الرسالة واضحة: “إسرائيل” ليست في وضع مريح، بل تعيش حالة من القلق المتزايد، وبدلاً من الاستمرار في التمسك بغطرستها الزائفة، قد تكون مضطرة للاعتراف بالتحديات التي تواجهها. الحزب يثبت أن لديه القدرة على التقدم، وقد يشهد المستقبل قرب تحقيق أهدافه في تحرير الأراضي. إن الطريق مفتوح أمام حزب الله لتعميق تحركاته، مما يجعل اللوحة الجيوسياسية في المنطقة أكثر تعقيدًا مما كانت عليه من قبل.