إبادة الشعب الفلسطيني.. السلاح والبصمات أمريكية

موقع أنصار الله . تقرير 

 

ما إن تحسس نتنياهو أثر ضربات طوفان الأقصى على رأسه في السابع من أكتوبر 2023، حتى خرجت واشنطن على العالم؛ لتعلن صراحة أن الكيان الإسرائيلي سيحصل منها على كل ما يحتاجه لشن حربٍ على قطاع غزة.

ومع بدء الهجوم العدواني على القطاع كثّفت وزارة الدفاع الأميركية (البنتاجون) شحن مساعداتها العسكرية للكيان، ومع كل نكسة كانت تصيبه من ضربات المقاومة كانت أمريكا تزيد من وتيرة الشحن للأسلحة كمّاً ونوعاً، وبلغ الأمر حد القنابل الخارقة, والقنابل شديدة الانفجار، قبل إضافة القنابل الفسفورية عند فتح الجبهة الشمالية ضد المقاومة الإسلامية في لبنان (حزب الله).

في 12 أكتوبر العام الماضي وخلال زيارته التضامنية للكيان بعد عملية «طوفان الأقصى», صرح وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن، أن إدارة الكونجرس تعمل للتأكد على تلبية احتياجات “إسرائيل” الدفاعية المتزايدة.

وهذه المبادرة إنما تأتي امتداداً لمسار طويل من دعم الاحتلال في قتل الفلسطينيين وممارسة البلطجة على مستوى المنطقة، وهو أيضاً ترجمة للعلاقة الاستراتيجية التي تربط الجانبين منذ بداية النشوء غير الشرعي للكيان الصهيوني في المنطقة، إذ كانت أمريكا أول دولة تعترف به.

 

لتمكين العدو

منذ ما بعد الحرب العالمية الثانية حين بدأت أمريكا الدولة الناشئة حديثا تتصدر المشهد العالمي، أدرك البيت الأبيض أن المنطقة العربية والإسلامية ثرية بالقدر الذي لو سيطرت عليها واستولت على ثرواتها لدعمت صناعتها العسكرية لأسلحة الدمار الشامل, والتي خرج منها الكثير من نووي وبيولوجي وقنابل حارقة وقنابل عنقودية وقنابل فسفورية، ولحافظت على صدارتها على المستوى الاقتصادي، وأبقت الدولار عملة عالمية في التعاملات التجارية، لذلك بعد وعد بلفور البريطاني المشؤوم بتمليك الأراضي الفلسطينية العربية للصهاينة، تولّت أمريكا مباشرة مهمة رعاية هذا الكيان الصهيوني وتمكينه من السيطرة على مجريات المنطقة لتسهيل تنفيذ مخططها وحماية مصالحها هناك، فضلاً عن رد أي تمدد (سوفييتي) محتمل في هذه الجغرافيا.

 

شركاء في المجازر

كانت سياسة حماية المصالح ترتكز على ذات المبدأ الأمريكي القاضي بإقلاق الوضع والإبقاء على المنطقة دائماً في حالة غليان وعدم استقرار، سواء بتكرار العدوان وقتل الفلسطينيين أو تنفيذ ضربات ضد الدول العربية والإسلامية، أو زرع خلايا تجسس في الدول.

وفي حرب الإبادة القائمة حالياً للفلسطينيين والمتواصلة منذ أكثر من عام، يعيد هذا الدعم غير المحدود وغير المشروط للكيان من قبل الولايات المتحدة إلى الأذهان حقيقة الشراكة الأمريكية في الاحتلال للأراضي العربية وفي تنفيذ كل جولات العدوان واستباحة الدم الفلسطيني وإعدام القانون الدولي الإنساني.

 

التواطؤ السافر

بالتوازي مع الدعم السخي، ومنذ حملة القصف الأولى على رؤوس الفلسطينيين، ظهرت أصوات داخل الولايات المتحدة تفضح التجاوزات التي مارستها وتمارسها إدارة بايدن على مستوى القوانين الدولية وحتى القوانين الداخلية التي تحظر دعم أي أعمال عدائية تنتهك حقوق الإنسان في العالم، لتفضح شكليّة هذا النظام الأمريكي غير الملتزم حتى بتشريعاته.

في هذا السياق اتهم عضو الكونجرس أندريه كارسون من ولاية إنديانا عبر صحيفة الغارديان، الكيان الإسرائيلي بارتكاب “جرائم حرب”، وقال: “أنا قلق للغاية من احتمال استخدام أموال دافعي الضرائب لدينا في انتهاكات حقوق الإنسان”، فيما قال مدير الاتصالات بحزب العدالة الديمقراطي أسامة أندرابي: “أعتقد أنه يجب بالتأكيد النظر في قانون “ليهي” الآن، ونحن نشهد انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان”.

ويؤكد مراقبون ومعارضون أمريكيون أن الدعم الأمريكي المفتوح وغير المشروط للكيان ينتهك ما يسمى بقانون “ليهي” لأن معظم ضحايا الهجوم “الإسرائيلي” على غزة مدنيون، بينما يحظر هذا القانون على وزارة الخارجية الأمريكية ووزارة الدفاع تقديم الدعم الأمني للحكومات الأجنبية المشتبه في انتهاكها حقوق الإنسان. ويشير مؤيدو القانون إلى العدد المتزايد من سكان غزة الذين يفقدون أرواحهم نتيجة للعمليات العسكرية، والترحيل القسري لأكثر من مليون شخص، وتصاعد حِدة الوضع الإنساني.

وتكشف صحيفة الغارديان البريطانية بأن مرَدّ ذلك، هو أن الحكومة الأمريكية تستخدم آليات خاصة لحماية “إسرائيل” من قوانين حقوق الإنسان المحلية.

 

أرقام أولية

وفي مسار الدعم الأمريكي المتصاعد للعدو الإسرائيلي بالسلاح، والذي بلغ ذروته خلال حرب الإبادة ضد الفلسطينيين، قدمت واشنطن لـ”حكومة” العدو الإسرائيلي مختلف أنواع الأسلحة الفتاكة، ففي ديسمبر الماضي، صادقت الإدارة على تحويل ما يقرب من 14,000 خرطوشة وذخيرة دبابة ومعدات عسكرية، بقيمة 106.5 مليون دولار، وكذلك قذائف مدفعية عيار 155 ملم ومعدات ذات صلة بقيمة 147.5 مليون دولار، حسب صحيفة “واشنطن بوست”:

وأشار محللون مستقلون إلى أن العديد من الأسلحة المستخدمة في غزة، قنابل بوزن 1000 أو 2000 رطل (450 – 900 كيلوغرام)، من نوع “Mark 84″، التي يمكن تجهيزها بمجموعات “JDAM” أي (ذخائر الهجوم المباشر المشترك) المصنعة من قبل بوينغ، لتصبح أسلحة دقيقة.

وفي مارس الماضي، وافق البيت الأبيض على نقل 1800 قنبلة بوزن 2000 رطل (907 كيلوغرام) من طراز “MK84” و500 قنبلة بوزن 500 رطل (227 كيلوغراما) من طراز “MK82″،

ويشار إلى أن القنابل الكبيرة كتلك التي تزن 907 كيلوغرامات، يمتد تأثيرها لمساحة كبيرة، وتقول الأمم المتحدة إن “الضغط الناتج عن الانفجار قادر على تمزيق الرئتين وتفجير تجاويف الجيوب الأنفية وقطع الأطراف على بعد مئات الأمتار من موقع الانفجار”.

ومن بين الأسلحة التي تم تقديمها للكيان الإسرائيلي، ذخائر موجهة بدقة وقنابل صغيرة القطر وصواريخ خارقة للتحصينات وطائرات مسيّرة، وصواريخ اعتراضية لتجديد ما تُعرف بالقبة الحديدية (نظام الدفاع الجوي قصير المدى، والمضاد للصواريخ وقذائف الهاون والمدفعية) إلى جانب وقود الطائرات، وقطع غيار طائرات “إف-16″ و”إف-35”.

وذكرت صحيفة “واشنطن بوست”، أن المسؤولين الأميركيين “أطلعوا الكونغرس على أكثر من 100 صفقة أخرى”.

إلى ذلك، تحتفظ الولايات المتحدة بمخزون من الأسلحة في “إسرائيل”، يُعرف باسم مخزون الاحتياطي الحربي “للحلفاء- إسرائيل”، منذ تسعينيات القرن الماضي، وقد مكّنت الإدارة الأمريكية الكيان الصهيوني من الحصول على حاجته من القنابل المخزونة.

بحسب تقرير لقناة الميادين أظهر تحليل متطور أجراه مشروع تكاليف الحرب ما لا يقل عن 22.76 مليار دولار من المساعدات العسكرية عند الجمع بين المساعدات الأمنية الأميركية المعتمدة لـ”إسرائيل” منذ 7 أكتوبر 2023. بينما هناك أكثر من خمسة مليار دولار تكلفة عمليات البحرية الأمريكية لحماية ملاحة الكيان الصهيوني.

هذا فضلاً عن المساعدات العسكرية التي تقدمها أميركا لدول طوق الحماية وأخرى من الحلفاء كمصر والأردن وآخرين في المنطقة.

مع ذلك يقول الباحثون إنه على عكس المساعدات العسكرية الأميركية الموثقة علناً لأوكرانيا، كان من المستحيل الحصول على التفاصيل الكاملة لما شحنته الولايات المتحدة لإسرائيل منذ طوفان الأقصى، وبالتالي فإن مبلغ 22.76 مليار دولار لهذا العام هو رقم جزئي.

 

مجازر بسلاح أمريكي

بهذا كان السلاح الأمريكي دائماً في التحليلات وفي استخلاصات المراقبين، هو المتهم الأول في تحقيق نِسَب عالية من الإبادة وسط الفلسطينيين، 70% منهم أطفال ونساء، وهي أسلحة نوعية، ويُجرِّم القانون الدولي استخدامها في التجمعات السكانية، وكل استهدافات العدو في غزة، كانت وسط الأحياء، إذ دمر كامل القطاع ولم يستثن شيئاً.

تقول صحيفة “نيويورك تايمز” الأمريكية: إن القنبلة “جي بي يو-39 ” ذات القطر الصغير أصبحت هي أفضل الأسلحة المستخدمة لدى جيش الاحتلال بشكل متزايد، ورغم أن المعلومات تفيد بأن مخاطر هذا النوع من السلاح بين المدنيين بسيطة، إلا أن العدو ولضمان نتيجة حتمية بين الفلسطينيين فإنه تعمد استخدامها في هجمات مباشرة على مناطق مدنية، فقصف بها مدرسة سابقة تابعة للأمم المتحدة في غزة وأخرى قبلها في رفح، وسقط خلال العمليتين مئات الأبرياء.. العدو زعم حينها أنه لم يستهدف سوى مسلحين، إلا أن مقاطع فيديو تضمنت صور لنساء وأطفال بين القتلى فضحت مزاعمه.

وخلال الأسابيع الستة الأولى من الحرب، ألقت “إسرائيل” بشكل روتيني قنابل أمريكية تزن ألفي رطل على جنوب غزة، أدت إلى تحويل المباني السكنية إلى حفر ضخمة وقتلت آلاف الأشخاص، حسبما خلص تحقيق أجرته صحيفة نيويورك تايمز في ديسمبر 2023.

في مايو الماضي أقرّت وزارة الخارجية الأمريكية أن “إسرائيل انتهكت على الأرجح المعايير الإنسانية لفشلها في حماية المدنيين في غزة”، إلا أنها -الوزارة- مع ذلك قالت: إنها لم تجد حالات محددة تبرر حجب المساعدات العسكرية الأمريكية.

 

أمريكا تتجاوز قوانينها

 ووفقاً لبيانات معهد ستوكهولم الدولي لأبحاث السلام، الذي يتتبع عمليات نقل الأسلحة، فان أمريكا سلمت العدو الإسرائيلي أكثر من عشرة آلاف قنبلة “جي بي يو-39”.

وكان جوش بول، المسؤول السابق في مكتب الشؤون السياسية والعسكرية بوزارة الخارجية الأميركية قد قدم استقالته -احتجاجاً على عمليات نقل الأسلحة إلى “إسرائيل”، وقال إن الحكومة الأميركية “بالتأكيد لا تتصرف ضمن القوانين المعنية بتصدير الأسلحة”.

وأكد مراقبون وخبراء أن إدارة الرئيس جو بايدن خالفت بالأساس 3 قوانين أساسية، أولها يتعلق بنقل الأسلحة التقليدية، وثانيها يتعلق بالأسلحة المتفجرة في المناطق المأهولة بالسكان، وثالثها يتعلق بقانون السيناتور (باتريك ليهي) المعني بحقوق الإنسان.

في فبراير 2023، أصدر بايدن توجيهاً يحظر صفقات نقل الأسلحة إلى البلدان التي يحتمل أن تستخدم الأسلحة لاستهداف المدنيين في النزاعات العسكرية، لكنه في النموذج الإسرائيلي ناقض توجيهاته رغم ما تأكَّد من ارتكاب العدو لانتهاكات جسيمة للقانون الإنساني الدولي والقانون الدولي لحقوق الإنسان، وواصلت إدارة بايدن نقل الأسلحة المتفجرة إلى “إسرائيل”دون أي شروط حول استخدامها.

يقول سيث بيندر المسؤول في مشروع الديمقراطية في الشرق الأوسط، “بالنظر إلى الموت والدمار الموثَقَين في غزة، والانتهاكات الموثقة جيداً في الضفة الغربية، من الصعب أن نرى كيف يمكن لإدارة بايدن الاستمرار في توفير الأسلحة دون انتهاك سياسة نقل الأسلحة التقليدية الخاصة بها”، بينما تؤكد تقارير الأمم المتحدة أنه عندما تستخدم الأسلحة المتفجرة في المناطق المأهولة بالسكان، فإن 90% من الضحايا في المتوسط هم من المدنيين.

وفي آب/ أغسطس هذا العام، أحصى مرصد حقوق الإنسان الأورومتوسطي أكثر من 2750 عائلة فقدت ثلاثة أفراد على الأقل في الهجمات الإسرائيلية على مدى الأشهر الـ11 السابقة وفقدت أكثر من 365 عائلة غزيّة أكثر من 10 أفراد في الحرب الجارية.

 

إقرار وذر رماد

في مايو الماضي أكد تشارلز بلاها، المدير السابق لمكتب الأمن التابع لوزارة الخارجية الأمريكية بأن الموت والدمار الذي يحدث في غزة ناتج عن الأسلحة التي قدمتها واشنطن إلى “تل أبيب”، حسب تعبيره.

فيما أكد الكاتب وصانع الأفلام الأمريكي جيمس بامفورد، إن الكيان الإسرائيلي يقتل عائلات فلسطينية بأكملها في غزة، بأسلحة صنعت في الولايات المتحدة.

بامفورد كشف في تقرير نشرته مجلة “ذي نيشين” الأمريكية في أكتوبر الماضي الكثير من مظاهر العنف المفرط، غير الإنساني وغير الأخلاقي والتورط الأمريكي في القتل البربري المتوحش للفلسطينيين.

وتحدث التقرير عن العثور على شظايا قذائف مدفعية من عيار 120 مليمترا وتحمل علامة “أم 830 إي1″ استهدفت فلسطينيين في سياراتهم، وهي قذائف مصممة لتدمير الدبابات وليس سيارات”.

يقول بامفورد “استمرت جرائم الحرب التي ارتكبت بأسلحة مدمرة تحمل ختم “صنع في الولايات المتحدة”، بلا توقف لأكثر من عام وهو ما يجعل الولايات المتحدة بوضوح متورطة في الإبادة الجماعية المستمرة.”، ويؤكد بأن إدارة بايدن صادقت، بحلول شهر آذار/ مارس الماضي، على أكثر من 100 صفقة أسلحة أمريكية منفصلة للكيان الإسرائيلي، أو ما يقرب من صفقة واحدة كل 36 ساعة، وفق تعبيره.

ومع تواتر التأكيدات على أن السلاخ الأمريكي بقتل الشعب الفلسطيني لم يكن أمام الرئيس بايدن إلا الإقرار بهذه الحقيقة، زاعماً التوعد للكيان بالتوقف عن تزويده بالسلاح إذا استمر في هذه الانتهاكات وهو ما لم يحدث، إذ استمرت جرائم الإبادة، واستمر السلاح الأمريكي بالتدفق إلى حكومة الاحتلال.

وكشفت معطيات الأحداث أنه إثر انتشار التقارير الدولية المؤكد بارتكاب انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان ضد الفلسطينيين بالأسلحة الأمريكية، ادعى بايدن ووزير دفاعه اوستن، تعليق إرسال الأنواع الحديثة من الأسلحة ذات الآثار الكبيرة، إلا أن مراقبون أكدوا مراوغة واشنطن المعتادة وأنها تكذب في هذا الشأن، فبايدن هو ذاته الذي هوّن من غزو جيش الاحتلال لرفح واصفاً العملية بأنها توغل لم يطل “مراكز سكانية”، وأكد أن “إسرائيل” لم تتجاوز الخط الأحمر بشأن رفح، بينما شهد العالم غارات بشعة على مناطق مكتظة بالنازحين وقتلت المئات، فيما كشفت وسائل إعلام اعتماد الكيان على هذه الذخائر الأمريكية في تنفيذ عملياته، منها قذائف GBU-39.. تقول منظمة العفو الدولية عن أربع هجمات قامت بتوثيقها: “في الهجمات الأربع، لا شيء يشير إلى أن المباني السكنية التي ضُربَت يمكن اعتبارها أهدافاً عسكرية مشروعة أو أن الأشخاص في المباني كانوا أهدافاً عسكرية، مما يثير مخاوف من أن هذه الضربات كانت هجمات مباشرة على المدنيين والأعيان المدنية ويجب التحقيق فيها كجرائم حرب”.

وأكد أستاذ العلوم السياسية بجامعة القدس، أن الممارسات الأمريكية جعلت الاحتلال الإسرائيلي يزداد وقاحة وممارسة لأسلوب القتل ضد الشعب الفلسطيني.

 

فيتو ضد وقف الإبادة

وفيما يشير إلى تنسيق وتوزيع وتناوب في الأدوار بين الكيان الصهيوني والولايات المتحدة، لعبت أمريكا دور الحامي والغطاء السياسي لممارسات العدو إلى أبعد حد، فإلى جانب الإسناد بمختلف أنواع السلاح والذخائر بما فيها شديدة الانفجار بالمخالفة للقوانين المحلية، وحتى التراجع عن توجيهات البيت الأبيض، عكس سلوك أمريكا مقدار النفاق الذي تعيشه عندما يتعرض الأمر بالكيان الإسرائيلي، فتارة تتحدث عن انتهاكات للقانون الدولي وتارة تتحدث عن حق الاحتلال في الدفاع عن النفس، وتارة تعلن عن وقف تزويده بالسلاح وتارة تعود لتؤكد التزامها في الدفاع عنه، على أن الأهم من ذلك كله حرصها المستمر على رعاية الإبادة الجماعية بحق الفلسطينيين والوقوف أمام أي إجراء يمكن أن يوقِف استمرار هذه المجازر والحصار والتجويع وملاحقة النساء والأطفال بالصواريخ والقنابل من شمال القطاع إلى جنوبه، ثم من جنوبه إلى شماله.

وبرز ذلك بوضوح عندما وقف العالم رافضاً لهذه الجرائم الهمجية وطالب بإلزام العدو بوقف العدوان، إذ ظلت الولايات المتحدة طوال عام من قتل المدنيين مانعة دون تحقيق وقف فوري لإطلاق النار في مجلس الأمن، وفي غير مرة، استغلت حقها في النقض “الفيتو” ضد قرارات كان جوهرها إنهاء العدوان.

في نوفمبر 2023، أطلق منتقدو الرئيس جو بايدن عليه لقب “جو الإبادة الجماعية” بسبب دعمه لمجازر إسرائيل، وتؤكد أنييس كالامار الأمينة العامة لمنظمة العفو الدولية، أنه في مواجهة عدد مذهل من القتلى، فإن استخدام الولايات المتحدة حق النقض ضد قرار آخر لمجلس الأمن لوقف إطلاق النار “يظهر استخفافاً صارخاً بمعاناة المدنيين”.

وقال المدير التنفيذي لمنظمة أطباء بلا حدود، أفريل بينوا: “من خلال استخدام حق النقض ضد هذا القرار، تقف الولايات المتحدة وحدها في الإدلاء بصوتها ضد الإنسانية.

وكان التبرير الأمريكي لهذا السلوك بإشهار الفيتو في وجه العالم، هو من جهة الادعاء بحق الكيان الدفاع عن نفسه، ومن جهة أخرى أن صيغة (القرار) ستزيد من توتر الموقف، رغم أن الأصل كان إيقاف إطلاق النار بأي صيغة كانت، وهو ما كشف بأن أمريكا لم تكن تريد وقف العدوان حتى يحقق نتنياهو مخططه الفاشل.

 

غزة بلا مقومات حياة

وكنتيجة للنازيّة الصهيونية الأمريكية عاش الشعب الفلسطيني ولا يزال منذ بداية جولة العدوان التدميرية القائمة، مأساة إنسانية لم يعرف لها التاريخ مثيلاً، لما اتسمت به من وحشية مفرطة في الاستهداف والإبادة بأشكال مختلفة من الوسائل، سواء بالقتل المباشر أو بالتجويع، والحرمان من أبسط الحقوق والمقومات، وعكس هذه الأمر حالة نفسية غير طبيعية للكيان الصهيوني، وأمريكا التي ظلت ولا تزال مظلة لحماية هذه الممارسات العدائية.

وخلّفت عمليات الاستهداف مشاهد تتجاوز حجم ما شهدته الحروب السابقة على مستوى العالم بما فيها الحربين العالميتين، وزد عليها الخذلان المؤلم الذي اتسم به الموقف الدولي تجاه كل ما يجري.

وتُقر شهادات قيادات الأمم المتحدة في هذا السياق على أن الكيان الصهيوني قد ضرب بكل اتفاقات العالم عرض الحائط لصالح منهجيته الدموية السافرة، وكان المدنيون هم ضحاياها دائماً، حيث عوّض العدو عجزه في النَيل من المقاومين بأن صبّ جامّ غضبه على النساء والأطفال والطاعنين في السن، فضلاً عن تدمير القطاع وتحويله بمدنه ومخيماته إلى كومة من الأنقاض التي تحكي آلاف الحكايات للعائلات الفلسطينية المكلومة، التي كانت تعيش هنا.

شهد القطاع بسبب القصف المتواصل انهياراً تاماً للخدمات الطبية، وذكر المدير العام لمنظمة الصحة العالمية تيدروس أدهانوم غبرييسوس، بأن “النظام الصحي بكامله في غزة تعرض لهجمات منذ أكثر من عام”، وقال: إن “أي هجوم على المنشآت الاستشفائية يشكل انتهاكاً للقانون الإنساني الدولي”، كما شهد القطاع انهيار خدمات التعليم، حيث أنهى العدوان تعليم أكثر من 650 ألف طالب وطالبة.، الأمر الذي كشف بذاته للعالم مستوى الفشل الذي بعيشه الكيان ومعه الإدارة الأمريكية بأن يكونوا مقاتلَين شرفاء، يلتزمون المبادئ الأخلاقية في القتال.

لم يترك الاحتلال أي بقعة في غزة إلا وطالها بجرائمه، المستشفيات، والمدارس، والمساجد، حتى خيام النازحين، كما عاشت العائلات الفلسطينية منذ بداية العدوان الغاشم، في دوامة لا تنتهي من النزوح والفرار أكثر من مرّة، فيما طائرات المحتل تلاحقهم بالقصف المستمر الذي لا يهدأ.

ويعيش شمال القطاع حالياً أسوأ الأوضاع الإنسانية على الإطلاق حيث تنعدم كل مقومات الحياة، لتحضر بدلاً عن ذلك صواريخ العدو وقنابله الأمريكية.

 

الكل معرضون لخطر الموت

نهاية شهر أكتوبر قالت القائمة بأعمال وكيل أمين عام الأمم المتحدة للشؤون الإنسانية، جويس مسويا، إن “ما تفعله القوات الإسرائيلية في شمال غزة المحاصر لا يمكن السماح باستمراره” وإن “كل سكان شمال غزة معرضون لخطر الموت”، حسب تعبيرها.

وأضافت أن “المستشفيات قُصفت والعاملين في المجال الطبي اُحتجزوا، وأماكن الإيواء أُخليت وأُحرقت، والمسعفين مُنعوا من إنقاذ الناس من تحت الأنقاض، والأسر فُصلت عن بعضها، والرجال والفتيان يُؤخذون بعيداً مكدسين في الشاحنات”.

وكان مفوض الأمم المتحدة السامي لحقوق الإنسان، فولكر تورك، قال، إن أحلك لحظات الصراع في غزة تتكشف في شمال القطاع.

وأضاف أن “الوضع يزداد سوءاً يوماً بعد يوم بشكل لا يمكن تصوره. سياسات الحكومة الإسرائيلية وممارساتها في شمال غزة تهدد بإفراغ المنطقة من جميع الفلسطينيين”، وفق تصريحه، موجهاً مناشدة إلى قادة العالم قائلاً: “أذكركم بمسؤوليتكم لضمان احترام القانون الدولي الإنساني كما هو منصوص عليه في اتفاقيات جنيف، فهذه قواعد مقبولة ومُلزمة عالمياً وُضِعَت للحفاظ على الحد الأدنى من الإنسانية. أناشدكم أن تضعوا حماية المدنيين وحقوق الإنسان في المقام الأول”.

وقبل أيام من شهر نوفمبر الجاري ذكرت صحيفة “هآرتس” العبرية، أن قائد الفرقة “162” في جيش العدو اعترف أنه ينفذ عمليات “تطهير عرقي” للفلسطينيين في شمال غزة ومنعهم من العودة إليها.

وأكد قائد الفرقة “162” إلى أنه تلقى أوامر عمليات “التطهير العرقي” بشمال القطاع من رئيس الأركان الصهيوني هرتسي هليفي، وقائد المنطقة الجنوبية، والمستوى السياسي بقيادة رئيس حكومة العدو بنيامين نتنياهو.

وعلى هذا المسار من الاستخفاف بالعالم، واصل الكيان الإسرائيلي العدوان على الفلسطينيين متجاهلة قرار مجلس الأمن الدولي بوقفها فوراً، وأوامر محكمة العدل الدولية باتخاذ تدابير لمنع أعمال الإبادة وتحسين الوضع الإنساني الكارثي بغزة.

فأين القانون الدولي الإنساني مما يحدث؟، أين الضمير العالمي؟ وأين حقوق الإنسان؟

قد يعجبك ايضا