لمَ “نحن لا نهزم”؟

|| صحافة ||

تعرض العرب في المواجهة مع الصهاينة في منطقتنا العربية منذ أوائل القرن العشرين لهزائم متكررة، ولكن في الموازاة ولدت مقاومة عربية في وقت مبكر، منذ الشيخ عز الدين القسام الذي أطلق الثورة ضد الصهاينة وداعميهم الإنكليز. ومع أن الثورة استشهد قائدها إلا أن المقاومة استمرت، واشترك في حرب فلسطين مقاتلون من معظم الدول العربية، وبينهم جنود نظاميون. ثم بعد النكبة لم تنطفئ الشعلة، وها هم ضباط أحرار شاركوا في حرب فلسطين يعلنون الثورة في مصر ويبدؤون التصدي للمشروع الصهيوني وراعيه البريطاني آنذاك، وخاضوا معارك ضده بدءًا من تأميم قناة السويس والعدوان الثلاثي في العام ١٩٥٦، وإرسال عبد الناصر ضباط مصريين إلى غزة لتدريب الفدائيين الفلسطينيين وتنظيم صفوفهم (أبرزهم مصطفى حافظ).

تصدت مصر للعدوان. تعرضت لدمار وخراب، خصوصًا في الإسماعيلية والسويس؟ بلى، ولكنها لم تهزم، بل أصبحت محجة وموئلاً للفدائيين الفلسطينيين. وبفضل هذا الاحتضان تبلورت الثورة الفلسطينية التي أطلقتها حركة فتح مطلع العام ١٩٦٥.

وصلنا إلى هزيمة حزيران ١٩٦٧. كانت هزيمة فعلاً، ولكن، هل توقفت المقاومة؟ بالطبع لا، سواء من مصر الدولة(حرب الاستنزاف) أو الثورة الفلسطينية. ثم كانت حرب تشرين/أكتوبر ١٩٧٣. ومع أن العرب عدّوها انتصاراً إلا أن بذور الهزيمة زرعت تحت ظلالها، حتى تجرأ السادات وعقد صلحًا مع العدو حيَّد مصر عن الصراع.

أيضًا لم تخبُ شعلة المقاومة، لأن الرافضين لمنطق الصلح – الاستسلام كان حري بهم أن يتابعوا مهما كانت موازين القوى غير متناسبة.

المقاوم ليس بحاجة لأن يكون في قوة عدوه، ولكنه بحاجة إلى أن يكون ندًا صامدًا مؤمناً بحقه. هنا، تحضر تجربة المقاومة  في لبنان التي بدأها الفلسطينيون بعد اتفاق القاهرة في العام ١٩٦٩، ومن تحالف معهم من القوى اليسارية ومن انتمى إلى فصائلهم من اللبنانيين.

وكان في المقابل خط مختلف الانتماء عمل على تنظيمه وتكريسه الإمام المغيب السيد موسى الصدر الذي أسس حركة المحرومين أمل، ونادى بحمل السلاح لحماية الحدود الجنوبية من الاعتداءات الصهيونية التي لم تتوقف منذ زرعت الصهيونية في فلسطين.

غُيِّب إمام المقاومة، ولكن زرعه أثمر والمقاومة استمرت. وكانت ولادة المقاومة الإسلامية التي ورثت المقاومة الفلسطينية من دون توريث. بدأت الحكاية مع الاجتياح الصهيوني للبنان في ٦ حزيران من العام ١٩٨٢ (طبعًا لم يكن الاجتياح الأول ولكنه كان الأشمل والأكثر تدميرًا وتوسعاً. كان عصراً إسرائيليًا بامتياز. هزمت منظمة التحرير وأخرجت من لبنان. ولكن أيضاً وأيضًا المقاومة لم تنتهِ. بل بدأت بكلمة سر أودعها الإمام الخميني أول وفد من حزب الله في ذلك الصيف الساخن حين قال لهم: مرحلتكم كربلائية؛ انطلقوا من نقطة الصفر، ولا تتوقعوا قطف الثمار في حياتكم؛ اتركوا الأجيال هي من تقطف الثمار.

هذه الروح الحسينية حلت في ثلة من الشباب الذين تعددت مشاربهم وانتماءاتهم ولكن معظمهم كان في أطر إسلامية. منذ الطلقات الأولى في خلدة، حيث تعرفت الناس لأول مرة إلى الخمينيين، مثلما عبر أحدهم يومها، ليصبح لاحقًا القائد الجهادي الكبير السيد فؤاد شكر (الحاج محسن). وهناك كان أيضاً الحاج عماد مغنية والسيد ذو الفقار وبعض شبابٍ حسيني مؤمن بحقه، ينفذ تكليفه بالجهاد، غير آبه بالنتائج، متلهف للشهادة، كأنهم أصحاب الحسين عليه السلام ليلة العاشر من المحرم، حين أرخص لهم عليه السلام بالرحيل فأبوا وقالوا: أنبقى بعدك! لا طيب الله العيش بعدك.

هذه المقاومة بتلك الروحية خاضت حرباً ضد الاحتلال وهدفها تحرير الأرض. ولكن، هل يتحقق هذا الهدف من دون أثمان؟ من البديهي أن كلفة التحرير كانت باهظة جداً. كلفت المقاومة الآلاف من مجاهديها، شهداء وجرحى وأسرى، علاوة على انتقام العدو من جمهورها. وتقدم القافلة الأمين العام لحزب الله السيد عباس الموسوي(قده)، إذ كان اغتياله ضربة قاسية للمقاومة، ولكن اغتيال السيد المؤسس شكل بداية عهد جديد، شهدت فيه المقاومة تطورًا هائلًا في الإمكانيات والفعالية وفي القدرة على أن تكون جزءًا من المعادلات في السياسة العالمية، لا الإقليمية ولا المحلية فحسب، حتى توجت نضالها وجهود مجاهديها وقادتها بالتحرير في أيار ٢٠٠٠.

قاد هذه الحقبة سيد شهداء الأمة السيد حسن نصر الله(قده) الذي أطلق شعار ولى زمن الهزائم وجاء زمن الانتصارات، لأن حرب تموز ٢٠٠٦ بقدر ما كانت مدمرة ومكلفة وموجعة، فقد كانت أسطورية في الصمود والتصدي.

وبعدها بدأ النقاش في لبنان عن مفهوم الانتصار الذي نرفع شعاره من بين البيوت المدمرة وفي تأبين مئات الشهداء.

المعادلة في مفهوم المقاومة واضحة. قد تُقتل وتنتصر. هذا المفهوم الذي كرسه في كربلاء الإمام المعصوم أبو عبد الله الحسين عليه السلام. وقد كثر في عصره وبعده من قال عنه ما يقولونه عن المقاومة اليوم. مع العلم أن الامام حين أكمل طريقه نحو كربلاء كان يعلم أن من استصرخوه تفرقوا عن سفيره، وأنه حين يصل إلى مقصده لن يجد ناصرًا ولا معينًا، فلو تراجع الإمام كان انهزم فعلاً، لأن الثمن لن يكون سهلًا عليه، وهو النزول على حكم يزيد، الحاكم الذي يفتقد الشرعية والمشروعية، ولساد وتكرس حكمه من دون أي اعتراض أو مقاومة. نعم، قاوم الإمام هذه الهيمنة فكلفته نفسه ونفوس أهل بيته وأصحابه وسبي النساء. فلو قيس ما جرى بموازين الغالب والمغلوب لعُدَّ صف الإمام مغلوباً بالمعايير العسكرية، ولكنه لم يهزم ولم تنطفئ شعلة مقاومته حتى بعد مرور مئات السنين. لماذا؟ لأنه اختار الوفاء للمبادئ والقيم وعدم الركون أو الخضوع للظالم.

نحن في منطقتنا العربية، لا سيما حيث يجثم الاحتلال على أراضينا طامعًا في إخضاعنا، أي خيار لنا في مقابل هذا العدوان؟ إما أن نسلم ونستسلم، وإما أن نقاوم مهما كانت الكلفة، لأن كلفة الاستسلام لا تقارن بكلفة المقاومة. وماثل أمامنا كل من صالح وهادن، كيف تفتك به الهشاشة والأزمات، علاوة على تمدد عدوى خضوعه إلى كثير ممن يلهثون للتطبيع والمهادنة مع العدو، و”تكفير” كل من يقرر مقاومته.

نحن اليوم، من بين الركام الذي يحوي جثامين عشرات الشهداء، لم ننهزم طالما بيننا من يحمل تلك الروح التي تقاتل، الروح الحسينية التي لا تبالي إن وقع عليها الموت أم وقعت عليه.

يحرق العدو الأرض ويدمر البيوت ويقضي على أي إمكانية للحياة، وإذ بالصواريخ تنطلق من خلفه ومن بين يديه ومن حيث لا يحتسب. إذاً، أنت لا تهزم ما دمت تقاوم، ولكنك قد تهزم وتخضع وتفقد سيادتك واستقلالك ما دمت تهادن من لا يقبل بأقل من أن تكون تابعًا ذليلًا لا تملك قرارك.

نحن ما زلنا نقاوم منذ أكثر من مئة عام. القسام غدا كتائبَ، ومصطفى حافظ ما ضاعت دماؤه في غزة والضفة والقدس، ومن غيَّب الإمام الصدر لم ينجح في تغييب مقاومته، ومن اجتاح لبنان لم يهنأ ولم يصمد له مشروع في هذا البلد، والشيخ راغب حرب والسيد عبد اللطيف الأمين والسيد عباس الموسوي صاروا مشاعل حقيقية تهتدي بهم أمة بأكملها، من اليمن إلى العراق إلى سورية إلى فلسطين إلى أقطار بعيدة في المشرق والمغرب وباكستان وأفغانستان والهند وغيرها. وكذا الحاج عماد مغنية والسيد ذو الفقار والحاج حسان اللقيس وسلسلة ذهبية تكاد لا تنتهي. فكيف بالسيد حسن نصر الله الذي أسس لانتصارات عظيمة، كيف لإرثه أن يزول أو لصوته أن يخبو وهو يهتف: كما وعدتكم بالنصر دائمًا أعدكم بالنصر مجددًا.

 

العهد الاخباري: منهال الأمين

قد يعجبك ايضا