خفايا ومؤشرات عودة الحرب في سوريا
عباس القاعدي
لفهم ما يحدث في سوريا اليوم يجب معرفة موقع سوريا ضمن خارطة المحور الإسلامي المقاوم للاحتلال الإسرائيلي وفهم طبيعة الدور الذي تؤديه سوريا للمحور بشكل عام وللمقاومة الفلسطينية أو اللبنانية بشكل خاص.
يجب العودة إلى تاريخ سوريا المقاوم الذي بدأ منذ أن جعل حافظ الأسد سوريا محوراً في مواجهة مشاريع تصفية القضية الفلسطينية، بدءاً برفض الانخراط في اتفاقيات أوهام السلام المزعوم إسرائيلياً في ثمانينات القرن الماضي، وكذلك الدور الحالي لدمشق بقيادة الرئيس بشار الأسد، الذي يتركز بكون سوريا محور مهم لدعم فلسطين والمقاومة الفلسطينية رغم تداعيات الحرب على سوريا خلال العقد الأخير؛ لأن سوريا الدولة الوحيدة ضمن دول الطوق التي رفضت الاستسلام للمشروع الصهيوني.
وإذا لم يكن لسوريا دور في طوفان الأقصى وما تلى ذلك من معارك عسكرية بين المقاومة الفلسطينية والاحتلال الإسرائيلي، لما كانت “إسرائيل” تقوم بشن غارات عدوانية على سوريا بين الحين والآخر حتى وصلت لمئات الغارات على مدى عام كامل حتى الآن، فالغارات العدوانية على سوريا دليل على أن هناك دور تقوم به سوريا لم يكن معلناً نظراً لحساسية موقع سوريا من جهة ونظراً للظروف التي تعيشها سوريا، وللتأكيد على ذلك تجدر الإشارة إلى أن من المهم حصر طبيعة الغارات العدوانية التي شنتها “إسرائيل” على سوريا خلال معارك طوفان الأقصى والتي استهدفت مواقع استراتيجية شملت المنافذ والقواعد العسكرية، ومطارات حلب ودمشق وحمص وريف درعا لتعطيل خطوط الدعم للمقاومة طوال الفترة الماضية.
قطع خطوط الامداد واضعاف المقاومة:
ما يحدث في سوريا هو جزء من مخطط أمريكي إسرائيلي تركي خطير، مرتب له منذ وقت سابق، والهدف هو تغيير النظام والقضاء على أمن واستقرار سوريا بشكل خاص والمنطقة بشكل عام، وكذلك تقسيم سوريا وفق المخطط الأمريكي الإسرائيلي المشترك الذي بدأ من العدوان على غزة وفلسطين، ثم لبنان، ثم الاتجاه إلى سوريا، والمرور على العراق، وصولاً إلى اليمن، وهذا ضمن محاولات تحقيق الأهداف الخفية لقوى الشر في المنطقة، والمتمثلة في إخضاع محور المقاومة.
وما يجري في غزة وما جرى في لبنان وما يجري في سوريا، كلها جزء من ذلك المخطط ومن منظومة واحدة تستهدف تطويع دول المحور في المنطقة لسياسة الولايات المتحدة وحلفائها بشكل حاد وقوي؛ ولهذا فإن عودة الحرب في سوريا ولا سيما حلب، التي تأتي على خطّ جيو – سياسي بالغ الأهمية والتعقيد، وتتشابك فيها الحسابات والمصالح ومواقع النفوذ، تشير إلى محاولة أمريكية لتغيير الأوضاع في المنطقة لكي تصبح أكثر ملاءمة للمد الإسرائيلي وإهدار المكانة للشعوب العربية والإسلامية، وتشير إلى أن الخطر كبير وقادم ولا يمكن تجاهله، وأنه يستهدف الجميع دون استثناء، وما نراه اليوم في سوريا قد يكون جزءاً من إعادة ترتيب خرائط النفوذ في “الشرق الأوسط” بأسره، وليس سوريا فقط.
وإلى جانب الامتداد الجغرافي لمعارك حلب ومحيطها وإدلب مع لبنان من جهة عكار ومناطق شمالية أخرى، فإن عودة الحرب في سوريا مؤشر لقطع الامدادات العسكرية لحزب الله، وقطع أوكسيجين التسليح عنه عبر سوريا، وإنهاء ما تَعتبره “تل أبيب” الخطر الذي يهدد أمنها واستقرارها، وكذلك وسط مخاوف أمريكية إسرائيلية، من أن يعيد حزب الله تنظيم صفوفه ومقراته ومعسكراته في سوريا، بعد أن دمرت بنيته التحتية العسكرية والأمنية في لبنان.
لذا يستمر الكيان الإسرائيلي بالعمل على تحقيق أهدافه التكتيكية وتوسيعها ضمن هدفه الإستراتيجي، وهو إضعاف محور المقاومة وجعل دول الطوق المحيطة بإسرائيل خالية تمامًا من أي كيان يهدد أمنها القومي، سواء كان هذا الكيان أنظمة تحكم الدول المحيطة بها، أو كيانات ما دون الدولة بصرف النظر عن تموضعهم السياسي ضمن الدولة.
وتحقيقًا لأمنه الإستراتيجي فإن الكيان الإسرائيلي، وبدعم كامل من الولايات المتحدة، لن يكتفي بتدمير غزة وجنوب لبنان وأجزاء من شمال وجنوب سوريا، بل ستتجه إلى إنهاء وجود حركات المقاومة الفلسطينية وإنهاء حزب الله في لبنان، وضمان وجود نظام غير مرتبط بمحور المقاومة في كل من سوريا ولبنان وهذ وفق سياسيون.
وفي قراءة للمشهد الراهن، وعلى ضوء التصريحات التصعيدية لنتنياهو وتهديداته المباشرة باستهداف الرئيس الأسد، يتجلى المخطط الإسرائيلي الرامي إلى إحداث خلخلة أمنية في سوريا عبر تمكين التنظيمات الإرهابية، في مسعىً لتنفيذ مشروعها الاستراتيجي المتمثل في انهاء نفوذ محور المقاومة، عن محيط فلسطين المحتلة، من خلال عودة الحرب في سوريا، وهو المخطط الذي تبنته “تل أبيب” منذ عقدٍ كامل.
وكان نتنياهو قد وجّه في الآونة الأخيرة تحذيراً غير مسبوق إلى دمشق، متوعداً إياها بتداعيات وخيمة ما لم تبادر إلى وقف خطوط الإمداد العسكري الإيراني المتجهة إلى لبنان. وبالتالي، يتجلى أن نتنياهو، الذي يرزح تحت وطأة ضغوطٍ سياسية غير مسبوقة من قِبَل المعارضة في الكيان المحتل، نتيجةً عجزه الاستراتيجي عن تحقيق أي اختراق في مواجهة حزب الله، يسعى جاهداً لإعادة إحياء استراتيجيته المنهارة في الساحة السورية، ويبدو هذا المسعى محاولةً مركبةً لصرف الأنظار عن إخفاقاته المتتالية، مع خلق بؤرة توتر جديدة تحت ذريعة التصدي لما يصفه بالتهديدات الإيرانية المزعومة في سوريا.
توظيف الجماعات الإرهابية:
ولضمان وجود نظام غير مرتبط بمحور المقاومة في كل من سوريا ولبنان، تكشف المؤشرات والأحداث الجارية، عن لجوء “إسرائيل” إلى توظيف التنظيمات الإرهابية في حلب وإدلب كورقة ضغط على النظام السوري، ولا سيما في ظل إعلان نتنياهو الصريح، منذ اندلاع المواجهات في لبنان، عن جاهزيته لتوجيه ضربات عسكرية ضد دمشق ومواجهة محور المقاومة.
وبحسب صحيفة “وول ستريت جورنال” الأمريكية، فان الولايات المتحدة تقود “حملة خفية” منذ بدء عملية طوفان الأقصى في 7 من أكتوبر 2023م، لتحريك وتنشيط التنظيمات الإرهابية في سوريا، مستغلة حالة الانشغال الإقليمي والعالمي بحرب غزة وأخطار توسعها إلى حرب شاملة، إضافة إلى قضايا أخرى.
وعلقت صحيفة “يديعوت أحرونوت” العبرية، على عودة الحرب في سوريا ومن يقف ورائها، مؤكدة أنّ هناك صلة وثيقة بين الهجوم المفاجئ الذي شنته التنظيمات الإرهابية على حلب ووقف إطلاق النار في لبنان.
وكشف المرصد السوري لحقوق الإنسان، عن وجود عملية تدريب ممنهجة امتدت لأشهر، قام خلالها ضباط من أوروبا الشرقية بتأهيل عناصر “هيئة تحرير الشام” على تقنيات تشغيل الطائرات المسيّرة التركية، ما يُعزز بشكل جوهري فرضية التورط الأمريكي الإسرائيلي الغربي المباشر في تخطيط وتنفيذ هذه الهجمات، وذلك بضوء أخضر تركي.
إضعاف الجبهة اللوجستية لمحور المقاومة:
وعن التوقيت الاستراتيجي لعودة الحرب في سوريا، المتزامنة بشكل مباشر مع تنفيذ اتفاق وقف إطلاق النار بين المقاومة اللبنانية وكيان العدو الصهيوني، يقول الصحفي والناشط السياسي يحيى الشرفي: عودة الحرب في سوريا، في هذا التوقيت تكشف عن مخطط أمريكي إسرائيلي تركي يستهدف سوريا وأمنها واستقرارها، لأنه من المعروف أن الجماعات الإرهابية التي تواجهها سوريا داخلياً مدعومة وحليفة للاحتلال الإسرائيلي ورأينا جميعاً مواقف الخزي والعار لمن يسمون أنفسهم نشطاء المعارضة السورية في محادثات ولقاءات عبر السوشيال ميديا مع شخصيات إسرائيلية خلال طوفان الأقصى وهم يؤيدون الغارات الإسرائيلية على بلادهم سوريا وما سبق ذلك من دور إسرائيلي داعم للجماعات الإرهابية التي كانت تقاتل النظام السوري ويقدم لها الاحتلال الإسرائيلي الدعم الاقتصادي والصحي والإسعافي في مستشفيات الاحتلال، بالإضافة إلى ذلك فرض الولايات المتحدة على النظام السوري العقوبات الاقتصادية، التي تعرف بقانون (قيصر) بهدف إضعاف النظام في مواجهة الجماعات المسلحة الإرهابية.
ويؤكد الشرفي في تصريح خاص إن سوريا تمثل العمق الجغرافي والجبهة اللوجستية لمحور المقاومة القريب من الاحتلال الإسرائيلي، وتعتبر الممر الآمن الذي يوفره محور المقاومة لانتقال الأسلحة والشخصيات العسكرية والمجاهدين ضد الاحتلال الإسرائيلي وتلقي إمدادات الدعم والتموين من إيران والعراق وصولاً إلى لبنان والمقاومة الفلسطينية داخل فلسطين المحتلة.
ولهذا تعد سوريا منصة باليستية لمحور المقاومة ضد الاحتلال الإسرائيلي فهي تمتلك منظومات صاروخية تجعلها قاعدة استراتيجية متقدمة لمحور المقاومة في أي صراع إقليمي، وتمثل سوريا مرتكزاً في التوازن الاستراتيجي فهي الورقة الرابحة التي تساهم في رسم معادلات جديدة في المنطقة بالنظر إلى النفوذ الغربي والحضور العسكري الأمريكي مع الإسرائيلي وأدواتهما العربية في المنطقة وبالتالي فإن سورية بعمقها الجغرافي مهمة جداً وعقبة كبيرة أمام مشروع “إسرائيل الكبرى”.
ويوضح الشرفي أن المصالحة بين الدولة السورية وحركة المقاومة الإسلامية حماس خلال الأعوام الأخيرة عزز من قدرة المحور المقاوم للاحتلال على مواجهته وما حدث في طوفان الأقصى كان من نتائج هذه المصالحة المهمة، مؤكدا أن ثقل الساحة السورية في موازين القوى الإقليمية، وقوة تأثير دور الدعم السوري في حماية القضية الفلسطينية هو من العوامل التي دفعت لعودة الحرب، وتدفع الكيان إلى عدم الغفلة عن الجبهة السورية؛ فالأخيرة شريكة في مواجهة العدوان على غزة، جنبًا إلى جنب مع باقي قوى المقاومة، وفق قاعدة “وحدة الساحات” التي تلحظ استقلالية كل ساحة وخصوصياتها، وتسمح لكل ساحة بهامش من المرونة تتحرّك فيه وفق إمكانياتها وظروفها، وتحدد بناء عليه آليات مشاركتها الفاعلة.
ووفق الشرفي فإننا أمام جبهة مهمة جداً في محور المقاومة يسعى الاحتلال الإسرائيلي للقضاء عليها، فهي جبهة الدعم اللوجستي للمقاومة سواء في لبنان أو فلسطين المحتلة وبالتالي فإن الاحتلال الذي يعمل على تفكيك وحدة الساحات وفصل الجبهات المقاومة يدرك أهمية تحييد جبهة سوريا اللوجستية التي تمد المقاومة المسلحة للاحتلال بكل ما تريد من سلاح وغيره.
وفي تطورٍ بالغ الدلالة، برزت مؤشراتٌ قطعية تكشف عن الدور التركي المحوري، باعتبارها الراعي الرئيسي للجماعات الإرهابية، في العمليات العدائية المستهدفة للعمق الاستراتيجي لمدينة حلب.
وفي هذا السياق، كشف محللون إعلاميون متخصصون في الشأن السوري، أن “المركز التركي يتبنى سياسة الأبواب المفتوحة تجاه هيئة تحرير الشام والتنظيمات الإرهابية، حيث يضطلع الجيش التركي بدورٍ محوري في تزويدهم بالعتاد العسكري المتطور، مع تكثيفٍ ملحوظ لتحركاته العسكرية وتعزيز تحصيناته الاستراتيجية على محاور التماس”.
وفي تأكيدٍ استخباراتي، أفاد مصدرٌ ميداني رفيع المستوى في حلب، في تصريحاتٍ خاصة لقناة الميادين، برصد تحركات لوجستية مكثفة تتمثل في قوافل من العناصر المسلحة والمعدات العسكرية والذخائر الاستراتيجية، تتدفق عبر المعبر الحدودي في باب السلمة، متخذةً مساراً تكتيكياً نحو جبهات الاشتباك في الجبهة الغربية لحلب.
ووفق المحللون الاستراتيجيون فإن التحركات التركية الراهنة تندرج ضمن استراتيجية متكاملة لانتزاع مكاسب جيوسياسية من موسكو في الملف السوري، مستثمرةً حالة التوتر المتصاعد مع روسيا على خلفية الأزمة الأوكرانية المستعرة.
فإن المؤشرات الاستراتيجية للتدخل التركي تُرجّح أن تكون أنقرة بصدد ممارسة ضغوط متصاعدة على المنظومة السياسية السورية لإعادة صياغة مسار المفاوضات”، ويتزامن هذا مع التصريحات التصعيدية الأخيرة لوزير الخارجية التركي هاكان فيدان، الذي وجّه اتهامات صريحة للرئيس بشار الأسد بعدم الجاهزية للانخراط في المسار السلمي، في حين دعا الرئيس رجب طيب أردوغان القيادة الروسية لممارسة نفوذها على دمشق لتحقيق تطبيع العلاقات مع أنقرة.
وعليه، تتجلى استراتيجية حكومة أردوغان في توظيف ورقة الجماعات التكفيرية كأداة جيوسياسية لإحداث خلخلة في المنظومة الأمنية السورية، سعياً لتحصيل مكاسب سياسية وعسكرية من الحكومة السورية، ويأتي هذا التوجه في ظل الموقف الثابت للرئيس الأسد الذي يشترط انسحاب القوات التركية من المناطق الشمالية السورية كمقدمة لأي تطبيع للعلاقات، وهو الشرط الذي يرفض أردوغان الامتثال لمقتضياته.