فلسطينيون عادوا إلى شمال غزة: دمار غير متوقع أشبه بالزلزال
موقع أنصار الله – فلسطين – 21 رجب 1446هـ
كشفت عودة النازحين الفلسطينيين إلى مناطقهم شمالي قطاع غزة عن حجم دمار غير متوقع طاول الغالبية العظمى من المنازل والطرق والمرافق، إذ جعلها جيش العدو أشبه بمناطق تعرضت إلى زلزال مدمر.
وفوجئ آلاف النازحين الفلسطينيين العائدين إلى مناطقهم التي غادروها قسراً في محافظة شمال غزة بحجم الدمار الكبير الذي طاول تلك المناطق، وتحديداً في جباليا ومخيمها وبيت لاهيا ومشروعها وبيت حانون، فكأن زلزالاً ضرب المنطقة بأكملها وجعلها لا تصلح لحياة البشر.
ولم تفرق العملية العسكرية الإسرائيلية التي استمرت أكثر من مائة يوم، في التدمير بين البشر والحجر والشجر، فغالبية الطُرق مغلقة بسبب ما أحدثه جيش العدو فيها، حتى أن معظمها غير صالحة للسير على الأقدام، وعلى جوانب الطُرق منازل تهاوت جدرانها، أو اختفت ملامحها وتحولت إلى أكوام من الحجارة التي انتشرت أيضاً في وسط الشوارع، ومحال تجارية بات ترميمها أو إصلاحها عبئاً على أصحابها بعد أن كانت مصدر رزقهم.
المدارس والعيادات الطبية التابعة لوكالة غوث وتشغيل اللاجئين “أونروا” لم تسلم أيضاً من القصف والدمار والحرق.
في الطرقات وعلى الأرصفة تتناثر العديد من الجثامين المتحللة لشهداء، بعضها لم يتبق منها سوى بعض العظام المتناثرة بعدما نهشتها الكلاب الضالة، فعلى مدار أكثر من ثلاثة أشهر، منع جيش العدو الطواقم الطبية والإغاثية من الوصول إليها لانتشالها ودفنها، كما لم تسلم المقابر من إجرام العدو الذي عاث في إحدى المقابر فساداً، ونبش بعض القبور فيها.
بعد دخول اتفاق وقف إطلاق النار حيز التنفيذ، الأحد، تدفقت أفواج من المواطنين على مناطق شمالي قطاع غزة لتفقد منازلهم بعد انسحاب جيش العدو من تلك المناطق ، وفور وصولهم خيّم الألم والقهر على وجوههم نتيجة مشاهدة الدمار القائم، لكنهم رغم ذلك يصرون على البقاء في الشمال، وإعادة إعماره مهما كان حجم الدمار.
انطلق الفلسطيني كريم حمدان مُسرعاً من مخيم الشاطئ غربي مدينة غزة، والذي نزح إليه قسراً قبل أكثر من مائة يوم، متوجهاً إلى مشروع بيت لاهيا شمالي القطاع، ليكتشف حين وصوله أن منزله بات كومة من الحجارة.
يقول حمدان: “شعرتُ منذ اللحظات الأولى لإعلان وقف إطلاق النار بفرحة كبيرة كوني سأتمكن من العودة إلى منزلي رفقة عائلتي، لكن حين وصلتُ إلى المكان فوجئت بحجم الدمار الذي حلّ بكل المناطق، بداية من حي الصفطاوي شمال غربي غزة وصولاً إلى بيت لاهيا شمالاً”.
يضيف حمدان: “حالة من الصدمة سيطرت عليّ حينما وجدت منزلي مدمراً، ولم يتبق في المكان سوى الحجارة، كما اختفت معالم المنازل المجاورة. ليس من السهل فقد المنزل، فقد كان يؤوي عائلتي. لكننا سنبقى ثابتين في أرضنا مهما كلفنا ذلك من ثمن، وسنعيش على أنقاض بيوتنا، وسنعيد الإعمار حتى تعود الحياة إلى طبيعتها”.
بدوره يقول المحاضر في جامعة الأزهر بغزة، محمد خليل: “فور إعلان سريان وقف إطلاق النار كنت أشعر بمزيج من الأمل والألم والخوف والحزن، وتمر أمام عيني الكثير من الذكريات. كنت آمل أن أجد بيتي كي أعيش فيه، لكن للأسف تلاشى هذا الأمل حينما وصلت إلى أطراف مخيم جباليا، وشاهدت حجم الدمار الهائل”.
يُكمل خليل: “لم نجد شيئاً من المنزل سوى بعض الحجارة، وتوجهت إلى عدد من منازل عائلتي لتفقدها فوجدتها أيضاً أكواماً من الحجارة والركام، ثم توجهت إلى منزل صديقي المقرب، والذي جرى أيضاً تسويته بالأرض. قررنا أن نعيش داخل خيمة بجوار الركام حتى لا نتخلى عن أرضنا وترابنا، رغم أن كل شيء في المخيم تعرض لبطش العدو. مخيم جباليا وكل مناطق شمالي القطاع لا تصلح للحياة، فلا يوجد فيها أي مقومات للعيش، لكننا سنعيد بناءها بأيدينا، ونستعيد حياة الاستقرار، وأملنا بوعد الله أن ينصرنا ويثبتنا”.
وبدأ جيش العدو في الخامس من أكتوبر 2024، عملية عسكرية موسعة على شمالي قطاع غزة، وتحديداً مخيم جباليا وبيت لاهيا ومشروعها وبيت حانون، نفذ خلالها عمليات نسف لمربعات سكنية كاملة بواسطة “روبوتات” مفخخة و”مكعبات بلاستيكية” متفجرة، وخلف ذلك أكثر من 5 آلاف شهيد ومفقود، وإصابة 9500 آخرين، وفق المكتب الإعلامي الحكومي.
عاد الفلسطيني رائد أبو شرخ إلى بيته في مخيم جباليا ليجده مدمراً، وكذا بيوت أولاده، وقد اختفت كل ملامح المخيم، فالكثير من المنازل لا يوجد من جدرانها سوى بعض الحجارة المتراصة فوق بعضها.
يصف أبو شرخ مشاهد الدمار التي حلّت بالمخيم وغيره من مناطق الشمال بأنها “إبادة جماعية لم تفرق بين البشر والحجر. كل معالم البيوت اختفت، واختلطت حجارة البيوت مع بعضها”.
رغم حجم المأساة التي يعيشها أبو شرخ إلا أنه لا يزال يشعر بنشوة العزة، ويردد: “ما حصل أخيراً هو انتصار للشعب الفلسطيني الذي أثبت صموده أمام عنجهية العدو الإسرائيلي، وسنبقى صامدين وصابرين رغم كل البلاء. لن نترك غزة مهما حدث، وسأنصب خيمة فوق أنقاض منزلي في المخيم، وأعيش فيها حتى يتم إعادة الإعمار، وتعود الحياة إلى ما كانت عليه في القطاع قبل الحرب الإسرائيلية”.
ويتضمن اتفاق وقف إطلاق النار ثلاث مراحل، تشتمل المرحلة الأولى، ومدتها 42 يوماً، على وقف كامل لإطلاق النار، وانسحاب وإعادة تموضع قوات العدو خارج المناطق المكتظة بالسكان، وتبادل الأسرى والمحتجزين، وتبادل رفات المتوفين، وعودة النازحين إلى أماكن سكناهم في قطاع غزة، وبدء تدفق المساعدات الإنسانية، وتسهيل مغادرة المرضى والجرحى إلى الخارج لتلقي العلاج.
في محيط مستشفى كمال عدوان في بيت لاهيا، كان المشهد قاسياً أيضاً، فجيش العدو دمّر جدران المستشفى، وعاث خراباً في مختلف أبنيته، وقصف عشرات المنازل الواقعة في محيطه.
تقول الفلسطينية نبيلة سليم: إنها وصلت إلى منزلها في بيت لاهيا سيراً على الأقدام من مخيم الشاطئ غربي مدينة غزة، رغم وعورة الطرق المؤدية إلى المكان، وإن المشاهد التي طالعتها في الطريق كانت قاسية للغاية، وأصابتها فاجعة بعدما رأت حجم الدمار في المنطقة، وحين وصلت إلى منزلها وجدته عبارة عن أسقف مدمرة متراصة فوق بعضها، ولم يعد يصلح للحياة فيه.
تحكي سليم والدموع تنساب على وجنتيها: “قضيت في هذا البيت أجمل سنوات حياتي مع عائلتي، لكن الاحتلال سوّاه بالأرض. من سيُعيد لنا حياتنا الجميلة ولمّة العائلة. لا أستوعب ما حصل حتى اللحظة. مع ذلك سنبقى صامدين في أرضنا ولن نرحل عنها. سُنقيم خيمة، ونعيش فيها معاً، وسنعيد البناء من جديد. ندعو كل المنظمات الدولية للوقوف إلى جانب الشعب الفلسطيني المكلوم والمنكوب بفعل حرب الإبادة الإسرائيلية التي استمرت أكثر من 15 شهراً، وطاولت كل مناحي الحياة، ونطالب بتقديم الدعم اللازم لاستعادة الحياة في غزة”.
إلى بلدة بيت لاهيا، عاد الفلسطيني خليل نبيل لتفقد منزله في الساعات الأولى لدخول الاتفاق حيز التنفيذ، وارتسمت مشاعر الألم والقهر على ملامحه حين شاهد إجرام الاحتلال الذي لم يُبقِ شيئاً على حاله. كان ينظر يميناً ويساراً طيلة سيره في الطرقات المدمرة، ويتساءل بُحرقة “ما كل هذا الدمار؟ كيف سنعيش هنا؟”.
يقول خليل: “هذا البيت المدمر كان يمثل الحياة الآمنة، والحضن الدافئ الذي ضمّنا على مدار سنوات، والآن أصبح أكواماً من الحجارة، وضاعت معه كل الذكريات والأحلام التي عشناها فيه. هذه حرب إبادة ممنهجة بحق الشعب الفلسطيني وممتلكاته. لن نترك منازلنا، وسنواصل إزالة الركام، وإعادة الإعمار”.
وخلف العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة خلال خمسة عشر شهراً متصلة نحو 47 ألف شهيد فلسطيني، ونحو 12 ألف مفقود، جلّهم من النساء والأطفال، فضلاً عن تدمير مئات آلاف المنازل والمحال التجارية، وحرق وتدمير عشرات المستشفيات والعيادات الطبية، وتدميراً واسعاً في البنية التحتية.