هل أصبحت حاملاتُ الطائرات الأمريكية عبئًا استراتيجيًّا في مواجهة التحديات الحديثة؟!
|| صحافة ||
لطالما كانت حاملاتُ الطائرات تُعد من أبرز الرموز القوية للقوة البحرية الأمريكية، حَيثُ كانت تُعتبر عناصرَ حاسمةً في تنفيذ العمليات العسكرية البرمائية والجوية، ومِنصات رئيسية للردع والضغط في الصراعات الإقليمية والدولية، لكن منذ بداية المواجهات بين البحرية الأمريكية والجيش اليمني، شهدنا تحولًا ملحوظًا في ميزان القوى العسكرية البحرية؛ مما أثار العديد من التساؤلات حول مستقبل حاملات الطائرات المملوكة لواشنطن، ودورها في الحروب المستقبلية.
ومع ذلك، ومع تقدم الأسلحة المتفوقة والأنظمة الدفاعية التي تمتلكها دول كبرى ومن بينها اليمن، والتي نجحت في تطبيق استراتيجية “منع الوصول/ منع الدخول” (A2/AD) بفعالية، وهي استراتيجية تهدف إلى منع وصول أَو دخول الحاملات إلى مناطق استراتيجية، ظهرت تحديات جمة تهدّد مكانة حاملات الطائرات كأدوات رئيسية في المعارك البحرية الحديثة.
الأنظمة الدفاعية المتقدمة، مثل الصواريخ الباليستية بعيدة المدى، الصواريخ المضادة للسفن، والطائرات بدون طيار، باتت تشكل تهديدًا حقيقيًّا لحاملات الطائرات؛ إذ أصبحت هذه السفن العملاقة غير قادرة على العمل بحرية في مسارح العمليات عالية المخاطر كما حدث مؤخّرًا معها في البحرَينِ العربي والأحمر.
تُبرز هذه التطوراتُ الفجوةَ المتزايدةَ بين القوة البحرية التقليدية المعتمدة على حاملات الطائرات، وبين القدرة الدفاعية المتقدمة التي باتت تمتلكها اليمن؛ مما يدفع إلى إعادة تقييم قدرة هذه الحاملات على الصمود في وجه تهديدات حديثة من أسلحة تكنولوجية رخيصة وفعّالة استطاعت تقليص دور هذه الحاملات في مسرح العمليات.
هذا الواقع يعيد طرح السؤال حول الاستدامة المستقبلية لحاملات الطائرات كأدَاة من أدوات القوة البحرية، ويثير النقاش حول التحولات التي تشهدها ساحات القتال البحرية في العصر الحديث وكيفية تكيُّف الأساطيل البحرية الكبرى مع بيئة تهديدات متزايدة ومعقَّدة.
في هذا السياق يؤكّـد الكاتب براندون جيه ويتشرت في مقال نشره في مجلة ذا ناشنال انترست أواخر 2024 بعنوان (انتهى عصر حاملات الطائرات لكن البحرية الأمريكية لن تعترف بذلك) أن حاملات الطائرات التابعة للبحرية الأمريكية، التي كانت في يوم من الأيّام رموزًا مهيمنة للقوة العسكرية الأمريكية، أصبحت معرضة للخطر بشكل متزايد بفعل صعود أنظمة منع الوصول والدخول (A2/AD).
هذه الأنظمة، التي تتميز بأنها أرخصُ وأسهلُ في الانتشار مقارنة بالأنظمة العسكرية التقليدية، تهدّد بتهميش دور حاملات الطائرات في الصراعات العسكرية المستقبلية، ويرى ويتشرت أن تزايُدَ فعالية أنظمة A2/AD، التي تشمل صواريخ بعيدة المدى وطائرات مسيَّرة وصواريخ مضادة للسفن، يضع حاملة الطائرات في موقف صعب، مما يجعلها أكثر عُرضةً للهجوم ويحد من قدرتها على العمل بحرية في مناطق استراتيجية.
ويشدّد ويتشرت على أن استمرار هيمنة حاملات الطائرات الأمريكية في المستقبل سيكون مرهونًا باتِّخاذ تدابير دفاعية جديدة، مثل تطوير أنظمة دفاعية متقدمة لمواجهة التهديدات المتزايدة من الأسلحة الحديثة.
بفعل استراتيجية منع الوصول.. اليمن يقيّد حاملات الطائرات:
القوات اليمنية تمكّنت وبجدارة من تطبيق استراتيجية منع الوصول/منع الدخول (A2/AD) بنجاح ضد حاملات الطائرات الأمريكية في البحرَينِ الأحمر والعربي؛ مما أحدث تحولًا كَبيرًا في توازن القوى البحرية في المنطقة ففي حادثة لافتة، تم إبعادُ حاملة الطائرات الأمريكية “ترومان” عن المياه الإقليمية اليمنية بمسافة تجاوزت 1020 كم، وهو ما يعد تطورًا غيرَ مسبوق في القدرات اليمنية، وهذه الحادثة لم تكن الأولى من نوعها، حَيثُ سبقتها حالات مماثلة مع حاملات طائرات أمريكية أُخرى مثل “أيزنهاور” و”روزفلت” وغيرهما والتي اضطرت إلى مغادرة مسرح العمليات القتالية تحت تهديد الهجمات اليمنية بل وامتدت العمليات اليمنية ضد حاملة الطائرات ترومان على بعد أكثر من ألف كم، وهذا تطور غير مسبوق.
إن استراتيجية “منع الوصول/منع الدخول” (A2/AD) ضد حاملات الطائرات هي مجموعة من التكتيكات والأنظمة الدفاعية التي تهدف إلى تقليص قدرة حاملات الطائرات على الوصول إلى مناطق استراتيجية أَو العمل بحرية في مسارح العمليات العسكرية، وتعتمد هذه الاستراتيجية على استخدام مجموعة من الأسلحة والتقنيات المتطورة مثل الصواريخ الباليستية بعيدة المدى، والصواريخ المضادة للسفن، وأنظمة الدفاع، والطائرات المسيرة، بالإضافة إلى الحرب الإلكترونية، وكلها تساهم في تعطيل قدرات حاملات الطائرات قبل أن تتمكّن من تنفيذ مهامها أَو التحَرّك بحرية، والغرض من هذه الاستراتيجية هو تقليل فعالية حاملات الطائرات كأدوات أَسَاسية للضربات الجوية والردع البحري في مناطق ذات تهديدات عالية.
وقد تمكّن الجيش اليمني من تطبيق هذه الاستراتيجية في مضيق باب المندب وخليج عدن وَالبحر الأحمر والعربي، حَيثُ أصبحت حاملات الطائرات عرضة للهجوم من أسلحة متطورة جعلها لا تجرؤ على الاقتراب من هذه المناطق.
في حالة حاملة الطائرات “ترومان”، لم تقتصر العمليات على تهديد وجودها في المياه الإقليمية اليمنية فحسب، بل امتدت إلى، حَيثُ تتواجد في منطقة بين جدة وينبع لتجبرها على الهروب؛ مما يدل على عجز الحاملة عن البقاء في المنطقة؛ كونها تحت التهديد المُستمرّ.
ما حدث مع البحرية الأمريكية مؤخّرًا يعكس تحولًا في أساليب المواجهات العسكرية البحرية، حَيثُ لم تعد الأسلحة المتقدمة والتكنولوجيا الدفاعية هي العامل الحاسم في تحديد التفوق العسكري، وهذه التطورات أَدَّت إلى تحول حاملات الطائرات من أدوات استعراض للقوة إلى عبء استراتيجي؛ ما يضعفُ من فائدتها في مواجهة التهديدات المتزايدة من أسلحة يمكن تطويرها بتكلفة منخفضة نسبيًّا.
في 18 يناير2025 أعلنت البحريةُ الأمريكية أنها قامت بتحديث سفينة القتال الساحلية من فئة فريدوم يو إس إس إنديانابوليس لإطلاق صواريخ AGM-114L Longbow Hellfire الموجهة بالرادار لاستخدامها في أنظمة مكافحة الطائرات بدون طيار.
ووفقًا لموقع (تاسك آند بيربوس) العسكري فَــإنَّ هذا القرار يأتي على وجه التحديد بعد أشهرٍ من القتال بين القوات الأمريكية والبريطانية من جهة، والقوات المسلحة اليمنية من جهة أُخرى، مُشيرًا إلى أنه منذ أشهر كان الجيش الأمريكي يبحث عن طرق أكثر فعالية من حَيثُ التكلفة والكفاءة للتعامل مع الخطر المتزايد للطائرات بدون طيار المعادية منذ انطلاق العمليات اليمنية البحرية، وقد شدّد الجيش الأمريكي على الحاجة إلى تكنولوجيا أرخصَ لمكافحة هذا النوع من الطائرات.
وفي هذا السياق يرى خبراء عسكريون أن نجاح هذه السفن في مواجهة التهديدات الحالية والمستقبلية يبقى موضوعًا معقَّدًا؛ فصواريخ Hellfire كانت تُستخدَم سابقًا ضد أهداف أكبر مثل المركبات الأرضية، ولكن استخدامها ضد الطائرات الصغيرة والسريعة يتطلب تكييفًا تقنيًّا متقدمًا، حَيثُ من المحتمل أن تحتاجَ هذه الصواريخ إلى تحسينات في أنظمة التوجيه والاستشعار لتكون فعالة ضد الطائرات بدون طيار.
علاوة على ذلك، فَــإنَّ تكلفةَ استخدام هذه الصواريخ بشكل مُستمرّ ضد أهداف صغيرة قد تكون غير فعالة اقتصاديًّا مقارنة بالأساليب الدفاعية الأُخرى مثل أنظمة الليزر أَو الذخائر المتسكعة، التي تتمتعُ بقدرة أكبر على التعامل مع الهجمات المتعددة بتكلفة أقل، وفي المقابل تعتبر المسيَّراتُ التي يستخدمها الجيش اليمني من الطائرات المسيرة المتطورة، وتتمتع بأنظمة توجيه عالية الدقة، ومجهزة بتقنيات التشويش التي تجعلُها أكثرَ صعوبةً في الكشف أَو الاستهداف بواسطة الأنظمة الدفاعية التقليدية.
هذه الطائرات قادرة على الطيران لمسافات طويلة، وتحقيق أهداف دقيقة على السفن البحرية؛ ما يجعل السفن الأمريكية -رغم قدرتها على إطلاق صواريخ متقدمة مثل Hellfire- عرضة لهجمات صعبة التصدي.
اليمن يقلب المعادلات ويعيد برمجة القواعد:
المواجهات التي خاضتها البحرية الأمريكية مع الجيش اليمني طوالَ عام في البحرَينِ الأحمر والعربي أثارت جدلًا واسعًا في أوساط الجنرالات والخبراء العسكريين الأمريكيين الذين يذهب بعضهم للدفاع عن حاملات الطائرات وأن عصرَها لم ينتهِ، وآخرون يذهبون للعكس من ذلك.
ورغم تأكيد البحرية الأمريكية على أهميّة حاملات الطائرات في العمليات البحرية، إلَّا أن التطورات الأخيرة في الحروب البحرية التي تستخدم الأنظمة المضادة للسفن والطائرات المسيرة قد جعلت البعض يتساءل عن مدى فاعلية هذه السفن العملاقة في مواجهة التهديدات المتزايدة؛ فهناك آراء تؤكّـد أن عصر حاملات الطائرات قد بدأ في التراجع؛ بسَببِ ظهور التهديدات المتطورة التي يمكن أن تستهدفَ هذه السفن العملاقة.
وقد شكّل تزايدُ استخدام الطائرات المسيرة وَالصواريخ بعيدة المدى، تهديدًا حقيقيًّا على حاملات الطائرات، خَاصَّة عندما تكون في مناطقَ قريبةٍ من ساحات القتال، إضافة إلى استراتيجية منع الوصول والدخول التي تعطل مهامَّ الحاملات ولعل المواجهات البحرية مع الجيش اليمني كانت خيرَ مثال على ذلك، حَيثُ استطاعت القوات المسلحة اليمنية استخدام الصواريخ المضادة للسفن والطائرات المسيرة لاستهداف سفن البحرية الأمريكية، ما أثار تساؤلاتٍ حول قدرة حاملات الطائرات على التكيف مع هذه التحديات.
في يناير 2025 نشر الكاتبُ جوزيف رايلي مقالًا في مجلة مجلة “انترشنال انترست” قال فيه: إن “حاملة الطائرات لم تعد الخيار الأنسب للعمل في الخطوط الأمامية؛ بسَببِ التطورات التكنولوجية الهائلة في أنظمة الأسلحة الهجومية، مثل الصواريخ الأسرع من الصوت وأنظمة منع الوصول ومنع الدخول (A2/AD)، وهذه التطورات تجعل استخدامَ الحاملات في تلك البيئات محفوفًا بالمخاطر”.
وعلى مدى عقدين صبت البحرية الأمريكية مواردها واستراتيجياتها لمواجهة خصوم مثل الصين، متوقعة صراعًا في المحيط الهادئ مع قوة بحرية منظمة ومجهَّزة بأحدث التقنيات، غير أن ما حدث في البحر الأحمر كان مختلفًا تمامًا، حَيثُ اصطدمت بـ “أعداء” لا يمتلكون نفس القدرات المادية والتنظيمية التي تملكها الصين، ولكنهم نجحوا في تطبيق استراتيجيات وتقنيات عسكرية جعلت السفن الأمريكية عرضة للتهديدات بشكل غير مسبوق، وَأَيْـضًا أنهت زمن حاملات الطائرات الأمريكية في البحرَينِ الأحمر والعربي؛ فقد أَدَّت الهجمات اليمنية، التي اعتمدت على الطائرات المسيَّرة المتطورة والصواريخ الباليستية بعيدة المدى، إلى طردِ حاملات الطائرات الأمريكية وسحبها من مناطق استراتيجية كانت تحت الهيمنة الأمريكية، وهو مشهدٌ لم تشهده البحرية الأمريكية منذ معاركِها الكبرى في المحيط الهادئ خلال الحرب العالمية الثانية.
وفي هذا السياق يقولُ الأدميرال مايكل جيلداي، رئيسُ هيئة الأركان البحرية الأمريكية: “لقد كانت تجربة البحر الأحمر بمثابة جرس إنذار حقيقي، على الرغم من أن أعداءنا لا يمتلكون نفس القدرات التقليدية التي نواجهها في مناطق أُخرى مثل المحيط الهادئ، إلا أن التطور في استراتيجياتهم واستخدامهم المبتكر للأسلحة يشير إلى أن التهديدات المستقبلية ستكون أكثر تعقيدًا. نحن بحاجة إلى مواكبة هذا التغير بسرعة”.
بينما الأدميرال تشارلز ريتشارد، قائد القيادة الاستراتيجية الأمريكية، علّق قائلاً: “الهجوم على حاملات الطائرات في البحر الأحمر لم يكن مُجَـرّد اختبار لقدراتنا العسكرية، بل كان اختبارا لاستراتيجياتنا بأكملها. نحن بحاجة إلى تعديل نهجنا لمواجهة التهديدات غير التقليدية التي تتضمن أسلحة ذات تكلفة منخفضة ولكن تأثير كبير، فتطبيقُ تقنيات جديدة مثل الطائرات المسيرة والصواريخ الموجهة يغير قواعد اللعبة بشكل جذري”، مؤكّـدًا أن حاملات الطائرات “ترومان”، و”أيزنهاور” و”روزفلت”، ضحيةٌ لهذه التهديدات، حَيثُ تم إبعادها عن المنطقة.
والمفاجأةُ الكبرى تكمُنُ في أن هذه الهجمات لم تأتِ من قوة مثل الصين أَو روسيا، بل من قوة ناشئة تفتقر إلى الموارد الهائلة والتقنيات المعقدة التي تمتلكها تلك الدول ومع ذلك، استطاعت القوات اليمنية، من خلال استخدام أسلحة منخفضة التكلفة وفعالة، تحقيق ما لم تتمكّن قوى كبرى من تحقيقه في مواجهة البحرية الأمريكية.
وما يزيد من حرج الموقفِ الأمريكي هو أن البحرية الأمريكية لم تكن مستعدة للتعامل مع هذا النوع من التهديدات الاستراتيجية، وقد أظهرت المواجهةُ في البحر الأحمر أن التهديدات غير التقليدية يمكن أن تكون أكثر تعقيدًا وإرباكًا، كما أن الإنفاق العسكري الأمريكي الهائل لم يُترجَمْ إلى قدرة على مواجهة استراتيجيات ذكية ومبتكرة من خصم يمني أثبت أنه يمتلكُ القدرةَ على توظيف موارده المحدودة بشكل فعال.
صحيفة المسيرة: كامل المعمري