الذكاء الإعلامي لحركة حماس وأهالي الجنوب اللبناني يؤرِّق العدو الصهيوني
||صحافة||
طوفان الأقصى كان طوفانًا حقيقيًّا بكل ما تعنيه الكلمة وعلى المستويات كافة ومنها الإعلامي، فقد نشرت المقاومة الفلسطينية مقاطع مصورة وصورًا متنوعة لطوفانها منذ ساعات الصباح الأولى في السابع من أكتوبر. وكان هذا دأبها خلال معركتها الضروس مع الاحتلال الصهيوني في قطاع غزة، وحتى بعد الحرب خلال تسليم الأسرى الصهاينة بعد سريان اتفاق وقف إطلاق النار، فصورت ظهور مجاهديها مع بزوغ شمس الانتصار في 19 من كانون الثاني/ يناير بين جموع الغزاويين في سياراتٍ تلمع وبلباسٍ عسكريٍّ كامل واليد دائمًا على الزناد. في المشهد اللبناني لم يختلف الأمر كثيرًا فمع انتهاء مهلة الـ 60 يومًا لاتفاق وقف إطلاق النار بين الصهاينة ولبنان انسكبت مشاهد عودة الجنوبيين إلى القرى الحدودية رغم بقاء جيش العدو وطردوه من عدة قرى وبقيت أخرى ما زالت تشهد تحدي أبناء الأرض للمحتل الذي قتل منهم 22 لبنانيًّا في اليوم الأول للتحرير الثالث. المشاهد التي رسمها مجاهدو “القسام” وأهل قطاع غزة أبناء جلدتهم وأهالي جنوب لبنان أحدثت خللًا في تطلعات الصهاينة وضربت بكيدهم عرض الحائط. فما أثر الصورة والمشهد المصور في إيصال الرسائل للعدو؟ وكيف كان تأثيره في الكيان أقسى من صوت صفارة الإنذار؟
الصدمة المنتشرة في كيان العدو فضحتها تصريحاتٌ لمحلِّلين صهاينة، فقد اعترف محلِّل الشؤون العسكرية في صحيفة “يديعوت أحرونوت” رون بن يشاي قائلًا: “يجب الاعتراف بأن حركة حماس ليست كيانًا دينيًّا متطرفًا وخارجيًّا فرض نفسه على السكان، بل هي “تعبير تنظيمي أصيل” عن تطلعات الأغلبية من أكثر من مليوني نسمة في قطاع غزة. ثقافيًا، وفي الطموحات، وفي الأيديولوجيا، “حماس هي غزة، وغزة هي حماس”. أما الخبير الصهيوني في الشؤون العربية آفي يسخاروف فاعتبر التقصير السياسي الأكبر لحكومة العدو هو إهمالها “الإجرامي” كما سماه في كل ما يتعلق بـ “اليوم التالي” للحرب؛ ” ها نحن قد وصلنا إلى “اليوم التالي”، حتى وإن كان مؤقتًا، و”إسرائيل” تستيقظ من كابوس إلى نفس الكابوس، على الجانب الآخر من الحدود ستستمر حماس في السيطرة، وبناء الأنفاق، وتجنيد المزيد من الأشخاص”. الصورة التي خرجت بها “حماس” في الصباح الأول بعد الحرب بمجاهدين بلباسهم العسكري الكامل وعتادهم المطلوب وسياراتهم التي لا خِدش فيها كشفت اللثام عن أحلامٍ واهية حلم بها كلُّ مستوطن وثق بنتنياهو وأعد العدة لينام مطمئنًّا بعد أكاذيب الانتصارات وسحق حركة “حماس”.
مشاهد تسليم الأسرى وخاصة المجندات أربكت الأوساط “الإسرائيلية”، فإقامة منصاتٍ خاصة والتنظيم المدروس أوصلا رسالة “القسام” إلى عمق الكيان الذي تساءل كل من فيه عن كيفية حصول “القسام” على الزي العسكري الخاص بالمجندات، وعن الهدايا وشهادات الإفراج، فعبَّرت المخرجة “الإسرائيلية” عينات فايتسمان عن إطلاق حركة “حماس” للمجندات الصهيونيات: “يا لَلإخراج! الديكورات، الملابس، الإعداد المسرحي. هكذا يتم إخراج الانتصار المطلق”. أجل الانتصار المطلق الذي وعد به نتنياهو لم يكن للصهيونية المتوحشة بل للإنسانية والمقاومة في غزة، وهذا ما أكدته نقيبة العاملين في الإعلام المرئي والمسموع في لبنان رندلى جبور لموقع “العهد” الإخباري قائلة: “بالنسبة للتنظيم الذي تعتمده حركة حماس بتبادل الأسرى يدل على حضور هذه الحركة، على تماسك هذه الحركة، على الحفاظ على قدرات تنظيمية وإدارية، وعلى تظهير صورة للنصر بأشكال أخرى. وبالتالي حركة حماس كانت ذكية جدًّا بهذا الأسلوب في التعاطي إن كان بالتبادل وإن كان مثلًا بإرسال صورة المجندات اللواتي كُنَّ أسيرات مع خريطة تقول، كيف كانت حماس تعامل الأسرى بعكس الإسرائيليين الذين يعاملون الأسرى الفلسطينيين بوحشية وهمجية، وللتدليل على أن هذه الخريطة هي خريطة غزة التي هزمت إسرائيل وبقيت حاضرة وموجودة للفلسطينيين. فهذا الشكل من التنظيم الذي تعرضه حماس، بعد كل الذي تعرضت له، لا يعني فقط موجودة، بل موجودة بهيكلية متكاملة، بقدرات على الإدارة، التنظيم، الإعلام، الذكاء بإظهار صورة الانتصار”.
عكس تصوير لحظات الإفراج عن الأسرى لحظة بلحظة أيضًا انتصار غزة، وهذا السلوك الإعلامي امتازت به كل جبهة المقاومة برأي عميد كلية الإعلام والفنون في جامعة المعارف الدكتور علي الطقش الذي تحدث عن السمات الأساسية التي تميز بها الإعلام المقاوم خلال هذه المعركة “التكامل الإعلامي: حيث تم تقديم مشهد إعلامي متماسك يبرز المواجهة الميدانية في فلسطين كنموذج للنضال الشعبي المستمر، مع التركيز على زعزعة العدو نفسيًا وإعلاميًّا، منع العدو من استثمار الحدث: إذ ركزت وسائل الإعلام المقاوِمة على حرمان العدو من تحقيق أي مكاسب إعلامية، سواء في فلسطين أو في ساحات الإسناد الأخرى، التدرج والتصعيد في الخطاب: بدأ الإعلام المقاوم خطابه بشكل تدريجي، مواكبًا تطورات المعركة منذ لحظاتها الأولى حتى نهايتها، بما يضمن السيطرة على المشهد الإعلامي”. وقد بدا هذا واضحًا في ردود الأفعال “الإسرائيلية”، حيث قالت الأستاذة جبور: “ردود الأفعال الإسرائيلية أكيد هي ردود ممتعضة من رأس الحكومة إلى الإعلام إلى الناس، لأن كل الوقت الذي كانت إسرائيل تكذب فيه على ناسها بأنها منتصرة وستقضي على المقاومة وسوف تستعيد الأسرى بالقوة، هذه الصور أظهرت أنها لم تحقق أهدافها؛ لم تقضِ على المقاومة لم تستعد الأسرى بالقوة، واضطرت بالعكس إلى أن تعمل كثيرًا حتى تقدر على استعادتهم. ولذلك بقدر ما أزعجتها هذه المشاهد، بقدر ما كان لهذه المشاهد انعكاس سلبي على الجمهور الإسرائيلي، وصورت حقيقةً أن الفلسطينيين منتصرون.. لذلك أوقف الإسرائيليون تسليم 110 أسرى فلسطينيين…وانزعاجهم هذا يدل على أن هذه الصورة انتصرت عليهم يعني حتى الصورة، بالصورة انتصرت حماس على إسرائيل”.
اختيار المقاومة الفلسطينية تسليم الأسرى بين الناس وركام المنازل ومن أمام منزل الشهيد القائد يحيى السنوار، كانت له رسائل إضافية منها أن الناس والبيئة الحاضنة متمسكّان بخيار المقاومة ” صور المجندات واختيار التسليم بين الناس هو أيضًا تظهير أن حماس لم تبق كمقاومة عسكرية فقط، إنما البيئة الحاضنة بقيت وهي حاضرة موجودة، وأن الغزاويين مؤمنون بهذا النصر وأنهم حاضرون وشهود على هذا النصر”، ويضيف د. الطقش في هذا الإطار: “اتسع نطاق المشاركة الشعبية في المشهد الإعلامي للمقاومة من خلال التعبئة الرقمية عبر الضغط الجماهيري المكثف على مختلف المنصات الرقمية، والمشاركة الشعبية الفعلية في الفعاليات والمسيرات، سواء في صنعاء، بغداد، جنوب لبنان، أو غزة”. كما أشار إلى ثوابت في الخطاب الإعلامي المقاوِم تمثلت باعتماده قاعدة ثابتة في مختلف ساحات المواجهة وهي عدم إعطاء العدو فرصة لتقديم نفسه بمظهر المنتصر أو بصياغة مشهد إعلامي يخدمه أمام جمهوره الداخلي والخارجي. ويؤكد هذا الطرح الغضب العارم للمتطرف إيتمار بن غفير، إذ صرح حول صور الدفعة الثالثة من تسليم الأسرى “الصور القادمة من غزة تؤكد أن ما جرى حتى الآن لم يكن نصرًا كاملًا بل هو فشلٌ كاملٌ”.
المشهد الشعبي تلخص برائعة عودة أهالي غزة إلى منازلهم المدمرة وخاصة أهالي الشمال الذين عبروا محور نِتساريم بحشدٍ كبير، كما الزحف المواجه لأهالي جنوب لبنان نحو القرى والبلدات الحدودية مع فلسطين المحتلة. وهذه العودة المباركة للشعبيْن كانت بمنزلة “ضربتين عالراس بيوجعوا” بالنسبة لـ”الإسرائيلي”، فمن الناحية الغزاوية تحدث المحلل العسكري في صحيفة “هآرتس” العبرية عن صور الحشود التي تعبر من ممر نِتساريم نحو ما تبقى من منازل في شمال غزة على أنها تعكس بأرجحية عالية نهاية الحرب بين “حماس” و”إسرائيل”، وأنها تحطم الأوهام حول النصر المطلق التي نشرها رئيس حكومة العدو ومؤيدوه على مدى أشهر الحرب الطويلة. كما قال المحلل العسكري للقناة “14 العبرية”: “غادر المقاتلون اليوم محور نتساريم في قطاع غزة وهم يذرفون الدموع ويشعرون أن كل ما فعلوه منذ أكثر من عام في قطاع غزة ذهب هباءً”.
أما من الناحية اللبنانية فقد انجلت حسرة الصهاينة عن عزم أهل جنوب لبنان على العودة وتحدي المحتلين لأرضهم على عكس سارقي الأرض في شمال فلسطين المحتلة، فقد نقلت قناة كان العبرية عن ضابط “إسرائيلي” كبير: “ليتنا نشهد حافزًا للعودة إلى المطلة كما نراه بين سكان لبنان” كما تداولت مواقع المستوطنين ما مفاده أن “أهالي جنوب لبنان لا يهابون الموت، يقفون أمام الدبابات وقواتنا رغم إطلاق الرصاص عليهم وهم مجردون من الوسائل القتالية”. وتشير نقيبة العاملين في الإعلام المرئي والمسموع في لبنان رندلى جبور إلى أن هذه الصور كانت أيضًا مؤذية لإسرائيل “.. هي أكدت أنها -أي “إسرائيل”- لم تقضِ على المقاومات، لم تقضِ على فكرة المقاومات لم تقضِ على الشعب وعلى البيئة الحاضنة لهذه المقاومة، وأن هذا الشعب حي وقادر رغم كل الضربات على أن يعود ليقف ويقاتل من أجل أرضه، ويحافظ على أرضه ويرجع إليها منتصرًا بصورة بهية وفيها الكثير من العز. يُمكن أن أقول، إن هذه من المرات النادرة التي يتفوق فيها الإعلام إعلام المقاومة على الإعلام “الإسرائيلي”، وهذا أيضًا انتصار إضافي للمقاومات في المنطقة. هذه المرة استطاعت أيضًا أن تتفوق بالصورة الإعلامية”. وهنا كان للإعلام المقاوم دور فعّال في دعم الشعوب المقاومة وشحن طاقاتها الصامدة، أولًا، عبر تنفيذ حملات إعلامية ميدانية تشبه إستراتيجيات العلاقات العامة المكثفة، من اللحظة الأولى وحتى اليوم الأخير من المعركة. ثانيًا، توظيف نظريات التقطير الإعلامي والأجندة الإعلامية ” Agenda Setting ” بفعالية، ما جعل الإعلام المقاوم هو صاحب المبادرة، وليس مجرد رد فعل على إعلام العدو. ثالثًا، الحفاظ على الزخم الإعلامي حتى عملية التبادل وتطبيق اتفاقية وقف إطلاق النار بحسب ما أفاد به عميد كلية الإعلام والفنون في جامعة المعارف د. علي الطقش.
ترجم نشر الصهاينة أخبارًا حول رفع الأهالي العائدين إلى جنوب لبنان أعلام “حزب الله” في أثناء طريق العودة وفي المواجهات مع جيش الاحتلال، وحول رفع المنتظرين حرية الأسرى في فلسطين المحتلة الأعلام نفسها إلى جانب أعلام حركة “حماس”، ومنعهم مظاهر الاحتفال وقمعها، والاعتداء على الطواقم الصحافية وتهديدهم الدائم لها الخوف من الصورة التي صارت أشد بلاغًا وإيلامًا من الكلمات على قلوب الصهاينة في الكيان. فهي تُبدي وتُثبت من المنتصر ومن المهزوم، ومن صاحب الأرض ومن المعتدي المحتل، فابن الأرض يعود إليها زحفًا مع انبلاج ضوء الشمس ومع لسعة الهواء البارد، وصعودًا بين تلالها وجبالها، أما المحتل فلا يعود إلا بضمانات على تأمين الحياة، على عكس ابن الأرض وصاحبها الذي يموت ويفنى جسده لتحيى الأرض ويعود ناسها إليها.. لذا فإن “صاحب الأرض سلطان”.
العهد الاخباري: زينب حيدر