تساؤلات عن حدود التوسع الإسرائيلي وآفاق التنازلات العربية
يحيى الربيعي .
تُعتبر القضية الفلسطينية مفصلا تاريخيا هاما يُبرز طبيعة الكيان الإسرائيلي والآثار السلبية المترتبة على التنازلات العربية المتكررة. فمنذ نشأة الكيان، اعتمد على استراتيجيات توسعية واضحة تهدف إلى اغتصاب المزيد من الأراضي الفلسطينية في إطار المخططات الصهيوني التوسعية لإقامة ما يسمى “إسرائيل الكبرى”.
منذ “وعد بلفور” المشؤوم في 17 نوفمبر 1917، والذي كان مرحلة مفصلية في التاريخ الحديث للصراع مع العدو الإسرائيلي، بدأت ملامح التوسع الاستيطاني تتجلى، حيث تم تقديم الوعد كوسيلة لتأمين دعم يهودي لإنشاء كيانا لهم في فلسطين. ومنذ ذلك الحين، يواصل العدو الإسرائيلي توسعه عبر بناء المغتصبات في أكثر من منطقة.
ساعد العدو الصهيوني في تنفيذ مخططاته التوسعية العديد الدعم اللا محدود من الولايات المتحدة الأمريكية وكذلك الدول الغربية، ناهيك عن التنازلات والتخاذل العربي الإسلامي الذي عزز من ذل وهوان الأنظمة الإسلامية.
ما تحتاجه الأمة العربية والإسلامية اليوم هو الإدراك العميق أن تقديم التنازلات بهذا الشكل المستمر لن يجلب أي بادرة خير، بل إن الاستمرار في استرضاء الكيان يعزز من واقعه الاحتلالي. يجب على العالم العربي والإسلامي أن يبدأ في إعادة تقييم استراتيجياتهم، من خلال اتخاذ مواقف حازمة؛ دعما للشعب الفلسطيني.
في ظل هذه الظروف، ما زال السؤال يطرح نفسه: ماذا فعل العرب والمسلمون لمواجهة هذا المشروع الصهيوني الذي يتغذى على انقساماتهم وتنازلاتهم؟ ألم يأن لهذه الأمة بعد بأن تدرك حقيقة أن الجهاد يتطلب جبهة موحدة، وتعزيز دعم المقاومة الفلسطينية بكل أشكالها.
الواقع العربي
الصهاينة لا يخافون العرب حتى أثناء اجتماعهم ، وإنما يستمرون في خطاهم التآمرية. بكل حرية، يقتلون الفلسطينيين ويهجرونهم أو يعتقلون بلا أدنى مبالاة. يشتغلون في بناء المستوطنات وتشجيع هجرة اليهود من أقطاب العالم لتوطينهم فيها. هكذا يضع الشهيد القائد السيد حسين بدرالدين الحوثي النقاط على الحروف فيما يتعلق بالواقع العربي. والذي أكد في إحدى محاضراته “لم نسمع بأن إسرائيل أعلنت حالة الطوارئ أو أنها رفعت الرشاشات المضادة للطائرات فوق أسطح المنازل أو.. أو.. تحسباً لأي شيء من قبل العرب عند اجتماع زعمائهم في الدوحة أو في أي منطقة أخرى.. لماذا؟”، “لأنهم قد عرفوا وفهموا أن هذه الأمة قد قضوا عليها، وفعلاً قضوا عليها، لكن بواسطة من؟ بواسطة زعمائها، دولها الغبي”.
ويؤكد- أيضا- أن الأنظمة العربية “غبية فعلا وعاجزة فعلاً عن أن تواجه اليهود حتى في المجال الإعلامي وحده، كم يملك العرب من محطات التلفزيون والقنوات الفضائية؟ هل استطاعوا أن يخلقوا رأياً عالمياً مضاداً لإسرائيل؟ لا.
التوسع الاستيطاني والهيمنة
مع تصاعد عمليات الاستيطان، يمكن ملاحظة كيف تُبتلع الضفة الغربية تدريجيا في حلقة مفرغة من التوسع الذي يقوده الكيان الصهيوني، بينما يستعد هذا الكيان لاستئناف حربا جديدة في غزة، كما تشير التقارير الواردة من القناة الـ 12 العبرية. تعكس هذه المعطيات بوضوح أن الإسرائيليين يعتمدون على شتى الوسائل، سواء كانت سياسية، اقتصادية أو عسكرية، من أجل إحكام قبضتهم على هذه المنطقة الحيوية.
ومع استمرار الحصار على غزة، وتحويلها إلى منطقة غير قابلة للعيش، تبرز الخطة السياسية التي طرحها ترامب كأحد أكبر التحديات أمام الحقوق الفلسطينية. تُعتبر تلك الخطة تجسيدًا للطموحات الاستعمارية، وتثير المخاوف حيال إمكانية تحوّل الأفكار المجنونة حول تهجير الفلسطينيين إلى واقع ملموس. إن الظروف الراهنة تُشير إلى احتمال حدوث مشاريع إعادة إعمار ضخمة في غزة، ولكن هذه المشاريع ليست سوى غطاءً لإنشاء مستوطنات يهودية جديدة، وليس عودة الفلسطينيين إلى منازلهم.
حتى في ظل رفض الدول المجاورة مثل مصر والأردن لتهجير الفلسطينيين إليها، فإن المشروع الاستعماري الصهيوني المدعوم أمريكيا سيستمر في سعيه لتحقيق أهدافه. يمكن أن يؤدي هذا الأمر إلى تحول جذري في التركيبة السكانية للمنطقة، بما يخدم الأجندة الاستعمارية. وفي نهاية المطاف، على العرب أن يتخذوا مواقف واضحة بشأن استيعاب الفلسطينيين، فالأمر في النهاية لا يعني الغاصب شيئًا.
التطبيع خيانة
يطرح الواقع العربي اليوم تساؤلات مُلحّة حول جدوى التطبيع مع العدو. فالهرولة نحو التطبيع لا تمثل فقط التفريط في الحقوق الفلسطينية، بل تقضي على الحد الأدنى من التضامن العربي والإسلامي مع القضية. الأعداء المتربصون بالمصير العربي يتربصون بكل خطوة تمهد الطريق لمزيد من الهيمنة.
هنا، ألا يُعتبر التطبيع مع العدو الإسرائيلي مسارا يقدّم تنازلات مجانية في ظل واقع استعماري متعمق، وليس نجاة كما يُروج له البعض؟ إنَّ هذا التطبيع يُعد بمثابة قربانا يُقدّم للعدو الصهيوني، مما يزيد من شهيته للتوسع والهيمنة على المزيد من الأراضي، ويُضعف موقف الفلسطينيين.
بالتالي، يجب على الأمة أن تشرع في فهم المخطط الصهيوني، وتبدأ مرحلة التحرر من هيمنته بدعم المقاومة، وأن تدرك أن القوة الحقيقية تكمن في الوحدة والتضامن. التاريخ أثبت أن التنازلات والفشل في التصدي للمخططات الاستعمارية لن تؤدي إلا إلى تفاقم الأوضاع. لذا، يجب أن يكون هناك إدراك جماعي بأن الجهاد من أجل الحقوق المشروعة يتطلب التشبث بالمقاومة والعمل من أجل التحرر.
مواجهة الغطرسة الصهيوأمريكية؟
تمثل ثورة “طوفان الأقصى” في 7 أكتوبر 2023 نقطة تحول في الصراع، حيث تصاعدت المقاومة الفلسطينية بشكل غير مسبوق. ومع ذلك، تكشف التداعيات الناتجة عن هذا الصراع عن فشل العقود الماضية في تحقيق السلام المنشود بسبب سياسات التنازلات المستمرة.
وبالتالي، فإنَّ استمرار ثورة طوفان الأقصى، هو الحل الجذري الذي تحتاجه الأمة العربية والإسلامية. فهذه الثورة ليست مجرد مواجهة عابرة، بل هي تجسيد لإرادة الشعوب التي ترفض الظلم والاحتلال. من الضروري أن تنفض الأمة غبار الخوف عن كاهلها وتدرك أن الهيمنة الصهيوأمريكية ليست قدرا مُحتما، بل هي وقائع يمكن مقاومتها وتغييرها.
يجب، كما يكرر قائد الثورة السيد عبدالملك بدرالدين الحوثي، في دعواته مرارا، أن تتجاوز الأمة مرحلة الإحباط والخوف، وتتجاوز الوهم بأن الاستسلام أو الانصياع للضغوط الخارجية سيؤدي إلى الأمن أو الاستقرار. فكلما زاد الضغط على المقاومة الفلسطينية، كلما أكدت قوتها وصلابتها. إنَّ حركة المقاومة الفلسطينية، رغم كل المحاولات لتشويه صورتها وكسر إرادتها، أثبتت أنها قادرة على البقاء ومواجهة التحديات التي تهدد وجودها. وهو ما يعني أن على الأمة العربية والإسلامية، وقبل فوات الفرصة أن تتدبر أمرها مع براثن الخوف والاستكانة.
الوحدة كقوة دافعة
إن استمرار ثورة الأقصى يمثل الأمل في إعادة الروح لمواجهة هذا العدو. لذا، نجد قائد الثورة السيد عبدالملك بدرالدين الحوثي، يستمر في التأكيد على وجوب أن تتجاوز الأمة العربية والإسلامية الانقسامات وأن تقف صفا واحدا في دعم المقاومة الفلسطينية. فالقضية ليست مجرد قتال من أجل الأرض، بل هي معركة من أجل الكرامة والانتماء للهوية الإسلامية والعربية.
في هذه اللحظة التاريخية، ولتحقيق ذلك، ينبغي تعزيز الوعي الجماعي بأهمية الوحدة والعمل على تغيير استراتيجية التعامل مع الاحتلال، يتحتم على الأمة أن تضع الأوهام جانبا، وأن تتجه نحو الفعل الجاد والمقاوم. يقع على عاتقها التزام التمسك بالحقوق الوطنية والتاريخية، والاستمرار في الدفاع عن القضية الفلسطينية، حتى تحقيق العدالة والحرية للشعب الفلسطيني. إن الثورة ليست خيارا، بل هي واجب وضرورة لاستعادة النزاهة والكرامة.
إن معالجة القضية الفلسطينية تتطلب إرادة قوية وحقيقية من الأمة، ورفضا قاطعا لكل أشكال التنازلات التي تؤدي إلى فقدان الحقوق. إنها دعوة للالتفاف حول القضية، وإعادة صياغة الأفق المستقبلي لمستقبل الأمة، آخذين بعين الاعتبار أن تساؤلات اليوم يمكن أن تتحول إلى استجابات فعالة غدا، إذا ما تضافرت الجهود. في النهاية، ستظل فلسطين مركز النضال العربي، ولن تُطفئ شمس حريتها، فهي إرادة صلبة وعزيمة قوية، ولابد أن نصر الله قريب.