الساحل السوري: خطاب التكفير يقود الى إبادة
|| صحافة ||
تكشّفت أحداث سورية التي بدأت الخميس الماضي (6 أذار الجاري) عن مذابح مروعة قامت بها عناصر مسلحة محسوبة على السلطة الجديدة غير الشرعية، وأدت إلى سقوط عدد كبير من الضحايا يتراوح بين مئات وعدة آلاف. ونأت السلطة بنفسها عن هذه الأحداث معتبرة أنها تمت من جانب “عناصر ليس لها مهام عمل”. لكن العديد من صور الفيديو تُظهر أن قوات الأمن كانت مشاركة في هذه العملية التي تخللتها عمليات إعدام بحق المدنيين.
وتشير هذه الأحداث إلى عظم التحديات التي تواجه سورية بعد سقوط النظام السابق. وبينما تعزو السلطة الجديدة جذور اندلاع المواجهات الأخيرة إلى “فلول النظام السابق”، فإن العديد من المؤشرات تفيد بأن المشكلة الأساسية تكمن في سببين مهمين: إقصاء سياسي، وانتقامي طائفي.
غياب الحوار السياسي
لم تنطلق الأحداث الأخيرة من فراغ، إذ سبقتها مجموعة ممارسات بحق أبناء الطائفة العلوية، بعدما تم تحميلهم المسؤولية عن كل مساوئ النظام السابق. وجرت في مرحلة ما بعد سقوط النظام عمليات إقصاء من الوظائف العامة لآلاف الموظفين المدنيين، فضلاً عن حل أجهزة الأمن والجيش التي تضم الكثير من أبناء الطائفة، ما أوجد مشكلة اجتماعية حقيقية. فضلاً عن ذلك، قامت مجموعات مسلحة مؤيدة للسلطة الجديدة باستفزازات متكررة في مناطق الوجود العلوي.
وثمة مشكلة عامة تتمثل في إصرار السلطة المؤقتة التي يرأسها أحمد الشرع (أحمد الجولاني زعيم جبهة النصرة المصنفة سابقًا منظمة إرهابية) على رسم مستقبل سورية بشكل أحادي تقريباً. وعُقد الشهر الماضي على عجل “مؤتمر الحوار الوطني السوري” في دمشق في محاولة لإرساء طابع وطني للقاءات التي تديرها السلطة المؤقتة، لكن غاب عن لجنته التحضيرية ممثلون عن الدروز أو العلويين وهما من الأقليات الكبيرة في سورية، إضافة الى “مجلس سوريا الديمقراطية” الذي يمثل الإدارة الذاتية الكردية، فيما اعتذر مدعوون آخرون عن الحضور بسبب توجيه الدعوة في آخر لحظة. علماً أن اللجنة التحضيرية ضمت خمسة أعضاء من “هيئة تحرير الشام” (جبهة النصرة سابقًا) أو محسوبين عليها من أصل سبعة أعضاء.
مذبحة
جاءت التطورات الأمنية يوم الخميس لتشكل ذروة التوتر السياسي ولتشير إلى هشاشة البنية الأمنية السياسية للسلطة المؤقتة. فبعد ساعات من انتشار صور قتلى العناصر الأمنية التابعين لها على مواقع التواصل، بدأ الحديث عن إرسال تعزيزات مؤازرة لها من فصائل مختلفة من محافظات عدة، وهي فصائل تعدّ ضمن الائتلاف العسكري للسلطة، ومشكلتها أنها تنظر إلى المجتمع العلوي من منطلق عقائدي طائفي وتعتبره كتلة واحدة مسؤولة عن أداء النظام السابق في العقود الماضية. وفي تسجيلات مصورة وزعتها بعض هذه الفصائل قبل التوجه إلى مسرح القتال، توعد المشاركون بقتال العلويين، من دون تمييز بين مقاتل ومدني أو بين متعاون مع السلطة الجديدة أو من هو على خلاف سياسي معها. وبناء على ذلك، لم يكن مفاجئاً أن تقوم هذه العناصر بعمليات تصفية جسدية خارج إطار القانون لكل من هو علوي في ريفي اللاذقية وحماة ومدينة حمص، بعدما كانت تطرق أبواب المنازل وتستجوب ساكنيها حول هويتهم قبل الشروع بقتلهم بدم بارد. لكن المفاجئ أن الحملة اتخذت طابع القضاء على جميع الشباب والرجال، في ما لم يُعفِ مسلحون النساء في حوادث عدة. كما جرت عمليات سلب ونهب و”تعفيش” لحلي النساء والسيارات والمنازل والمحلات في هذه المناطق.
ولم يُلحظ أي دور يذكر للقوى الأمنية الجديدة (الأمن العام) في وقف هذه المذبحة التي وثقتها أشرطة فيديو سجّلها القتلة وقاموا ببثها لغاية المباهاة بالانتقام، ما ساعد على امتداد الأحداث لثلاثة أيام متتالية على الأقل. وتشير مصادر متابعة على الأرض إلى وقوع ألف قتيل مدني كحصيلة أولية، ولا تستبعد وصول العدد إلى أربعة آلاف نظراً إلى وجود عدد كبير من المفقودين، فيما سارعت السلطة الى إزالة الجثث المنتشرة في الشوارع بالجرافات، وفق ما أظهرت صور وُزعت على مواقع التواصل.
وحاول رئيس المرحلة الانتقالية في سورية أحمد الشرع استيعاب الموقف، بعدما وصلت صور المجازر المروعة إلى الخارج وصدرت مواقف غربية تدعو لتحقيق مستقل في ما جرى، فأعلن يوم الأحد تشكيل “لجنة وطنية مستقلة” للتحقيق في “أحداث الساحل السوري”. وقال بيان عنه إن اللجنة ستقوم بـ “الكشف عن الأسباب والظروف والملابسات التي أدت لوقوع هذه الأحداث، والتحقيق في الانتهاكات التي تعرض لها المدنيون وتحديد المسؤولين عنها، والتحقيق في الاعتداءات على المؤسسات العامة ورجال الأمن والجيش وتحديد المسؤولين عنها”. وفي اعتراف بوقوع انتهاكات على يد عناصر رسمية، تعهّد الشرع بمحاسبة كل من “تورط في دماء المدنيين ومن تجاوز صلاحيات الدولة أو استغل السلطة لتحقيق مأربه الخاص”.
لكنَّ وصف ما جرى بأنه تجاوزات لا يعكس بدقة ما حصل على أرض الواقع، لناحية حجم الانتهاكات ورقعة انتشارها وعدد الضحايا. ويُعتقد أن ما جرى سيخلّف تبعات كبيرة على العلاقة بين السلطة المؤقتة من جهة والمجتمعات الأخرى التي امتنعت حتى الآن عن تقديم الولاء لها. ذلك أن أزمة الثقة قد تعاظمت خاصة في ضوء عدم قدرة السلطة المؤقتة على تقديم ضمانات سياسية لهذه المكونات وتقليل هيمنة “هيئة تحرير الشام” على المشهد السياسي السوري وإبعاد العناصر المتطرفة التي تقوم بأدوار أمنية تسيء إلى التنوع القائم في المجتمع السوري.
كما قد تعزز هذه الانتهاكات الجسيمة المطالبات بحماية دولية للأقليات، في ضوء سيادة خطاب التكفير لدى الجماعات المتشددة وتهديدها بالانتقام من الأقليات الدينية، ولا سيما الطائفة العلوية، محملين إياها وزر تجربة النظام السابق ومستعيدين أدبيات تاريخية طائفية ترفض الاعتراف بها أو التعايش معها. ويسهم هذا التمزق في تعزيز الحضور “الإسرائيلي” في سورية، والذي ينتعش الآن بذريعة حماية بعض الأقليات، مضافاً إلى عناوين أمنية.
العهد الاخباري: علي عبادي