في يوم الجمعة الموافق 23 مايو 2025، كان اليمن يشتعل. لم يكن اشتعال نار حرب، بل لهيب ضمير أمة انتفضت بكاملها، رجالاً، شيوخاً وشباباً، لترسم لوحة فريدة من نوعها في تاريخ التضامن الإنساني. بينما تتوالى فصول المأساة في غزة، وتتحول أرضها إلى مقبرة مفتوحة للأبرياء، ينهض الشعب اليمني، قيادة وجيشاً وشعباً، ليقدم للعالم درساً في الوفاء والثبات، ويصدح بصوته المجلجل: "ثباتاً مع غزة.. سنصعد في مواجهة جريمة الإبادة والتجويع".

غزة.. جرح ينزف في قلب الأمة

"هذا الأسبوع كان دامياً، وقاتماً بالإجرام وبالمجازر الفظيعة، ومن أشد الأسابيع مأساويةً على الشعب الفلسطيني في قطاع غزَّة، ومن أقبح أزمنة البشرية، الملطخة بعار التفرُّج على الظلم بحق النفوس الآدمية". بهذه الكلمات المدوية، رسم السيد القائد عبدالملك بدر الدين الحوثي صورة لمشهدٍ لا يمكن للقلوب السليمة أن تتحمله. أرقامٌ لا تزال تزداد قسوة: "استُشهِد وجُرِح ما يزيد على (ثلاثة آلاف) من أبناء الشعب الفلسطيني في قطاع غزَّة، معظمهم من النساء والأطفال". آلافٌ آخرون تحت الركام، أرواحٌ تزهق في الطرقات، وطواقم إسعاف عاجزة، ليس لعجزها الذاتي، بل لـ"همجية القصف الإسرائيلي على كثيرٍ من المناطق بشكلٍ عشوائي، ولِشُحِّ الإمكانيات".

المأساة تتجاوز القصف المباشر، لتشمل إبادة ممنهجة بالحصار والتجويع. لقد وصل الأمر إلى حدٍ لا يصدق: "تتصاعد معدلات الجوع بشكلٍ كبير في قطاع غزَّة، معظم العائلات باتت تتناول وجبة كل يومٍ ونصف، والبعض كل يومين". مشاهد لا تُنسى لنساء تئنّ من الجوع، وأطفال يذبلون، وآخرين يسقطون عاجزين عن المشي. إنه "تجويع وتعطيش مليوني إنسان في قطاع غزَّة"، فضيحة كبرى "لما يسمَّى بالمجتمع الدولي والمنظمات الدولية، وللغرب في المقدِّمة، وأيضاً عاراً على العالم الإسلامي". في هذا الظرف المأساوي، لا يمكن للشعب اليمني إلا أن يكون صوت الوجع، ويد العون، ومضرب القوة.

صنعاء: تفويض شعبي يقود الثورة

في قلب العاصمة صنعاء، تحول ميدان السبعين إلى طوفان بشري هادر، في مشهدٍ يعجز الوصف عن الإحاطة بمدى عظمته. "ثباتاً مع غزة.. سنصعد في مواجهة جريمة الإبادة والتجويع" كان النشيد الذي ردده ملايين اليمنيين، مؤكدين ثبات موقف اليمن المساند للشعب الفلسطيني وقضيته العادلة. لم يكن هذا الحشد مجرد احتجاج، بل كان تأكيداً وتفويضاً مطلقاً للقيادة الثورية، ممثلة في السيد القائد عبدالملك بدر الدين الحوثي.

في لحظة تاريخية، أعلنت الجماهير المليونية عن تأييدها الكامل لـ"العمليات البطولية التي تنفذها القوات المسلحة اليمنية ضد الأهداف الحيوية للعدو الإسرائيلي في عمق الأراضي المحتلة، وما تفرضه من حظر شامل على المطارات والموانئ الصهيونية". صرخت الحناجر بشعاراتٍ تحفر في الذاكرة: "قل للقوات اليمنية.. أنتم صوت الإنسانية"، "حظر بحري.. حظر جوي.. الصوت اليمني يدوي"، "لا ميناء ولا مطار.. حتى إنهاء الحصار". هذه الكلمات لم تكن مجرد شعارات للاستهلاك الاعلامي، وإنما تعبير عن وحدة المصير، وتأكيد على أن قرار اليمن بالدعم والمساندة لغزة هو قرار شعبي ينبع من إرادة الأمة.

إن هذا التفويض المطلق، الذي يمنح القيادة اليمنية قوةً لا تُقهر، هو ما أثمر عن نتائج ملموسة في الميدان. وواقع الحال في الداخل الصهيوني يكشف عن تأثير هذه العمليات: "الملايين هربوا إلى الملاجئ"، و"العديد من شركات الطيران مدَّدت تعليق رحلاتها الجوية إلى فلسطين المحتلة". كما تشير حوادثه التي تكشف أين وصلت درجات الذعر أثناء سماع دوي صفارات الإنذار في فلسطين المحتلة، والتي أدت إلى هروب ثلاثين امرأة إلى الملجأ وترك أطفالهن في الشارع. هذه شهادات حية على أن الموقف اليمني بات فعلاً يؤتي ثماره. ورغم "اثنتين وعشرين غارة" شنها العدو على موانئ الحديدة، إلا أنه ظل فاشلاً تماماً في التأثير على الموقف اليمني، وفاشلاً في ردع الموقف اليمني. فـ"الموقف اليمني منطلق من منطلق إيماني، وقيمي، وأخلاقي، ولا يمكن التراجع عن هذا الموقف أبداً".

اليمن كله ينتفض.. تعز وإب وحجة ومأرب وريمة

لم يكن التضامن اليمني مع غزة حكراً على العاصمة والحديدة، بل امتد إلى عمق كل شبر من أرض اليمن، ليتحول إلى نفير عام شامل.

•           في تعز، أقيمت 42 مسيرة حاشدة، أكد المشاركون فيها أن "موقف اليمن الثابت إلى جانب غزة لا يمكن أن يتزحزح مهما كانت التحديات". ودعوا شعوب الأمة إلى "التحرك والخروج العاجل من هذا العار".

•           في إب، شهدت المحافظة 177 مسيرة جماهيرية، استنكرت المجازر الدموية والدعم الأمريكي، مؤكدة أن "الشعب اليمني لا يمكن أن يتفرج إزاء ما يمارسه العدو الإسرائيلي".

•           في حجة، خرج أبناء المحافظة في 230 مسيرة حاشدة، مرددين شعارات مناهضة للعدو الإسرائيلي الأمريكي، ومؤكدين أنهم "لن يقبلوا بأن يكونوا جزءاً من هذا العار أو جزءاً من هذه الحقبة الحالكة السواد في تاريخ البشرية".

•           مأرب، شهدت 17 مسيرة وعشرات الوقفات، دعا فيها المشاركون إلى "تكثيف الضربات العسكرية لردع العدو ودفعه لوقف العدوان ورفع الحصار عن قطاع غزة".

•           في ريمة، خرج أبناء المحافظة في 65 ساحة، مؤكدين على الاستمرار في نصرة الشعب الفلسطيني و"الفشل الأمريكي باليمن"، و"الاستعداد لتقديم التضحيات".

•           وفي المحويت، وصعدة، وذمار، والبيضاء، والجوف وعمران خرجت مئات المسيرات ومئات الوقفات. "ثباتاً مع غزة.. سنصعد في مواجهة جريمة الإبادة والتجويع".

هذه الحشود المليونية، والتي تجاوزت "ألف ومائة وإحدى وعشرين مسيرة ووقفة"، تأتي تجسيدا لما وصفه السيد القائد بـ"المستوى العالي من الحماس، والتفاعل، والإحساس العالي بالمسؤولية، يعبِّر عن حالة الإيمان، عن الضمير الإنساني". إذ لم تكن الحشود مجرد أرقام من الكتل البشرية، وإنما نبض شعب حي، يرفض الذل والخنوع، ويعي أن صمته سيكون مشاركة في الجريمة.

القيادة اليمنية.. بصيرة وحكمة في زمن الفتنة

إن ما يميز الموقف اليمني ليس فقط حجم التعبئة، بل أيضاً الرؤية الاستراتيجية، والحكمة التي تتجلى في خطاب القيادة. السيد القائد، يحفظه الله، الذي يمتثل لأمر الله "يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ" ذهب ليقدم تحليلاً عميقاً لحالة الأمة. يقول: "الأُمَّة الإسلامية، بعددها الكبير، وإمكاناتها الهائلة، بجيوشها الكثيرة... ثم لا تتحرك". ويصف هذه الحالة بأنها "مؤسفة جداً!" و"عاراً على العالم الإسلامي".

يدعو السيد القائد إلى استنهاض الأمة، فهو يرى أن "هذه الحالة لا يجوز التفرُّج عليها، والسكوت عنها، والتغاضي، والتجاهل تجاهها؛ لأنها حالة خطيرة -بكل ما تعنيه الكلمة- على الأمة، خطيرةٌ في الدنيا، وخطيرةٌ عليها في الآخرة". يذهب أبعد من ذلك ليحلل أسباب هذا التخاذل: "نقصٌ كبيرٌ في الوعي، تراجعٌ كبيرٌ جداً في القيم والأخلاق، نقصٌ حادٌ في الإيمان". هذه الرؤية الشاملة للوضع، وتركيزه على التحريض والتعبئة كجزء من المسؤولية الدينية، لاشك يبرز دور القيادة اليمنية كبوصلة توجه الأمة في أحلك الظروف.

الجيش اليمني.. فاعلية لا تقهر في مواجهة الغطرسة

وفي قلب المعركة، يبرز الجيش اليمني كقوة فاعلة، تثبت أن الإيمان والبسالة يغلبان ترسانات العدو الإسرائيلي الهائلة. بل وتثبت بالفعل لا بالقول: أن من يحتمي به هو أجبن جيش في العالم، أجبن وأذل جيش في العالم، هو يعتمد بالدرجة الأولى على الإجرام، على الإبادة الجماعية". وأن كلمات السيد القائد لم تكن وصفاً عادياً ولا عابراً، وإنما خلاصة تحليل للواقع الميداني، حيث يلجأ العدو إلى "الغطاء الناري الذي يقوم به ضد قطاع غزَّة، يحاول أن يستهدف كل شيء، أن يُدَمِّر كل شيء، أن يقضي على كل الأحياء قبل أن يتقدم مسافة محدودة".

في المقابل، يقاتل "الإخوة المجاهدون في قطاع غزَّة بثباتٍ عالٍ، وبمرونةٍ عالية، وفق متطلبات الميدان، ويستنزفون العدو". هذا الأداء البطولي، المدعوم بالعمليات اليمنية، يجعل "العدو الإسرائيلي يعترف بواقعهم الضعيف والمهزوز، تجاه هذا الصمود والاستبسال الفلسطيني". حتى أن ما يسمى وزير الدفاع الإسرائيلي السابق المجرم غالانت، اعترف بالضغوط الهائلة، والضابط الإسرائيلي الذي قال: "العديد من الجيش الإسرائيلي أصبحوا من المرضى النفسانيين".

لقد تجاوزت العمليات اليمنية حدود البحر الأحمر لتصل إلى عمق الكيان الصهيوني، بـ"ثمانية صواريخ فرط صوتية، وبالِسْتِيَّة، وطائرات مُسَيَّرة". هذا التصعيد النوعي، الذي أدى إلى "مغادرة حاملة الطائرات (ترومان) الأمريكية، بخسارة ثلاث مقاتلات.. وهي تحمل عنوان الفشل"، يثبت أن الجيش اليمني بات قوة إقليمية لا يمكن تجاهلها، وأن تأثيره يتجاوز الحدود التقليدية. إن "الوفاء، عن الثبات على الموقف، عن المساندة للشعب الفلسطيني، عن التأييد الكامل للاستمرار في العمليات بأعلى مستوى ممكن ومتاح" هو جوهر العقيدة العسكرية اليمنية اليوم.

 

 عهد بالنصر والتحرير

إن الموقف الشعبي اليمني، بتعبئته الشاملة، وقيادته الحكيمة، وجيشه الباسل، يمثل نموذجاً فريداً للتضامن الحقيقي في زمن التخاذل. ففي الوقت الذي وصل فيه الحال إلى أن يعترف الصهاينة أنفسهم بأن ما يحدث في  غزة هي إبادة جماعية      ، فإن الشعب اليمني يتعهد بمواصلة النفير العام والتصعيد في العمل والإسناد، حتى يكتب الله النصر والفرج لغزة، ويتحقق وعد الله. إن هذه المسيرات ليست مجرد فعاليات عابرة، بل هي تجديد للعهد للسيد القائد، بتأييد كافة خياراته وقراراته، ومواصلة النفير في سبيل مواجهة العدو الأول للأمة.