موقع أنصار الله. تقرير | يحيى الشامي

 

مع أن تصريحات فانس المفاجئة تعكس انقلاباً واضحاً وكبيراً في السياسة الأمريكية، فهي في الوقت ذاته تبيّن حجم التناقضات المهولة التي تقع فيها سياسة إدارة ترامب، فالأخير -الذي أكثرَ من اتهام سلفه بايدن بالفشل في ملفات عديدة من بينها الملف اليمني- بدى أكثر فشلاً عقب 51 يوما من المواجهات مع اليمنيين، عندما تنازل عن كل تلك الأهداف العالية واستدار بالكامل لدعايته الإعلامية وشعاراته الانتخابية، ورضخ مُرغماً للإرادة اليمنية، وقرر الكف عن المواجهة، والانسحاب من الجبهة البحرية، والتخلي عن أهم أكبر أهداف البيت الأبيض في كل الحكومات، وهو حماية "إسرائيل".

 نتذكر في هذا السياق سيل التصريحات الكبيرة وغير المسبوقة التي أطلقها ترامب نفسه في فترة ترشحه للرئاسة وفي جولات التنافس مع بايدن، ولاحقاً في خطابه بالفوز، ومن بينها اتهامه بايدن باللعب مع اليمن، وأنه يخشى مواجهتهم، وأنه -أي بايدن- أجبن من أن يحمي المصالح الأمريكية، ومنها "الملاحة  الدولية"، و... الخ، لنتذكّر كذلك تهديداته الكبيرة والتي وصفتها الصحافة الأمريكية بأنها الأخطر في تاريخ الحروب الأمريكية، حين قال بالحرف الواحد متوعّداً اليمن "سنستخدم القوة الساحقة والقوة المُميتة"، وهو تعبيرٌ نادراً وربما لم يسبق لزعيم أمريكي أن استخدمه، وبالفعل لم تكن مجرّد تهديدات جوفاء، فقد ألقت أمريكا بثقلها العسكري من حاملات وقاذفات وأسلحة وذخائر لم يسبق لها أن استخدمتها، ثم تكبّدت من الخسائر مع اليمن مالم يسبق لها أن تكبّدته.

على أي حال نحن -وبمناسبة الخطاب الشهير ،الجمعة، لـ"فانس" نائب "ترامب"- ملزمون بمراجعة خطابات المائة يوم الأول من تولي الإدارة الجديدة للحكم في أمريكا، لمحاولة فهم ما الذي يحصل، لنراجع الفترة القريبة القليلة الماضية، ونقارن بما يحصل اليوم، سنجد أنه -وبلا مبالغة- إنقلابٌ كامل للصورة، وتحوّل استراتيجي خطير للسياسة الأمريكية، يدفع للتساؤل عن حقيقة ما لاقته البحرية الأمريكية وتخفيه، في اشتباكها مع القوات المسلّحة اليمنية، بقرابة نصف قواتها البحرية الأمريكية.

على ضوء نتائج المواجهات مع اليمن: "فانس" يغلق عصر الهيمنة الأمريكية

في تحول لافت في الخطاب الأمريكي، أعلن نائب الرئيس الأمريكي "جيه دي فانس" أمام خريجي الأكاديمية البحرية الأمريكية، أن "عصر الهيمنة الأمريكية المطلقة على البحر والجو والفضاء قد انتهى الآن"، مشيراً إلى أن الولايات المتحدة وقواتها المسلحة يجب أن "تتكيف مع هذا الواقع الجديد". جاءت تصريحات "فانس" لتسلط الضوء على الدروس المستفادة من المواجهة مع اليمن، وما فرضته من تحولات على السياسة والاستراتيجية العسكرية الأمريكية.

 

المواجهات مع اليمن كُلَفٌ أكبر من القدرات

اعترف فانس ضمنياً بأن المعركة مع اليمن قد أسفرت عن "الكثير من العبر"، داعياً إلى أهمية استيعابها بعد أن واجهت القوات الأمريكية "أسلحة متطورة بتكتيكات جديدة"، هذه المواجهة، بحسب فانس، أعادت تشكيل ساحة المعركة، وأكدت أن "الابتكار، على نحو متزايد، يحدث في ساحات القتال نفسها التي ستقودون فيها القوات، بحيث لا تكونون مجرد متلقين للابتكار، ولا مجرد مستخدمين للأدوات، بل ستكونون في كثير من الأحيان مطورين للأدوات في هذا القرن الجديد".

كما أقر فانس بأن بلاده استثمرت في المعركة مع اليمن "أهم الموارد والأكثر تطوراً" وقد كشفت تقارير سابقة أن الحملة الجوية المكثفة في اليمن كانت "مكلفة ومُنهِكة" للجاهزية العسكرية الأمريكية، حيث بلغت تكلفة الأسلحة والذخائر المطلوبة "أكثر من مليار دولار شهرياً". وأظهر تقييم داخلي أن القوات اليمنية تمكنت من إسقاط "العديد من طائرات ريبر الأمريكية باهظة الثمن".

في ذات السياق كشفت مجلة ناشونال إنترست الأمريكية عن تغيير قريب لقائد حاملة الطائرات ترومان بمجرد وصولها إلى نورفولك في ولاية فيرجينيا خلال الأسابيع المقبلة.

المجلة ذكرت بأن الحاملة ترومان ستعود وقد خسرت ثلاث مقاتلات من طراز FA-18 عدا عن إسقاط عدد كبير من طائرات الإم كيو ناين

وأضافت أن مهمة البحرية الأمريكية في البحر الأحمر ضد من أسمتهم بالحوثيين تعد أعنف عملية قتالية للبحرية الأمريكية منذ الحرب العالمية الثانية، ولفتت إلى أن سفينة يو إس إس دوايت دي. أيزنهاور تخضع حاليًا لأعمال صيانة مجدولة في حوض بناء السفن البحري في نورفولك.

على ضوء التجربة مع اليمن.. استراتيجية عسكرية جديدة أقل جرأة

 

في سياق الحديث عن إعادة تجهيز القوات الأمريكية بالأدوات الصحيحة قبل إرسالها إلى القتال، شدد فانس على ضرورة استخدام القوة العسكرية "بهدف محدد"، وأشار إلى أن إدارة ترامب تهدف إلى نشر القوات المسلحة الأمريكية "بأهداف واضحة"، مبتعدة عن "المهام غير المحددة" و"الصراعات المفتوحة" التي اتسمت بها السياسات السابقة. وأكد فانس أن هذا النهج لا يعني تجاهل التهديدات، بل "التعامل معها بانضباط، وإذا أرسلناكم إلى الحرب، فإننا نفعل ذلك بمجموعة محددة جداً من الأهداف".

وتأتي تصريحات فانس لتتوج سلسلة من التصريحات الأمريكية من مستويات مختلفة، شملت كبار المحللين والصحفيين والمراقبين، التي اعتبرت اتفاق وقف إطلاق النار مع اليمن "هزيمة عسكرية فاضحة لأمريكا" ، في أعقاب مواجهتها "انتكاسات تكتيكية محرجة"، وقد أعلن ترامب نفسه عن وقف إطلاق النار في 6 مايو مروّجاً كذبة أن القوات اليمنية "استسلمت" و "لم تعد ترغب في القتال"، وهو الأمر الذي نفاه مئات المتابعين والخبراء الأمريكيين أنفسهم، معتبرين أن ما حصل هو انتكاسة استراتيجية كبيرة مُنيت بها الولايات المتحدة، بدليل التقارير التي لا تزال تتوالى وتتحدّث عن تداعيات كبرى خلفتها المواجهات، ما يجعل الاعتقاد سائداً بأن خسائر مهولة تعرّضت لها الولايات المتحدة في اليمن وترفض الاعتراف بها.

 

تحديات مستقبلية وبيئات قتالية معقدة

وجه فانس حديثه للخريجين مؤكداً "ستواجهون تحديات وبيئات جديدة، وأحياناً غير مألوفة حتى لمن سبقكم في الخدمة، ستستخدمون معدات وأنظمة وتقنيات جديدة، ومن خلال هذه التجارب، أنتم من سيتعلم أولاً، ثم تعلمون الآخرين". هذا الاعتراف يشير إلى أن المواجهة في اليمن قد كشفت عن طبيعة "معقدة" لبيئات القتال المستقبلية، تتطلب مرونة وابتكاراً من القادة العسكريين الجدد.

وتعكس تصريحات فانس تحولاً في الفكر الاستراتيجي الأمريكي، حيث "لم تعد القوة العسكرية الهائلة وحدها كافية لفرض الهيمنة، بل يجب أن تقترن بأهداف واضحة، وتكتيكات مبتكرة، وفهم عميق لبيئات القتال المتغيرة"، وهو ما فرضته التجربة اليمنية على الأجندة العسكرية الأمريكية.