موقع أنصار الله . تقرير | يحيى الشامي

 

تمهيد:

في هذا التقرير نحاول مقاربة الفاجعة من زاوية أخرى غير الأرقام، وإن كان لا محيص من إيرادها على وقع هولها الصادم، نتلمس خلفها قصصاً إنسانية مروية بلسان الناجين، ومن يدري لعلّهم صاروا ضحايا مع نشر هذا التقرير، فالموت في غزة مسألة دقائق وربما ساعات، وله -من غير القنابل الأمريكية والغربية- وسيلة غير دموية إبداعية ابتكرتها الوحشية الصهيونية اسمها "التجويع".

 

صور الموت العابرة للأرقام "بدون أسِرَّة ولا أكفان":

ليس على سرير المشفى، بل على أرضه الملطخة بالدماء المكدسة بجثامين الشهداء وأجساد الجرحى، يراقب الدكتور مصعب فروانة طفلةً تموت لأنه لم يجد "حقنة بوتاسيوم". جسدها الهش لم يعد يمتص البدائل، يقول بمرارة: لو توفر الدواء لَعاشت. لكننا نُشيِّع 3 أطفال يوميًا في هذا القسم وحده، بسبب سوء التغذية أو انعدام الدواء."

خارج المستشفى ذاته، تحمل فايزة عبد الرحمن (60 عامًا) حفيدها "محمد" (7 أشهر)، عظامه بارزةٌ أشبهُ بأسلاك شائكة تحت جلدٍ مترهل،وزنه أقل من 4 كيلوغرامات فقط. "أخاف أن يموت بين يدي".. تقول الجدة بينما ترتجف من الجوع: "لم آكل سوى قطعة خبز في يومين".


المكتب الحكومي في غزة يُحدّث الأرقام كعادته منذ مايقارب عامين من الحرب، وهو منذ فترة يضيف عنواناً جديداً للضحايا غير عنوان المجازر والمفقودين والذين ارتقوا شهداء أثناء بحثهم أو سعيهم وراء الطعام، العنوان الجديد هو "المجوّعون".

بعد عصر اليوم أعلن المكتب وفاة 5 أطفال انضمّوا إلى قائمة شهداء المجاعة، ليصبح العدد 127( 85 منهم أطفال).

الأرقام في غزة أرواح، والأرواح فيها لا ثمن لها، تزهق بحساب كلفة الذخيرة من القنابل الأمريكية التي لا يتوقف جسر مددها.

"200 ألف طفل في مرحلة الخطر المباشر، 100 ألف منهم قد يموتون خلال أيام إذا لم يدخل الحليب فورًا." تقول البيانات والتحذيرات والصرخات والاستغاثات، وكل ما تقوله لا مبالغة فيه، بل أقل بكثير من حجم الفاجعة والمأساة والكارثة.. %99  من سكان غزة لم يعودوا يحصلون حتى على كيس طحين!!

كيف تحوّلت نقاط المساعدات إلى "مذابح"؟

في "نتساريم"، حيث يُفترض أن توزّع ما تسمى "مؤسسة غزة الإنسانية" (المدعومة أمريكيًا) الطعام، يروي خليل (26 عامًا):

"عندما اقتربنا، فتح جنود العدو النار علينا كأننا أهداف في ميدان رماية، نجوتُ بأعجوبة.. لكن 36 شهيدًا ارتقوا صباح ذلك اليوم".

تتكشف فصول هذه المأساة ولا يبدو أنها ستتوقف قريباً، مع كل شمس تشرق على القطاع تنقطع أنفاسٌ من الجوع وتصعدُ نفوسٌ جديدة مفارقة أبدانها الهزيلة، في ظل سياسة تجويع ممنهجة يطوّرها يومياً العدو الإسرائيلي، ويُغذّيها من دماء غزة وأشلائها، أحدث وأخبث الأسلحة الأمريكية والبريطانية والفرنسية والألمانية فعلت الكثير بأهل غزة، ولعلها أرهقت واستنزفت مخازن تلك الدول ومصانعها، ولابأس من أن يبتكر الصهاينة أسلوباً آخر أقل كلفة وأكثر فتكاً. مقابل صمت الغرب وربما تشجيعه، صمت العالم عن جريمة تحويل الصهاينة الغذاء والدواء إلى سلاح في حرب إبادة شاملة في غزة !!

تحذيرات هي الأشد لهجة:

أطلق المكتب الإعلامي الحكومي في غزة تحذيراً هو الأشد قسوة، من "مقتلة جماعية مرتقبة" تهدد حياة ما يزيد على 100 ألف طفل، بينهم 40 ألف رضيع، خلال أيام قليلة ما لم يتم كسر الحصار وإدخال حليب الأطفال والمكملات الغذائية بشكل فوري، وأشار البيان إلى أن الأمهات في غزة، في مشهد يدمي القلب، يضطررن لإرضاع أطفالهن الماء عوضاً عن الحليب، في ظل انعدام تام لهذه المادة الحيوية، واستمرار كيان العدو في إغلاق المعابر ومنع دخول أدنى مقومات البقاء.

 

أطفال غزة: أجساد هزيلة في مواجهة الموت السريع

تكتظ المستشفيات القليلة التي ما زالت تعمل في القطاع بمشاهد تفطر القلوب، لأطفال تحولت أجسادهم إلى هياكل عظمية. الطفل محمد، الذي يبلغ من العمر سبعة أشهر ويزن 4 كيلوغرامات بالكاد، هو واحد من مئات آلاف الأطفال الذين يدفعون الثمن الأغلى،  تروي جدته، فايزة عبد الرحمن، قصة معاناته: "أكبر مخاوفي الآن هو فقدان حفيدي بسبب نقص الغذاء". وُلِد محمد بصحة جيدة، لكن والدته التي تعاني من سوء تغذية حاد لم تستطع إرضاعه، ولم تتمكن الأسرة من الحصول على أكثر من علبتي حليب أطفال منذ ولادته.

"فايزة وحفيدها" ليست حالة فردية، بل هي الواقع اليومي الذي يواجهه الدكتور مصعب فروانة في مستشفى جمعية أصدقاء المريض الخيرية، الصغير بقدراته وطاقته وطاقمه، والذي يستقبل يومياً نحو 200 طفل مريض، يقول بحسرة وألم: "كثيراً ما أشعر بألم القهر، لأنّنا ببساطة عاجزون عن تقديم المساعدة لطفل يحتاجها للبقاء على قيد الحياة، ويضيف أن فتاة توفيت هذا الأسبوع في العناية المركزة كان من الممكن إنقاذها لو توفر دواء بسيط مثل البوتاسيوم عن طريق الوريد، وهو ما أصبح الحصول عليه في غزة ضرباً من المستحيل.

من جهته، أكد عدنان أبو حسنة، المستشار الإعلامي لوكالة غوث وتشغيل اللاجئين (أونروا)، أن كل سكان قطاع غزة مجوّعون، وأن من بين كل خمسة أطفال يتم فحصهم، هناك طفل مصاب بسوء التغذية، محذراً من أن هؤلاء الأطفال سيواجهون مشاكل صحية مزمنة كالتقزم والتقوس ما لم يتم تدارك الكارثة فوراً.

 

هندسة متعمدة للجوع ونظام مساعدات تحول إلى "فخاخ للقتل"

تتجاوز المأساة في غزة كونها مجرد أزمة إنسانية، لتكشف عن "هندسة متعمدة للتجويع والفوضى"، كما وصفها أبو حسنة بإشارته إلى أن سلطات العدو تمنع دخول آلاف شاحنات المساعدات التابعة للأونروا والمنظمات الأممية، والتي تكفي لإطعام سكان القطاع لشهور، بينما تواصل استهداف المدنيين الذين يخاطرون بحياتهم للحصول على كيس من الطحين.

لقد قام كيان العدو، وبدعم أمريكي، بتفكيك منظومة المساعدات الدولية التي كانت تقودها الأونروا، والتي خدمت الفلسطينيين لعقود، واستبدل بها نظاما عسكريا غامضا، يدور حول منظمة تسمى "مؤسسة غزة الإنسانية"، هذا النظام الجديد، الذي قلص مئات نقاط توزيع المساعدات إلى أربع فقط، تحول إلى ما يصفه الفلسطينيون بـ"فخاخ الموت".

يروي خليل، شاب يبلغ من العمر 26 عاماً، تجربته المرعبة في أحد هذه المراكز: "رأينا جنوداً إسرائيليين بزيّهم العسكري الكامل.. لقد بدأوا بإطلاق النار مباشرةً على المدنيين العُزّل. كانت الرصاصات تُلاحقنا كما لو كنا أهدافاً في ميدان رماية، لا مجرد جائعين". نجا خليل بأعجوبة، لكن المئات غيره لم يحالفهم الحظ. فمنذ بدء العمل بهذه الآلية، قتلت قوات العدو أكثر من 1000 فلسطيني أثناء بحثهم عن الطعام.

شهادات من قلب الجحيم

خلف الأرقام والإحصائيات الصادمة، تقبع قصص إنسانية مؤلمة تعكس حجم المعاناة. أم يوسف الخالدي، والدة لثمانية أطفال وزوجها مشلول، كانت تستعد للمخاطرة بالذهاب إلى أحد مراكز التوزيع لأول مرة، تقول بصوت يملؤه الخوف: "لقد واجهنا جوعنا بالماء، خوفي على عائلتي أكبر من خوفي على نفسي، أخشى أن يصيبني مكروه، فأتركهم بلا رعاية"، لقد أصبح أطفالها "جلداً وعظماً"، وأقل مجهود يصيبهم بالدوار، ولا تملك ما تقدمه لهم.

هذه الشهادات الحية، إلى جانب تحذيرات أكثر من 100 منظمة إغاثة دولية من "مجاعة جماعية"، وبيان رئيس منظمة الصحة العالمية الذي وصف ما يحدث بأنه "تجويع جماعي من صنع الإنسان"، كلها ترسم صورة قاتمة لوضع إنساني كارثي.

 

تواطؤ دولي وصمت مخجل وعار أبدي:

يحمّل المكتب الإعلامي الحكومي في غزة حكومة العدو الإسرائيلي والإدارة الأمريكية ودولاً أوروبية منخرطة في دعمها، المسؤولية الكاملة عن هذه الجريمة التاريخية، وأكد أن الصمت العالمي المستمر يعد تواطؤًا صريحًا في الإبادة الجماعية.

وفيما تتكدس أطنان المساعدات على بعد كيلومترات قليلة خارج حدود القطاع، يواصل أطفال غزة ونساؤها وشيوخها الموت ببطء. إنها حرب إبادة لا تستخدم فيها الصواريخ والقنابل فقط، بل رغيف الخبز وقطرة الدواء أيضاً، وبينما لاتجد وزارة صحة غزة سوى تكرار صيحات استغاثتها، محاولة إيقاظ ضمير العالم: "المئات مرشحون للانضمام إلى سجلات الذين سحقت المجاعة أجسادهم، وهذه السجلات لن تُغلق قريبًا".
وبينما أنتم تقرأون هذا التقرير ثمة أروح فارقت أجسادها تجويعاً، أو قتلاً، ومن نجا فلن ينجو من هزال يرافقه طيلة عمره إن كتبت له النجاة من جحيم غزة، الموقود بخذلان العرب، والمستعر بصمت العالم. ما يحصل في غزة مهول وصادم، وما يخطط لها أقسى وأعظم.