موقع أنصار الله - متابعات – 12 صفر 1447هـ
في الزاوية الشمالية من ملعب "اليرموك"، حيث اعتاد محمد موسى أن يجلس برفقة أبنائه ويهتف لفريقه المحلي، يقف اليوم على المدرج الإسمنتي المتهالك يراقب خياما مهترئة نصبت على المستطيل الأخضر، وقد تحول الملعب إلى مركز إيواء عشوائي يستضيف مئات العائلات النازحة من أحياء غزة المدمرة.
وقال موسى (38 عاما)، إنه "كنا نأتي هنا كل أسبوع، نهرب من صخب الحياة اليومية لنعيش دقائق من الفرح"، وهو يشير إلى أرضية الملعب التي غطتها الرمال بعد أن دمرت حرب الإبادة ما تبقى من عشبه الصناعي.
وأضاف "هذا الملعب كان ملجأ للفرح، واليوم صار ملجأ من الخوف".
من ملاعب إلى ملاجئ
قبل حرب الإبادة التي اندلعت في السابع من تشرين الأول/ أكتوبر 2023، كان ملعب "اليرموك" يشكل قلب النشاط الكروي في قطاع غزة، حيث تستضيف مدرجاته العتيقة آلاف المشجعين في مباريات الدوري المحلي. لكن مع تصاعد الهجمات الصهيونية وتدمير البنى التحتية، أصبح الملعب شاهدا على مأساة مزدوجة: انهيار الرياضة ونزوح الآلاف من السكان.
وبحسب بيانات الاتحاد الفلسطيني لكرة القدم، فإن حرب الإبادة الصهيونية أدت إلى استشهاد 762 رياضيا ومدربا وإداريا، من بينهم 422 لاعب كرة قدم، إضافة إلى تدمير 267 منشأة رياضية تشمل ملاعب، وصالات تدريب، ومقرات أندية ومرافق اتحادات.
الدمار لم يقتصر على البنية التحتية فقط، بل امتد ليطال الروح الرياضية، كما يقول حسام أبو خاطر، المعلق الرياضي الذي عرف صوته في إذاعات غزة المحلية وهو يصف لحظات الحسم في مباريات الدوري.
وقال حسام بحزن "اشتقنا لأصوات الجماهير، لصرخات الفرح والغضب، للكرة وهي تدور في المستطيل الأخضر.. الحرب سرقت منا كل شيء".
الرياضة كمتنفس لمجتمع محاصر
لطالما شكلت الرياضة في غزة إحدى وسائل التنفيس الجماعي عن ضغوط الحصار والفقر والبطالة. في ظل غياب دور السينما أو المسارح أو الفضاءات الترفيهية، كانت ملاعب كرة القدم بمثابة الساحة الوحيدة التي يتنفس من خلالها الشباب.
وقال المحلل الرياضي منذر زهران، إن "كرة القدم ليست مجرد لعبة هنا. هي تعبير عن وجود، عن هوية جمعية، وعن صمود مجتمع بأكمله في وجه كل أشكال القمع والحرمان".
لكن هذا المتنفس اختفى تماما منذ اندلاع الحرب، إذ توقفت جميع المسابقات المحلية، ودمر العديد من الأندية مثل نادي خدمات الشاطئ، ونادي اتحاد الشجاعية، ونادي بيت حانون الرياضي. ويعاني معظم الرياضيين الآن من النزوح، أو الإعاقة، أو فقدان أفراد من عائلاتهم، ما يجعل العودة إلى الملاعب حلما بعيدا.
أحلام تحت الأنقاض
محمد سلمي وهو لاعب سابق في أحد أندية غزة، ومحترف سابق لفترة قصيرة في النادي الأهلي المصري، يعيش اليوم مع أسرته داخل خيمة في حي تل الهوى بعد أن تم تدمير منزله في الشجاعية. يقول بصوت متهدج "كنت أطمح أن أنتقل للعب في أحد الدوريات العربية، كان لدي عروض، لكن الحرب أنهت كل شيء".
وأضاف "أحاول ألا أفكر كثيرا في الماضي، الآن همي تأمين الطعام والماء لأولادي. كرة القدم أصبحت ذكرى جميلة في زمن قاس".
تتكرر قصة سلمي مع عشرات اللاعبين الذين وجدوا أنفسهم فجأة من نجوم على ملاعب التراب والعشب إلى نازحين يبحثون عن الأمان في أماكن مؤقتة أو تحت القصف.
أندية بلا مقرّات
دمرت مقار أندية تاريخية بشكل كلي أو جزئي، بعضها تعود نشأته إلى خمسينيات القرن الماضي، وكان يمثل جزءا من الذاكرة الجمعية لسكان غزة. نادي غزة الرياضي، وهو أقدم ناد فلسطيني، تعرض لأضرار جسيمة. كذلك قاعة سعد صايل المغلقة، التي كانت تحتضن البطولات المحلية لكرة اليد والطائرة وكرة السلة، دمرت بشكل شبه كامل خلال قصف وسط المدينة.
ويقول مصطفى صيام وهو مسؤول الإعلام في اتحاد كرة القدم في غزة، إن استهداف المنشآت الرياضية لم يكن عارضا، بل جاء ضمن سياسة ممنهجة لضرب كل ما يمثل الحياة في غزة.
وأضاف "هذه ليست المرة الأولى التي تستهدف فيها الرياضة، لكنها بالتأكيد المرة الأشد والأقسى. رغم ذلك، نؤمن بأننا سنعود، وسنبني من جديد".
الاعتراف بالدولة الفلسطينية.. واللعب تحت القصف
مع تصاعد الدعوات الدولية للاعتراف بدولة فلسطين، وتأكيد دول مثل فرنسا وبريطانيا أنها قد تعلن الاعتراف رسميا في أيلول/ سبتمبر المقبل في حال لم تتوقف الحرب، يرى البعض في القطاع الرياضي بصيص أمل في أن ينعكس ذلك على وضع الرياضة الفلسطينية.
لكن زهران لا يرى في الاعترافات الدولية حلا مباشرا لمعاناة الرياضيين، وقال "فلسطين موجودة كعضو كامل في الاتحاد الدولي لكرة القدم (فيفا)، لكن هذا لم يمنع أن تقصف ملاعبنا ويقتل لاعبونا".
وأكد "الخطوة الأهم تبقى في وقف الحرب، ومن ثم إعادة إعمار كل شيء، من المنازل إلى الملاعب".
كرة القدم ستعود
رغم كل شيء، لا يزال الأمل حيا. فعندما تخف أصوات الطائرات الحربية، ينتهز بعض الأطفال ذلك ويخرجون من داخل خيامهم يركضون خلف كرة مطاطية ممزقة. يضحكون، يتعثرون، ثم يعودون إلى أماكنهم. وفي عيونهم، حلم بسيط: أن تلعب غزة من جديد.
ويواصل العدو الصهيوني فرض إغلاق تام على قطاع غزة وتمنع إدخال المساعدات والمواد الإغاثية والطبية والوقود منذ 2 مارس/ آذار الماضي، وسط تفاقم حالة المجاعة بين الفلسطينيين.
وبدعم أمريكي، يرتكب "جيش" العدو الصهيوني منذ 7 أكتوبر/ تشرين الأول 2023 إبادة جماعية بغزة خلفت أكثر من 209 آلاف شهيد وجريح، معظمهم أطفال ونساء، وما يزيد على 9 آلاف مفقود.