موقع أنصار الله . تقرير
في غزة، يكتب الموت يومياته بالحبر والدم، وتغدو الحياة مجرد محاولة للبقاء وسط ركام المدن وأشلاء الأطفال. هنا لا ينطفئ صوت الانفجار، ولا تُمحى من الذاكرة صرخات الأمهات اللواتي يفتشْن بين الأنقاض عن بقايا فلذات أكبادهن.
اليوم مشهد آخر يوثق الجريمة: أطفال ممزقون بالإصابات في مخيم الشاطئ، بعد أن قصفت طائرات العدو الإسرائيلي تجمعًا بشريًا لم يكن يحمل سوى الخوف. وعلى شارع النصر غرب مدينة غزة، تتقدم دبابات العدو، وتفتح النار على أجساد الفلسطينيين. وفي ركام بيت مهدم، يعلو صوت أبٍ مفجوع يصرخ: "لا أسمعك"، يبحث بين الركام عن صغاره، وكأن صرخته المذبوحة صارت اختزالًا لوجع غزة كله.
أفادت وزارة الصحة أن الـ24 ساعة الماضية وحدها حملت 38 شهيدًا و190 جريحًا، فيما بقي العشرات تحت الأنقاض لا تصلهم طواقم الإسعاف. منذ بدء العدوان في أكتوبر 2023، تجاوز عدد الشهداء 65 ألفًا، والإصابات 166 ألفًا، بينهم آلاف الأطفال الذين تحولت طفولتهم إلى قبور صامتة.
العدو الإسرائيلي لم يوفّر أي مكون من مكونات الحياة في غزة؛ إذ ارتكب أكثر من 15 ألف مجزرة، أباد خلالها نحو 2,700 عائلة من السجل المدني. كما دمّر ما يزيد عن 88% من مباني القطاع، بخسائر تقدر بأكثر من 62 مليار دولار، وسيطر على نحو 77% من مساحة القطاع بالنار والتهجير.
وشمل الدمار الكلي أو الجزئي مدارس وجامعات ومؤسسات تعليمية (532 منشأة)، وأكثر من 1,000 مسجد، إضافة إلى 19 مقبرة. كما استشهد 1,670 من الكوادر الطبية، و139 من عناصر الدفاع المدني، و248 صحفيًا، و173 موظف بلدية، فضلًا عن مئات العاملين في مجالات الرياضة والشرطة.
لم يكتفِ العدو الإسرائيلي بالقصف، بل مدّ يده إلى لقمة العيش. أُعلنت المجاعة رسميًا في غزة، لتسقط الطفلة آلاء محمد العرجا (5 سنوات) ضحية سوء التغذية، في صورة صارخة على أن التجويع بات سلاحًا يُستخدم ببرود لمحو حياة الأبرياء. أكثر من 450 إنسانًا استشهدوا حتى الآن تحت مقصلة التجويع، بينهم 150 طفلًا، فيما يحرم العدو السكان من مئات الأصناف الغذائية الأساسية، ويغلق المعابر في وجه شاحنات المساعدات التي لا تتجاوز 15% من الاحتياج الفعلي.
أما من يبحثون عن الخبز في مراكز التوزيع التابعة للعدو الصهيوني فقد استشهد منهم 2,526 مواطنا، وأصيب 18,511 آخرون.
وفي السياق، أعلن المكتب الإعلامي الحكومي قبل أيام، دخول 4,543 شاحنة مساعدات إلى غزة خلال 50 يوماً من أصل 30,000 متوقعة، ما يعادل (15%) من الاحتياجات الفعلية، والاحتلال يمعن في هندسة التجويع وإشاعة الفوضى.
المستشفيات -آخر ما تبقى من شرايين الحياة- تدخل مرحلة الموت البطيء مع نفاد الوقود. توقفت مستشفى الرنتيسي للأطفال ومستشفى العيون، بينما يئن الجرحى بلا علاج، والمرضى بلا دواء. الأطباء يعملون بأيدٍ مكبلة، بلا أدوات ولا كهرباء، في معركة خاسرة ضد الموت المتربص في كل زاوية.
وزارة الصحة في غزة أفادت أن أزمة نقص الوقود فيما تبقى من مستشفيات عاملة في القطاع دخلت مرحلة غاية في الخطورة، وأنَّ أياماً قليلة قد تحمل معها مشاهد توقف عمل الأقسام الحيوية، ما يعني تفاقم الأزمة الصحية، وتعريض حياة المرضى والجرحى للموت المحقق . مشيرة إلى أنَّ الإجراءات الفنية والهندسية لجدولة فترات التشغيل أصبحت غير مجدية مع توقف إمدادات الوقود.
وأشارت الوزارة في بيان صحفي إلى أن مستشفى الرنتيسي كان قد تعرض لقصف مباشر قبل أيام أدى إلى أضرار جسيمة في مبناه وتجهيزاته، مستشفى العيون هو الآخر قُصِف، رغم أنه المستشفى العام الوحيد المتخصص في تقديم خدمات طب العيون بمحافظة غزة. وأكدت أن العدو يتعمد بشكل منهجي ضرب منظومة الخدمات الصحية في القطاع، في إطار سياسة الإبادة الجماعية، محذرة من انعدام الطرق الآمنة المؤدية إلى المستشفيات، ما يعيق وصول المرضى والجرحى.
حتى المنشآت الأممية باتت مقابر، ما كان يجدر بها أن تكون مأوى للنزوح تحولت إلى فخاخ موت لآلة الإجرام الصهيوني. وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين "الأونروا"، أكدت أن العدو الإسرائيلي استهدف 12 منشأة تابعة لها في مدينة غزة خلال الفترة من 11-16 سبتمبر الجاري، من بين المنشآت المستهدفة تسع مدارس، إضافة إلى مركزين صحيين، كانت تؤوي أكثر من 11 ألف نازح. أما المركز الصحي الوحيد التابع للأونروا بمخيم الشاطئ فقد تم تعليق عملياته في 13 سبتمبر، بسبب تكثيف الهجمات والأضرار التي لحقت به خلال الغارات.
وكانت لجنة التحقيق الدولية المستقلة قد خلصت في 16 أيلول الحالي إلى أن "إسرائيل" ارتكبت إبادة جماعية، موضحة أن "إسرائيل" منعت وكالات الإغاثة الموثوقة (بما فيها الأونروا) من إيصال المساعدات الأساسية والمنقذة للحياة، بهدف "تدمير الفلسطينيين في غزة ماديا من خلال ظروف معيشية قاسية في القطاع".
وأفاد مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية بأن نحو نصف حركات النزوح -التي تجاوزت 246800 حركة والتي تم تسجيلها منذ منتصف آب الماضي- حدثت خلال الأسبوع الماضي وحده، مع تزايد التقارير عن الأسر النازحة التي تنام في الشوارع أو في خيام مؤقتة، وتكافح من أجل البقاء على قيد الحياة.
يفجر العدو الإسرائيلي يوميًا 17 عربة مفخخة، تعادل كل واحدة منها زلزالًا بقوة 3.7 ريختر، محولًا الأحياء إلى مساحات خاوية. إنها إبادة جماعية ممنهجة، لا يختلف أثرها عن كارثة طبيعية كبرى، سوى أنها فعل مقصود ومُدار بدم بارد.
يقدم العدو الإسرائيلي على استخدام العربات المجنزرة الخارجة من الخدمة وتحويلها إلى كتل ضخمة من المتفجرات تُوجَّه إلكترونيًا، في تصرف غير مسبوق بهذا الحجم والمستوى في تاريخ البشرية. ولكن -ورغم ذلك- لا يواجَه هذا السلوك الوحشي بأي رد فعل فعّال من المجتمع الدولي، في تعبير صارخ عن ازدواجية المعايير وغياب العدالة وعدم المبالاة بحياة الفلسطينيين.
المرصد الأورومتوسطي لحقوق الإنسان أكد في وقت سابق أن العدو يفجر ما يزيد على 17 عربة مفخخة يوميا بمدينة غزة، وتعادل الواحدة منها زلزالا بقوة 3.7 درجات على مقياس ريختر. وأوضح المرصد أن“جيش الاحتلال فجّر خلال الأسبوع الأخير نحو 120 عربة مفخخة محمّلة بما يقارب 840 طنا من المتفجرات بين المنازل السكنية في مدينة غزة”.
العدو الإسرائيلي في الأسبوع الأخير كثّف من استخدام العربات المفخخة المحمّلة بأطنان من المتفجرات في ثلاثة محاور من مدينة غزة، جنوبا وشرقا وشمالا، بهدف تدمير المربعات السكنية المركزية في المدينة، في إطار سعيه لتحقيق الهدف المعلن بتدمير المدينة وتدمير سكانها بالقتل والتهجير، ونظرًا لما لحق بجميع مباني غزة من أضرار ودمار جراء القصف المتواصل على مدار أكثر من 23 شهرًا من العدوان العسكري الإسرائيلي، فإنّ أي انفجار جديد يخلّف أضرارًا أشد تأثيرًا، كون الأبنية متصدعة أصلًا، والمساحات المفتوحة تزيد من حدة الانفجار، ما يؤدي إلى تضرر عشرات المباني على مسافات تصل إلى مئات الأمتار عند كل تفجير جديد للعربات المفخخة.
المتحدث باسم الدفاع المدني بغزة محمود بصل من جهته أكد أن العدو الإسرائيلي يواصل عمليات التوغّل البري في منطقتي تل الهوا والشيخ رضوان بمدينة غزة. مؤكدا أن مدينة غزة تتعرض لحصار صهيوني خانق من جميع الاتجاهات مع قصف متواصل وتدمير شامل للبنية التحتية والمباني السكنية، حيث يفجر العدو أكثر من 20 عربة مفخخة يوميا في الأحياء السكنية المكتظة بالمواطنين، لافتا إلى تلقيه وبشكل يومي عشرات المناشدات من عائلات محتجزة داخل بنايات سكنية في مناطق التوغّل الصهيوني بالمدينة. كما أن هناك جرحى محاصرون داخل المباني وآخرون تحت أنقاض منازلهم نتيجة قصف العدو الإسرائيلي لا نستطيع الوصول إليهم، فالدفاع المدني لا يستطيع الدخول إلى تل الهوا والشيخ رضوان بسبب شدة القصف والتوغلات الصهيونية.
مئات الآلاف اقتُلعوا من بيوتهم قسرًا إلى الجنوب، حيث لا مأوى ولا طعام. أكثر من 700 ألف إنسان يتكدسون في مساحة لا تتجاوز 10 كيلومترات مربعة، يطاردهم القصف حتى في مناطق "الإنسانية" المزعومة. إنها خطة لاقتلاع غزة من جذورها، وتحويلها إلى أرض بلا شعب.
مركز غزة لحقوق الإنسان أكد في تقرير له أن العدو الإسرائيلي يعمل على إحداث تحول ديموغرافي في قطاع غزة، من خلال أوامر التهجير القسري التي تفرضها وتجبر من خلالها مئات آلاف السكان للانتقال إلى منطقة جنوب وادي غزة، مدعية أنها منطقة "إنسانية"، في حين أنها تفتقر لمتطلبات إيواء المهجرين بموجب قواعد القانون الدولي الإنساني.
ما يجري يعكس وجود سياسة إسرائيلية ممنهجة لإحداث تحول ديموغرافي ينهي الوجود الفلسطيني في محافظتي غزة وشمال غزة، اللتين كانتا تؤويان أكثر من 1.3 مليون نسمة، وهو ما يرقى إلى جريمة حرب. فعمليات القصف الإسرائيلي المكثفة وما يرافقها من تفجير عربات مفخخة واستخدام طائرات مسيرة وتحركات برية منذ 11/8/2025، تعكس إصرار العدو الإسرائيلي على تنفيذ خطة تفريغ شمال وادي غزة، التي أُعلنت في 13/10/2023، والتي لم ينجح العدو في تحقيقها رغم القتل الوحشي والتدمير الممنهج والتجويع الواسع الذي مارسه.
الأمين العام للأمم المتحدة، أنطونيو غوتيريش، وصف ما يجري بأنه "عقاب جماعي"، و"تدمير ممنهج"، مؤكدًا أن لا شيء يبرر ما يحدث. لجنة التحقيق الدولية المستقلة اعتبرت ما يجري إبادة جماعية. الأونروا أعلنت استهداف مدارسها ومراكزها الصحية التي كانت تؤوي آلاف النازحين. ومع ذلك، لم يتجاوز الموقف الدولي حدود الكلمات.
غزة اليوم ليست مجرد جغرافيا تُقصف، بل رمز للإنسانية المصلوبة. كل بيت يهدم، كل طفل يُقتل تجويعًا أو تحت الركام، هو رسالة دامية تقول: إن العالم شريك في الجريمة بصمته، ولن يكون أحد في منأى عن تبعات هذا الإجرام، فالكيان الصهيوني يشكل خطرا على البشرية جمعاء.