موقع أنصار الله . تقرير
الذكرى السنوية للشهيد هي الذكرى التي تتفتح فيها ذاكرةُ الأمة كما تتفتح أزهارُ الكرامة في ربيع العزّة. هي ذكرى الإباء والثبات، والعزيمة التي لا تنكسر. هي محطةٌ تتجدد فيها روح المسؤولية في النفوس، لتزرع في قلوبنا يقينًا بأنّ الدم الزاكي لا يُهدر، بل يورق حياةً وعزًّا وكرامة. فذكرى الشهيد تُحيي من جديد رُوح المسؤولية، وتزيدُنا من جديد عزماً إلى عزمنا، وثباتاً في مواقفنا، وصُمُوداً في مواجَهة التحديات والأخطار.
والشهداء الأعزاء الذين ببركة تضحياتهم، وتفانيهم في سبيل الله، وصدقهم مع الله، وعطائهم العظيم بكل شيء حتى النفس، تحقق النصر والعزة، ودفع الله عن عباده المستضعفين خطر الإبادة والاستعباد. الشهداء هم مدرسة متكاملة نتعلم فيها -من خلالهم- الإيمان وقيم الإسلام من عزة وإباء وصمود وثبات وتضحية وصبر وبذل وعطاء وسخاء وشجاعة، ونعرف من خلالهم أثر الثقة بالله سبحانه وتعالى. فالشهداء الذين سطّروا بدمائهم الطاهرة صفحات المجد كانوا صادقين مع الله، مخلصين في عطائهم، بذلوا كلّ ما يملكون حتى أرواحهم، فكان لهم الفضل الأكبر في صناعة النصر، وفي حماية المستضعفين من طغيان الإبادة والاستعباد. هم منارُ الإيمان، ومدرسةُ التضحية. نتعلم منهم معاني العزّة والإباء، الثبات والصبر، السخاء والشجاعة، والثقة المطلقة بوعد الله ونصره.
الإسلام دينُ سلامٍ وعدل، لكنه لا يرضى بالضعف ولا يقرّ بالاستسلام. فالمسلم الحقّ هو من يبني نفسه ليكون عزيزًا قويًّا، يدفع الظلم والفساد عن دينه وأرضه وكرامته. ومن أجل ذلك كانت الشهادة قمّة النصر، لا نقيضه. فالمجاهد لا يرى في التعب خسارة، ولا في الجراح هزيمة، لأنّ طريق الجهاد محفوفٌ بالعزّ حتى وإن كان مكلَّلًا بالدماء.
ما أفدح الخسارة حين يصمت الإنسان أمام الظلم، ويتقاعس عن نصرة دينه وأمّته! فالسكوت على الجريمة مشاركةٌ فيها، والجبنُ عن الموقف ذلٌّ لا يغسله ندم. أمّا أولئك الذين باعوا أنفسهم لله فقد جعلوا من معاناتهم سلّمًا إلى رضوانه، ومن جراحهم جسورًا إلى نصره. رفعوا نياتهم إليه خالصةً، فرفعهم الله وأعزّهم، وخلّد ذكرهم.
وعندما لا يتحمل الإنسان المسؤولية أمام الله فينطلق مجاهدًا في سبيله في كل المجالات فإنه من سيفتح لنفسه باب شرٍ كبير وإهانة وذلة، وقد يصل إلى قتله وقتل أسرته وتدمير بيته وجرف مزرعته، وفي الأخير لا يجد وراء هذا كله أجراً ولا ربحاً.. هكذا تحدث الشهيد القائد السيد حسين بدرالدين الحوثي رضوان الله وسلامه عليه.
أما المجاهدون والشهداء في سبيل الله فلم يرضوا إلا أن تكون كل هذه المعاناة معبرًا إلى رضوان الله ومكسبًا لثمار تلك المعاناة.. فجعلوا توجههم إلى الله واستجابةً له وفي سبيله، وفي نفس الطريق التي رسمها هو لأن يسيروا عليها، رفعوا نياتهم ورؤوسهم إلى الله ولم يجعلوها لأي شيء دونه سبحانه، فرفعهم وأعزهم وأيدهم، فحموا أعراضهم وأوطانهم.
عندما يتحرك الناس في سبيل الله فإن كل حركة من تحركاتهم ومشقةٍ تنالهم ستكتب لهم أعمالاً صالحة، وحينها سيجدون أن كل ما ينالهم ليس وراءه خسارة. إن الخسارة الحقيقية -كما يقول الشهيد القائد- هي "أن تكسر عظامُ الإنسان على أيدي اليهود ويدمر بيته وهو لم يعمل ضدهم شيئًا، عندها سيكون ما يناله الإنسان عقوبة".
بناءً على هذه القاعدة الإلهية يقول الشهيد القائد رضوان الله عليه: لو وصل الأمر إلى التضحية بالنفس وإنفاقها في سبيل الله فليس هناك خسارة أبدا، وسيعود حيًا كما قضى الله بهذا للشهداء بقوله: {وَلاَ تَقُولُوا لِمْن يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِن لاَّ تَشْعُرُونَ} البقرة آية(154).
الموتُ قدرٌ محتوم، لكنّ الخسارة الحقيقية أن تموت بلا هدف، بلا أثر، بلا موقف. أما الشهيد فإنه لا يموت؛ بل ينتقل إلى حياةٍ أسمى، يرزق فيها عند ربّه، مستبشرًا بما قدّم، كما قال تعالى:
{وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} (آل عمران: 169)
الشهيد يَغلِب الموت، فلا يكون موته فناءً بل خلودًا. ومن يخاف الموت فليجاهد في سبيل الله، فهناك -فقط- تتحول رهبة الموت إلى فرحة اللقاء، ويصبح الفناء ولادةً جديدة في جنان الخلد. هكذا كان يقول الإمام عليّ عليه السلام: “واللهِ لابنُ أبي طالب آنسُ بالموت من الطفل بثدي أمّه”.
وإذا بذلت نفسك في سبيله سيعيد لك روحك، وتعيش حيًا ترزق، وتستبشر بما أنت عليه. فالخسارة الحقيقية للإنسان أن لا يكون في موته إيجابية، وهي خسارة أولئك الذين جعلوا واقعهم مؤدياً إلى أن يخسروا أنفسهم وأهليهم، ومن يهربون من الموت في الدنيا هم من يموتون حقيقة، أما الشهداء فإنهم لا يموتون.
فإذا كنت تكره الموت فحاول أن تجاهد في سبيل الله، وأن تُقتل شهيدًا في سبيله. حاول أن تعيش حيًا، حاول أن تكون ممن قال الله فيهم: {وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} آل عمران آية (169)
إذا كنت تخاف من فكرة الموت فإن الله جعل مَن يُقتل في سبيله حيا، وإذا قتلت في سبيل الله أصبحت شهيدًا، وبهذا أنت قهرت الموت، ولم يكن الموت بالنسبة لك إلا نقلة إلى حياة أبدية في نعيم ورزق وفرح.
يقول الله تعالى {كُتِبَ عَلَيْكُمُ القِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ} (البقرة: 216). كم من أناسٍ ظنّوا أن السلام في الصمت، وأن الأمان في الحياد، فإذا بهم يجنون الذلّ والهوان! فالذين خافوا القتال دفاعًا عن دينهم وكرامتهم نالوا من الأعداء ما هو أشدّ من الحرب نفسها. إنّ ما يراه الإنسان شرًّا قد يكون في ميزان الله خيرًا له، لأنّ الله يعلم ونحن لا نعلم. إنّ الذين يفرّون من ساحة الجهاد لا يفرّون من الموت، بل يلاقونه في أضعف حالاته، كما قال تعالى: {قُل لَّن يَنفَعَكُمُ الفِرَارُ إِن فَرَرْتُم مِّنَ المَوْتِ أَوِ القَتْلِ وَإِذاً لَا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلًا} (الأحزاب: 16). أما من خرج مجاهدًا في سبيل الله فربما لن يُقتل، وإن قُتل فله الحياة الباقية.
إن من أحب حالة السكوت والصمت وفضل البقاء دون أن يكون له موقف من أعدائه، وكره القتال دفاعًا عن دينه ووطنه وأهله وما سيحصل عليه من خير، فإنه مخطئ في تقديراته: {وَعَسَى أَن تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ}، والشواهد على هذا كثيرة جدًا، فعندما احتلت أمريكا العراق وغيرها كان جنودها يقتحمون كثيرا من البيوت، وينتهكون الأعراض، ويهينون كرامة الناس، ويكبلون كثيرا منهم أمام عائلاتهم.. وهذا الأمر يُعَد شرًا: {وَعَسَى أَن تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ}. فيجب على الإنسان أن يرى ويؤمن بأن كل ما يأمره الله ويدعوه إليه هو خير له بما فيه القتال الذي يراه برؤيته وحساباته أنه شر: {وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ}.
الذين يتراجعون عن القتال في سبيل الله بدافع الخوف والحرص على الحياة يعرضون أعمارهم لأن تقصف سريعًا، وقد تحدث الله في القرآن ساخرًا من تلك الفئة التي كان باستطاعتها مواجهة الظالمين وإقامة العدل فخرجوا، قال تعالى {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِن دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ المَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَشْكُرُونَ} البقرة آية (243). وقال أيضا في سورة الأحزاب {قُل لَّن يَنفَعَكُمُ الفِرَارُ إِن فَرَرْتُم مِّنَ المَوْتِ أَوِ القَتْلِ وَإِذاً لاَّ تُمَتَّعُونَ إِلاَّ قَلِيلاً} آية(16).
من وفائنا للشهداء، ومن مسؤوليتنا تجاههم أن نكون أوفياء مع المبادئ والقيم التي ضحوا من أجلها. فالشهداء قدموا أنفسهم في سبيل الله لأهداف عظيمة، كي يتحقق العدل، كي يزول الظلم، كي ينعم الناس بالعزة، كي تتحقق لأمتهم الكرامة، كي يقوم دين الله، لأجل أن تعلو كلمة الله. القيم والمبادئ والأهداف التي قدم الشهداء أنفسهم في سبيل الله من أجلها، وضحوا من أجلها يجب أن نكون أوفياء معها، أن تكون جهودنا جميعاً كمجتمع مؤمن، وكمجاهدين في سبيل الله سبحانه وتعالى قائمة على هذا الأساس، وأن نصون هذه المسيرة المقدسة العظيمة من أن يشوبها الأشياء التي تسيء إلى قداستها، وإلى قداسة قضيتها، وإلى مستوى تضحياتها وعطائها وبذلها.
هؤلاء الشهداء الأجلاء ما قدموه من تضحيات وصلت إلى مستوى النفس والحياة بكلها، كان أملهم إقامة الحق، إقامة العدل، أن ينعم مجتمعهم المؤمن بالعدل وبالأمن وبالسلام، وأن يتحقق في واقعه دين الله سبحانه وتعالى، والرحمة والأخوة والقيم العظيمة والنبيلة. فمن الوفاء لهم الوفاء مع تلك المبادئ ومع تلك القيم.
يقول السيد القائد عبدالملك بدرالدين الحوثي عن مسؤوليتنا تجاه الشهداء :"من مسؤولياتنا كمجتمع مؤمن تجاه هؤلاء الشهداء رعاية أسرهم، والاهتمام بأسرهم، أسر الشهداء هم أمانة في أعناقنا جميعاً كمجتمع مسلم، نتحمل مسؤولية أمام الله تجاه هذه الأسر في رعايتها، في مساعدتها. الكثير من الأسر فقدت - تلك الأسر التي قدمت شهداء - فقدت من يعيلها، من يهتم بها. فيجب على المجتمع أن يكون تجاه هذه الأسر مكرماً لهذه الأسر وحنوناً تجاهها، رعاية ورحمة وخدمة وإحسانا، وهذا قليل من كثير في مقابل ما تحقق ببركة الشهداء، في مقابل ما تحقق للأمة من خلال تضحياتهم، قليل من كثير، ولن يضيع شيء في هذا الاتجاه".