موقع أنصار الله . تقرير | يحيى الشامي

على أنقاض حرب غزة التي كشفت هشاشةَ الكيان الإسرائيلي وفشله في تحقيق "الحسم العسكري"، برزت أزمةُ التجنيد الإلزامي كجُرحٍ نازف لا يهدد المؤسسة العسكرية وحسب، بل يُنذر بتمزيق النسيج الاجتماعي للكيان من الداخل، ويُضعف جاهزية جيشه لمواجهة تحديات مستقبلية. فبين احتجاجات الحريديم (المتدينين) الرافضين للخدمة العسكرية، وغضب الجنود العائدين من جحيم المعركة، وصراعات النخبة السياسية المُستفيدة من الفُرقة، يتحول الكيان إلى ما قيل عنه "دولتين لشعبين"، كما ورد في وصف محللين صهاينة، حيث تتقاسم مجموعات المجتمع الثقلَ الوجودي للعدو، بينما يغرق جيشه في أزمات هيكلية قد تحرم قيادته من الحشد البشري الضروري لتنفيذ مخططاته التوسعية.

جذور الأزمة: إعفاء الحريديم و"قانون التهرب"

تعود أزمة التجنيد إلى عام 1948، عندما منحت سلطات كيان العدو إعفاءً مؤقتاً لطلاب المدارس "الدينية" (اليشيفا) من الخدمة العسكرية، تحت ذريعة "حماية الهوية اليهودية"، لكن هذا الإعفاء تحول إلى أداةٍ هيكيلية لبناء طبقة حريديم منغلقة، ترفض الاندماج في المجتمع "العلماني"، وتُبرر عزلتها بـ"تكريس الحياة لدراسة التوراة". اليوم، يبلغ عدد سكان الكيان نحو 13 مليون نسمة، يشكل الحريديم 13% منه، معظمهم يعيشون على الدعم الـ"حكومي"، بينما يتهربون من المسؤوليات "الوطنية".
في أكتوبر 2023، وبعد الهزيمة العسكرية التي تسببت بها عمليةُ طوفان الأقصى في غزة التي كلفت العدو 916 قتيلاً و6300 جريح من بين 500 ألف مُجنَّد، اشتعل الجدل حول تحميل "العبء غير العادل" على كاهل الجنود غير الحريديم.. يشرح المحلل العسكري أور هيلر (القناة 13 الصهيونية): "الحرب كشفت فجوةً وجودية: فبينما يدفع العلمانيون والمتدينون المعتدلون ضريبة الدم، يبقى الحريديم في بيوتهم، يراقبون المذبحة من خلف الستائر". هذه العبارة تُلخص مشهداً تصفه المحللة السياسية يائير شركي (القناة 12) بأنه "أكثر إيلاماً من أي جبهة قتال"، حيث تحولت الخلافات إلى صراع على هوية الكيان نفسه.

من مظاهرات الحريديم إلى انهيار الثقة في "الجيش"

في أكتوبر 2025، شهدت القدس "مسيرة المليون"، حيث اجتمع 200 ألف حريدي للاحتجاج على مشروع قانون يلزمهم بالخدمة العسكرية، واصفين إياه "اعتداءً على هوية التوراة". الاحتجاجات -التي نظمها كبار الحاخامات- تصاعدت إلى إغلاق طرق رئيسية، وإحراق حافلات عسكرية، بينما اعتُقل عشرات المتخلّفين عن التجنيد. يعلق المحامي أهارون أكسول، قائد شرطة تل أبيب السابق: "قانون التجنيد أصبح نكتة موسمية… الكل ضد الكل، فلا قانون ولا تجنيد".
في المقابل، يعبر جنود الاحتياط عن غضبهم مما يُسمونها "الطفيليات" التي تستفيد من أمن الجيش دون أن تشارك في صنعه.. يقول جندي احتياط (35 عاماً) لصحيفة جيروزاليم بوست: "فقدنا ثلاثة من رفاقنا في غزة، و80% من سريتي هم متدينون يخدمون ويضحون، بينما الحريديم يرفضون حتى الحديث عن الخدمة الوطنية!". هذا الاستياء يزيد الشرخ بين مجتمعي العدو: لشقّيه العلماني -الذي يُحسب معتدلا- من جهة، والحريدي المنغلق من جهة أخرى.

العائدون: الروح القتالية تقوّضها الصدمات النفسية

إلى جانب الخلافات السياسية، تكشف تقارير غربية عن أزمة نفسية عميقة بين الجنود العائدين من غزة، صحيفة لوفيغارو الفرنسية تصف "جحيماً صامتاً" يعيشه جنود مثل "يسرائيل حيات" الذي أصبح -حسب الصحيفة- غير صالح للحياة بعد أن شاهد أصدقاءه "يتفجرون أمام عينيه". يصرخ "حيات" أمام نواب الكنيست: "أحاول قتل نفسي كل يوم… عالجوني"، بينما يؤكد جنود آخرون أن نتنياهو "أطال الحرب ليبقى في السلطة"، كما يقول يوآف (25 عاماً)، الذي يعاني من اضطراب ما بعد الصدمة: "العالم يرانا متطرفين، لكن السياسيين هم من جعلونا شياطين".
هذه الصدمات -وفق خبراء العدو- تُضعف الروح المعنوية، وتزيد معدلات الانتحار والهروب من الخدمة، ما يُصعّد الحاجة إلى تجنيد آلاف الجدد سنوياً، وهو احتياج لا تستطيع قيادة الكيان سده بسبب مقاومة الحريديم.

نتنياهو و"تحالف الطفيليات"

لم تكن الأزمة يوماً اجتماعية أو عسكرية وحسب، وإن كان وجهها الاجتماعي أشهر وجوهها ظهوراً على السطح، لكن الأزمة سياسيةٌ بامتياز، فرئيس وزراء العدو المجرم بنيامين نتنياهو -الذي يعتمد على تحالف مع حزبي "شاس" و"يهودوت هتوراة" الحريديين- يرفض سَن قانون تجنيدي صارم خوفاً من انهيار حكومته. يشرح المحامي باروخ كارا (القناة 13): "الحكومة تعد لجاناً جديدة لتأبيد الصراع، كأن النشاز أصبح النغمة الرسمية للدولة" حسب كارا.
في الوقت نفسه، تحاول أحزاب المعارضة استغلال الأزمة لعزل نتنياهو، بينما يُصر الحريديم على أن "دراسة التوراة هي درع الكيان"، رغم أن 30% منهم لا يدرسون فعلياً، بل يستغلون الإعفاء للعيش على الإعانات. يحذر الرائد في الاحتياط دافيد فورتال: "التركيز على الحريديم له دوافع معادية للسامية"، لكن محللين آخرين -مثل رؤوفين شارون- يفنّدون هذا الزعم، يقول: "الحقيقة البسيطة أنهم في السجن لأنهم هربوا من الجيش، وليس بسبب مؤامرات خارجية".

السيناريوهات المستقبلية قاتمة بالنسبة للعدو:


أولى الحقائق تتمثل في انهيار القدرة التعبوية، فمع تزايد نسبة الحريديم (يتوقع أن تصل إلى 20% من المستوطنين بحلول 2030)، سيواجه جيش العدو نقصاً حاداً في المجندين، خاصةً مع ارتفاع تكاليف الحروب الحديثة التي تستهلك عشرات الآلاف من الجنود دفعة واحدة، كما حدث في غزة.
كما أن تفكك النسيج في مجتمع الكيان خطر داهم، حيث يصف يائير شركي الوضع بأنه "لا يوجد خطاب واحد"، فالانقسام بين التيارات الدينية والعلمانية يُغذّي خطاب الكراهية، ويقلل الثقة في المؤسسات الأمنية،
بالإضافة إلى ضعف الجبهات المستقبلية، فبدون حلٍ جذري، قد يعجز العدو عن فتح جبهات متعددة ضد المقاومة الفلسطينية أو حزب الله، خاصة إذا تحولت موارده البشرية إلى "حرب أهلية باردة"، حسب تعبير الخبير العسكري جاكوب غرانت.

الكيان على مفترق طرق

أزمة التجنيد ليست خلافاً تقنياً طارئاً كما هي أغلب مشاكل هذا النوع من المعضلات في بقية الكيانات، فهو -لدى كيان العدو وهذه المرة تحديداً- اختبار وجودي لمشروع العدو المستمر في توسعه، فبين حريدي يرفض "الانصهار في المجتمع العلماني"، وجندي عائد من غزة يرى نفسه "جثة تمشي"، وقيادة سياسية تُفضّل البقاء في السلطة على إنقاذ الكيان، يصبح السؤال: هل يستطيع كيانٌ يعاني من انقسامات كهذه أن يبقى متماسكاً في وجه مقاومة متصاعدة؟
الجواب -بحسب تحليل التوازنات الحالية- هو لا. فالتكلفة البشرية للحروب المقبلة ستكون باهظة، والعدو -الذي أثبتت حرب غزة أنه يفتقر إلى استراتيجية واضحة- سيجد نفسه أسيراً لصراعات داخلية تُضعف جيشه، وتُذكي نار السخط الشعبي. ربما تكون هذه الأزمة -أكثر من أي سلاح- هي الشرارة القادرة على كسر حلقات قوة العدو، شرط أن تُدار المعركة بوعيٍ استراتيجي يستغل هذه الثغرات، ويستثمرها في سياق معركة وجودية تجنّد كل الموارد، وتستغل كل الثغرات، وتحشد لها كل الطاقات.