موقع أنصار الله . تقرير | وديع العبسي

مثلت عملية (ومكرُ أولئك هو يبور) إنجازاً أمنياً كبيراً لليمن، وواحدة من أهم العمليات الاستخباراتية الأمنية بالغة الدقة والتعقيد التي تنفذها الأجهزة اليمنية، كما هي إخفاق جديد لقوى العدوان واستخباراتها بما لديها من إمكانات مادية وتقنية كبيرة، كشفت مستوى ما صارت عليه هذه القوى من حالة شتات وعجز عن استعادة أي مستوى من القدرة على الردع.
خلية تجسسية جديدة تقع في قبضة رجال الأمن، ليعيد الأمرُ إلى الذاكرة المسارَ العبثي البائس لحملة الأعداء على اليمن منذ مارس 2015، حيث شهدت الحملة انتقالات إجبارية مثلت بذاتها انتكاسات كانت تلوي رقاب قادتها، فتجبرهم على تحري أسباب النضوج في رؤيتهم إلى اليمن وشعبه.
فمن وقوعهم في فخ القدرة الكاذبة على حسم المعركة في وقت قصير إلى تعدد مسميات الحملات "عاصفة الحزم، عودة الأمل"، ثم التصاعد في نوعيات الأسلحة المستخدمة في قصف المدنيين، ورفع وتيرة مصانع السلاح الأمريكية والأوروبية لإنتاج المزيد وتغطية حاجة المعركة. وكلما اشتد الوضع ضاق الخناق على السعودية والإمارات والراعية أمريكا، ليصل الأمر حد استخدام الأسلحة المحرمة دولياً.
حينها وبعد أن تيقن قادة التحالف تعقُّد الوصول إلى الهدف، رأوا أن الأمر بحاجة إلى الاستقصاء عن نقاط الضعف لدى اليمنيين لصنع تحولات استراتيجية في مسار المعركة يرضي غرورهم، فحركوا ورقة التجسس من خلال شراء الذمم بالمال بعد أن ضيّقوا على الناس معيشتهم بالحصار. غير أن المعركة تجاوزت حدود التوهمات التي استضعفت اليمنيين، لتصبح دول التحالف أهدافاً للضربات اليمنية.
في هذه الأثناء كانت غرف إدارة المعلومات القادمة من اليمن تحمل لهم المفاجآت القاصمة، بسقوط الخلايا الواحدة تلو الأخرى في القبضة الأمنية، وصار الأمر إلى ثماني سنوات، كان حصاد العدوان خلالها نكسات متوالية، ليجد الأمريكان بعدها أن الأمر قد أخذ الكثير من سمعتهم في دعم ورعاية عدوان لا أفق له ضد شعب متماسك، وجبهته الداخلية عصية على الاختراق، فذهب الأمريكي إلى الهدنة بقصد إعادة ترتيب الأوراق ومراجعة إخفاقات العمل الاستخباري الذي تسبب في إطالة أمد المعركة.

المارق الأمريكي يكرر الفشل

اليوم يعيد الصنم الأمريكي نفسه كقائد لعدوان جديد على اليمن لصالح العدو الصهيوني، وبعد أن خاض تجربته في المواجهة المباشرة مع القوات المسلحة، عاد أدراجه، ليُحمِّل العمى الاستخباري الذي يعانيه سبب استمرار فشله في اليمن، فيعمد -بالتعاون مع الكيان الصهيوني والسعودية- لتجنيد بعض ضعاف النفوس من أجل الحصول على المعلومات التي يمكن أن تهيئ له فرصة استهداف مكامن القدرة لدى القوات اليمنية.
يُظهر بيان وزارة الداخلية واعترافات الجواسيس حالة الجمود المخزي الذي لا تزال عليه أجهزة الاستخبارات الأمريكية "سي آي إيه" والصهيونية "الموساد" إلى جانب الاستخبارات السعودية، إذ إن الأمر لم يتجاوز ذات الأهداف التي اعتاد على قصفها بلا أدنى جدوى استراتيجية تبرر له كل هذا التحرك والاستعانة الكبيرة بآخر ما توصلت إليه تقنيات الرصد والتواصل.
يعترف أعضاء الخلية كيف أن المشرفين في الغرفة المشتركة في السعودية كانوا يوجهونها غالباً إلى مواقع مدنية: منازل، شوارع، أسواق، وأعيان مدنية. وأخضعوا -من أجل تنفيذ مهمات رصد لإحداثيات ومعلومات مواقع وأماكن أمنية وعسكرية ومنشآت- إلى تدريبات مكثفة على التصوير والتتبع والاستطلاع والتمويه وكتابة التقارير.
اتسم العمل والتواصل بين أعضاء الخلية والمشرفين بزخم كبير في الإجراءات والتوجيهات والتحركات السرية، ليثير كل ذلك سخرية من تابع هذا الكشف النوعي للمؤسسة الأمنية اليمنية: فالعدو أصلاً كان يجهل أي مواقع حساسة لها علاقة بالعمليات العسكرية اليمنية، لذلك صوَّر لنفسه القدرة على تحليل عبور مارٍّ في الشارع للتكهن بموقع قائد عسكري أو منصة إطلاق صواريخ.!
العبثية التي يعيشها أعداء اليمن وفضحتها آخر تقليعاتهم في ابتكار الخلايا التجسسية كالخلية المُعلن عنها بداية الأسبوع، عكستها تلك المحصلة التي أنجزوها خلال عدوانهم السافر على اليمن دفاعاً عن المارق الصهيوني: مئات الشهداء والجرحى من المدنيين، وعشرات الأعيان المدنية، استهداف (محطة شركة النفط – محطات الكهرباء – مستشفى الرسول الأعظم في صعدة – الأفارقة في احتياطي صعدة.. وأخرى)، وهو الأمر الذي دفع ترامب مرة أخرى للتسليم بأن اليمن أكبر من أن يكون سهلاً على التطويع، ليعلن انسحاباً ذليلاً من المواجهة المباشرة مع قواته وشعبه.

أسلحة حديثة بنكهة يمنية

يعي الكثير -إن لم نقل الجميع- بأن مثل هذه التحركات العدوانية ضد اليمن إنما تأتي من أجل مصالح الكيان الصهيوني الذي يمارس القتل والتنكيل ضد الفلسطينيين بلا أي موانع منذ أكثر من خمسة وسبعين عاماً، كما تأتي بعد أن نجح اليمن -بشكل ملحوظ ومثير- في إعادة صياغة معادلات الردع بالمفهوم اليمني القائم على التوكل على الله والانتصار للمظلومين، وللمنظومة الأخلاقية والإنسانية التي دمرها العدو الإسرائيلي وبإشراف ورعاية أمريكية. وإثر ذلك أصبح اليمن لاعباً قادراً على إلحاق العار بالقوة الأمريكية وزلزلة عمق كيان الاحتلال بشكل مباشر.
الإصرار يتواصل من قبل الأعداء لثني اليمن عن موقفه الإسنادي، والثبات اليمني يزداد قوة وتأكيداً على أن الثوابت الدينية والأخلاقية التي تُملي بضرورة الوقوف إلى جانب الشعب الفلسطيني هي خطوط حمراء، لا تنازل عنها ولا سماح بالمساس بها، فاستعانت قوى الشر بكل الأساليب الدنيئة لوضع حد لجبهة الإسناد اليمنية، فيما استعان اليمن بالله، ودخل معركة الحق، وقدم نموذجاً جلياً لهشاشة أولئك المتوارين خلف الجُدر.
وفي خضم المعركة مثلت الصواريخ الباليستية التي حققت قفزة نوعية في مجال التصنيع ومحاكاة ما وصل إليه العالم من تقنية، إلى جانب الطيران المسيّر الذي دمر سمعة "الجيش الذي لا يُقهر"، هذه الأسلحة بنكهتها اليمنية مثلت همّاً مؤرقاً لمجموعة الأعداء، لذلك كان المشرفون على خلية التجسس حريصين على تحقيق أي اختراق يمكِّنهم من الوصول إلى أي معلومة مباشرة عن المواقع العسكرية وأماكن تصنيع السلاح، ولم يكن أعضاء الخلية بأفضل حال في المعرفة من مشرفيهم، مع ذلك كان الظاهر أن يستمر مخطط نشاط الخلية طويلاً في عمليات الرصد واختراق الاتصالات، ما قد يمكّن من مصادفة الوصول إلى المعلومات المطلوبة، على أن الجهاز الأمني المتيقظ قطع عليهم الطريق وأوصلهم إلى نهاية المهمة، ما يشير إلى الجهوزية العالية التي يتمتع بها بواسل الأمن انطلاقاً من استشعار مسؤولية حساسية المرحلة التي يتكالب فيها قوى الشر على البلد بسبب مواقفه المبدئية في الانتصار للمظلومية في فلسطين.

تراكم مهني وخبرة عملياتية

وفي تفاصيل الجهد الأمني لإحباط الخلية، تمكنت وزارة الداخلية -وعقب عملية رصد وتحرٍّ بدأت منذ أشهر- من رصد تحركات مشبوهة لعناصر مدنية في بعض المحافظات، كانت تقوم بتصوير مواقع حيوية وعسكرية، وجمع معلومات حول قيادات في الجيش والأمن. وقامت وزارة الداخلية بالمراقبة الميدانية والتحليل التقني للاتصالات والبيانات، لتبيّن أن هذه التحركات كانت جزءاً من نشاط منظم يتبع خلية تجسس تعمل وفق تعليمات خارجية دقيقة، وتتلقى مهامها بشكل مباشر من ضباط أجانب عبر قنوات اتصال مشفرة. وإثر المتابعة تمكنت الأجهزة الأمنية من اختراق منظومة الاتصال والتشفير التي كانت تستخدمها الخلايا، ما أدى إلى تحديد خطوط الارتباط والتواصل مع غرفة عمليات استخباراتية مقرها في السعودية.
هكذا شكّل الإنجاز الأمني اليمني ضربة استخباراتية قاصمة للعدو، وأثبت أن الرصد الأمني اليمني بات يمتلك أدوات متقدمة في تحليل الإشارات، وتعقّب الاتصالات، وتحديد مسارات التواصل وعلاقات التمويل، وهو الذي أدى إلى تفكيك هذه الخلية وإسقاطها في توقيتٍ حساس.
وتذهب التحليلات إلى التأكيد على "انتقال الأجهزة الأمنية اليمنية من مرحلة الدفاع الاستخباراتي إلى مرحلة الهجوم المضاد؛ فبدلاً من الاكتفاء بإحباط محاولات الاختراق، باتت الأجهزة قادرة على تتبع مصادر التمويل، وطبيعة التدريب، بل والوصول إلى مراكز القيادة خارج الحدود. هذا المستوى من الوعي الأمني يعكس تراكماً مهنياً وخبرة عملياتية راكمتها الأجهزة اليمنية خلال سنوات الحرب، مستفيدةً من الخبرات التقنية التي طورتها في مواجهة الطائرات المسيرة وحرب الاتصالات".