موقع أنصار الله . تقرير | يحيى الشامي
في ساعة مبكرة من فجر الثلاثاء لم يكن سكان بلدة "بيت ليد" شرق طولكرم يعلمون أنهم سيصبحون مسرحاً لجريمة جديدة تُضاف إلى سجل العار الإنساني للمشروع الاستعماري الصهيوني، ففي الساعة السادسة صباحاً اقتحم عشرات المغتصبين اليهود مصنع "الجنيدي" للألبان، وما لبثوا أن حوّلوه إلى كتلة من اللهب والركام، في هجوم بدا "منسقاً عسكرياً" أكثر من كونه "اعتداءً عشوائياً"، حسبما أكده شهود عيان ومدير المصنع.
أظهرت لقطات كاميرات المراقبة تسلسلاً دقيقاً للعملية الإجرامية: أفراد المجموعة -الذين تجاوز عددهم الخمسين- دخلوا المصنع على دفعات، وكل فريق لديه مهمة محددة: فريق مكلف بمهاجمة الموظفين بالضرب، وآخر يرشق نوافذ المصنع بالحجارة، وثالث يوزع وقوداً على الشاحنات والمعدات.
"كان المشهد كأننا في فيلم حرب، لكن الجنود كانوا يحمون المهاجمين لا يحموننا"، يقول منجد الجنيدي مدير المصنع. وأضاف: "القوات الإسرائيلية حضرت في السابعة صباحاً، لكنها لم تطلق رصاصة واحدة في الهواء، لم تحاول حتى وقف المهاجمين، بل فرضت طوقاً حولهم يحميهم من غضب الأهالي. والأسوأ من ذلك أنها منعت سيارات الإسعاف والدفاع المدني الفلسطينية من الوصول إلى المصنع المحترق".
النتيجة كانت كارثية، خمس شاحنات توزيع كبيرة محترقة بالكامل، ثلاث سيارات خاصة للموظفين تحولت إلى هياكل معدنية، وآلاف اللترات من منتجات الألبان تسربت في حريق لم تستطع طواقم الإطفاء السيطرة عليه إلا بعد ساعات، لكن الأمر الأخطر كان في إصابة أربعة فلسطينيين بجروح، بينهم اثنان في "حالة خطرة"، حسبما أفاد مصدر طبي فلسطيني رفض الكشف عن اسمه خشية الاستهداف.
تأتي هذه الجريمة في سياق تصاعد "ممنهج" للمغتصبين اليهود أو ما يُطلق عليه الإرهاب الاستيطاني، حيث وثقت الأمم المتحدة 264 اعتداءً للمغتصبين اليهود في الضفة الغربية خلال أكتوبر الماضي، مسجلةً بذلك أعلى رقم شهر منذ بدء التوثيق عام 2006، ويشير هذا الرقم إلى أن الضفة -التي يقطنها أكثر من 27 مليون فلسطيني- تحوّلت إلى "غابة يحكمها قانون القوة لا قوة القانون"، على حد تعبير منسقة الأمم المتحدة للشؤون الإنسانية.
التفاصيل المروعة لهذه الإحصائيات تتضمن ذبح المواشي، وحرق المحاصيل الزراعية، وتدمير خيام البدو، وطعن المزارعين في الحقول. لكن سلطات العدو الإسرائيلية، التي ترفض وصف المستعمرات بـ"غير الشرعية"، لم توجه لوماً واحداً علنياً لهؤلاء المجرمين، بل على العكس، توفر لهم "الحماية والغطاء السياسي"، حسبما تؤكد تقارير حقوقية دولية.
في تقرير استقصائي نشرته صحيفة "يديعوت أحرونوت" العبرية، يكشف الصحفي إليشع بن كيمون عن تطور خطير في بنية العنف الاستيطاني: "انتقل زعران التلال من مرحلة 'فتيان التلال' التي شجعها أرييل شارون قبل عقود، إلى 'زعران التلال'، والآن أصبحوا 'برابرة التلال'". ويلفت التحقيق إلى أن هذه التسمية "ليست اتهاماً، بل اسم اختاروه لأنفسهم، كتهديد صريح".
ويستند التحقيق إلى مصادر أمنية وعسكرية داخل كيان العدو الاسرائيلي رفيعة، تؤكد أن "برابرة التلال" لم يعودوا يستهدفون الفلسطينيين فحسب، بل باتوا يهاجمون "الذين ساعدوهم ودعموهم"، ففي أغسطس، أحرقوا سيارة جندي إسرائيلي يقيم في بؤرة استيطانية بسبب "تجرؤه على الدفاع عن القانون" حسب التحقيق، وفي حادثة أخرى، كسروا نوافذ سيارة مستوطن "توسل إليهم" ألا يحرقوها، قبل أن يمزقوا إطاراتها أمام مرأى زوجته وطفله.
المفارقة المذهلة في التحقيق العبري أن "صبر الجيش الإسرائيلي ينفد"، ففي اجتماع خاص عقده رئيس الأركان إيال زامير مع قادة ما تسمى "ألوية الضفة" الشهر الماضي، طالب الجنرالات بـ"إعادة الاعتقال الإداري فوراً"، بعد أن ألغاه ما يُسمى وزير الدفاع إسرائيل كاتس بضغط من وزراء المستعمرات بتسلئيل سموتريتش وإيتمار بن غفير.
يقول ضابط برتبة لواء، شريطة عدم الكشف عن هويته للصحيفة العبرية: "أفعالهم سادية، وتتخطى كل الخطوط الحمراء، يأتون بتشجيع من وزراء، وصار صعباً على الجيش اعتقالهم"، ويضيف: "هذه مجموعة، بعضهم لا يعيش في الضفة، ولديهم سجل جنائي يشمل السطو وتخريب الممتلكات، يسبغون أيديولوجية على الجريمة، لكن ما الأيديولوجية في سرقة هواتف الفلسطينيين؟".
وهنا يبرز دور الوزيرين المتطرفين، فمنذ تعيين إيتمار بن غفير في منصب ما يُسمّى وزير الأمن القومي، "امتنعت الشرطة عن التحقيق في الجرائم ذات الطابع القومي" كما يؤكد تحقيق الصحيفة، أما كاتس فكان "بين أول قراراته منع استخدام الاعتقال الإداري ضد الإرهابيين اليهود المحتملين"، وهو ما يعطيهم "شعوراً بأنهم فوق القانون".
الجديد في موجة الإرهاب الحالية أنها لم تعد تفرق بين "العدو العربي" و"الحليف اليهودي"، فقبل أسابيع، ثقب المجرمون إطارات سيارة مستوطن في كتلة "شيلوه" لأنه منعهم من تنفيذ "عملية جباية ثمن" في قريته، وقبل أيام تعرض ناشط معروف في "التلال" لـ"اعتداء وحشي في وضح النهار" على يد أفراد العصابة نفسها.
"جميعنا مصدومون" يقول أحد الشخصيات البارزة في المستعمرات لـ"يديعوت أحرونوت"، مضيفاً: "عندما كان العنف موجهاً ضد الفلسطينيين، كان هناك من يكتفي بالإدانات، الآن يصل إلى عتبة الباب"، ويتساءل: "كيف وصلنا إلى وضع يتعرض فيه اليهود الذين دعموا التلال للهجوم؟"
الإجابة -حسب التحقيق- تكمن في "فوضى استيطانية إيجابية"، مصطلح استخدمه أحد المصادر الأمنية لوصف سياسة حكومة العدو التي تمنح هؤلاء "تلالاً ومالاً وحماية"، النتيجة: "فتى في الـ13 من عمره يقود سيارة بدون رخصة، وفتيان آخرون يشعلون النار في المركبات".
التحليل الأمني الإسرائيلي يخلص إلى أن "النار بدأت تتجه أخيراً -حرفياً- إلى جيرانهم فالمجموعات المتطرفة، التي ترتدي قمصاناً كُتب عليها "شعب إسرائيل نعم ودولة إسرائيل لا"، لا تعترف بالمؤسسات، وتصر على أنها "فوق القانون"،
وحسب التحقيق فإن "92 حادثة سُجّلت في يونيو، و70 في يوليو، و40 في أغسطس "، وهي أرقام تفوق العام الماضي بـ"زيادة مضاعفة". القائمة تضم هجمات على مراكز شرطة ومحاولات دهس، وحرق منشآت عسكرية.
لم يعد الأمر في إطار "صدامات بين فلسطينيين ومغتصبين يهود"، كما تروج دعاية العدو الإسرائيلي، بل إنه نظام عنف منظم غير قابل للتعايش معه، يبدأ بفتيان تلال وينتهي ببرابرة يحرقون ويقتلون باسم "الأيديولوجيا"، ويحظى بتشجيع "حكومي" وتواطؤ عسكري، وهو قبل كل شيء يعكس التعبئة العقائدية القائمة على قدر لا يوصف من الكراهية والحقد.