موقع أنصار الله . تقرير | وديع العبسي
بالنسبة لترامب ومن يحكم أمريكا في الظل، فإن التحدي اليمني صار واقعاً لا يمكن تجاهله. ونجاح اليمن في القيام بدوره الإسنادي للمظلومية الفلسطينية، حقيقة لن يكون لأمريكا ولا العدو الصهيوني تجاوزها، وتكتسب هذه الحقيقة أهميتها وحساسيتها من كون هذا الإسناد -بما ظهر عليه من فاعلية- أَسَّسَ لمرحلة جديدة تأخذ فيه أمريكا موقعها بحجمها الطبيعي والمكشوف للعالم. بالتالي تصير القوة اليمنية الصاعدة الخطر الذي يمكن أن ينخر في الكينونة الأمريكية، ويَتَهَدَّدُ مكانتها كمتصدرة للعالم كلما فكرت وأذنابها في محاولة النيل منها. من هنا ترى واشنطن أن ممارسة السياسة في الشرق الأوسط على نحو فوضوي يمكن أن يزيحها من مساحة الخطر ويعود بها إلى الوضعية التي كانت عليها قبل تهورها المُهين في معركة فرض الإرادة على اليمن.
وبخلاف الأتباع تنظر واشنطن بواقعية إلى ما أحدثه الظهور اليمني بتلك القوة التي دفعتها للتسليم والانسحاب من المنازلة، حين اهتزت مكانتها كقوة مطلقة قادرة على العبث بكل العالم، وصار الكثير على قناعة بأن ما كان يحيط بأَمريكا من هالة الردع مسألة أخذت أكثر من طبيعتها، وهذا المتغير من الطبيعي أن يثير القلق كثيراً لدى قادة أمريكا، فهو لا يكشف فقط عن واقعها أمام القوى العالمية المنافسة، وإنما أيضاً يحرجها أمام من وضعوا كل ثقتهم بها وسلموا لها مصائرهم.
وفق ذلك لن يكون مستغرباً أن تدفع واشنطن إلى استهداف اليمن بأشكال مختلفة بقصد وضع حد لهذه القوة التي تتشكل في المنطقة ويُهدِّدُ الواقع العسكري الأمريكي ومستقبله، إلا أن واشنطن مع ذلك ستحاول عدم الدخول المباشر مع القوات اليمنية في أي معركة، وإنما ستلقي هذا الدور على عاتق الكيان الصهيوني والمتحالفين معها في المنطقة، بينما ستكون سنداً قوياً، فالمعركة بالنسبة لها أيضاً مصيرية.
تسيطر على أمريكا فكرة أن اليمنيين في وقت السلم أو خفوت الصواريخ يكونون في وضعية الاستكانة إلى أن يتعرضوا لأي خطر، وهي فكرة أثبتت السنوات العشر الماضية سذاجتها، فشعور اليمن بخطر الأعداء لا يتكون من التحرك اللحظي، وإنما من القناعة والمعرفة بطبيعتهم كقوى استعمارية تعيش على أعمال البطش والنهب للشعوب، لذلك يبقى في حالة إعداد بما استطاع من قوة، كما هو في حالة واعية بمحاولة الأعداء النخر البطيء لجبهته الداخلية بسياسات عدوانية تقوم على التضييق الاقتصادي، أو الإرهاب بتحريك بعض الأسلحة، أو خلق ضجيج حول دعم الأدوات لتَصَدُّر المواجهة مع القوات اليمنية.
من هنا يعيد اليمن إلى الواجهة -وعقب اتفاق وقف إطلاق النار في غزة- خارطة السلام مع السعودية وباقي شركاء التحالف السعودي الأمريكي الإماراتي، وهي الخارطة التي جرى عرقلتها بمبرر حرب غزة والتصعيد في البحر الأحمر.
موقف اليمن المساند لغزة لا يعني التعامي عما يحاول تحالف العدوان فرضه أو اتخاذه من إجراءات تعمل على تآكل مقومات الثبات والإصرار على انتزاع الحقوق. إنما أيضاً مطالبة اليمن للأعداء بإنهاء الاستهداف المستمر للشعب اليمني لا يأتي من نزعة عدوانية وإنما لكون الأمر حقاً لا يمكن السكوت عنه. فضلاً عن أن أي تحركات لأمريكا وأتباعها إنما الهدف منها توفير بيئة النمو والهيمنة للكيان الصهيوني. يقول عضو المكتب السياسي لأنصار الله محمد الفرح "نحن لا نُهدِّدُ بشكل إجرامي، بل نُعلنُ استعدادنا لمواجهة كل تهديدٍ بثمنٍ باهظٍ على من يختار العدوان"، يُضيف الفرح للأعداء "ندرك تماماً مراميكم الهادفة إلى فرض قطبٍ واحد في المنطقة وإخضاع كل من يعترض على استباحتكم، بحيث لا يبقى من يستنكر جرائمكم أو يناصر المظلومين أمام طغيانكم، هذا مستحيل، انسَوا ذلك الحلم؛ مخططكم لن يمرّ دون ثمن".
في الكشف الأمني الأخير عن خلية التجسس المشتركة بين الـ"سي آي إيه" و"الموساد" والاستخبارات السعودية، يحتار الأجنبي قبل العربي كيف للسعودية -وهي التي كانت تُعرف بـ"الشقيقة الكبرى"- أن تقبل على نفسها هذا الدور التخريبي في اليمن والذي يأتي بهدف إيقاف إسناد اليمن للفلسطينيين، وكان الأصل أن تدعم "المملكة العربية" أي تحرك حر دفاعاً عن الفلسطينيين والمقدسات.
في كل الأحوال، تزيد السعودية -باشتغالها وبهذا الإخلاص العجيب مع أعداء الأمة- من انكشافها كدولة مسلوبة الإرادة، حيث لا يمكنها معارضة أي إجراء يتخذه الأمريكي نيابة عن الكيان، وتجد نفسها اليوم مطالبة بـ"ضخ" المزيد من الأموال لأي تحركات ضد الشعب اليمني، بينما يرى اليمن أن الأصل في كل هذا الحقد السعودي عليه هو أمريكا والكيان، فهما بلاطجة وإرهابيو العصر بلا منازع، والمحركان والمتحكمان ببوصلة العلاقات بين دول المنطقة، وأي تحرك سعودي عدائي تتم قراءته على هذا الأساس، ما يعني أن أي استهداف ينفذه اليمن ضد مصالح في السعودية، فإنه بلا شك سيكون "موجعاً" لتلك القوى، إنما الرياض هي من ستكتوي بتداعياته على نحو أكثر "وجعاً".
أمريكا لا يعنيها من تعتبرهم أصدقاء عرب إلا بمقدار ما تجنيه منهم من الفوائد والمصالح، حتى أن دفاعها عنهم له سقف محدد جداً، وقد لمس العالم كيف أن أمريكا تركت الكيان الصهيوني في عرض البحر تتلاطمه أمواج اليمن العاتية، واكتفت بدعمه بالسلاح ومحاولات تَحْشِيد العالم لصالحه. ولا يمكن أن تكون أي دولة عربية أو إسلامية أغلى من الكيان لدى أمريكا. لهذا صار من الحكمة عدم الذهاب بعيداً في استفزاز اليمنيين والهروب من استحقاقات السلام والعبث بحياتهم.
تؤكد الكثير من التحليلات واستخلاصات المراقبين وخبراء الغرب أن اليمن صار استثناءً في المنطقة العربية وقوته صارت عاتية، ليس لما يمتلكه من قدرات عسكرية، وإنما من إيمان وثبات وجرأة على المواجهة، ولـ"امتلاكه إرادَة سياسية مستقلة عن الهيمنة الغربية” حسب المحلل الجيوسياسي الأمريكي باتريك هينينغسن، الذي أكد أن اليمن هو الدولة العربية الوحيدة التي تحدَّت كيان الاحتلال بشكل مباشر وفعّال خلال الحرب الأخيرة على غزة.
وإذا ما علمنا أن الكيان يرعب دول المنطقة فهذا يعني أن اليمن صار في مستوى من الاقتدار يؤهله لأن يفرض على الآخرين مغادرة نظرتهم السلبية تجاه اليمن واستضعافه. وقال هينينغسن: إن “المفاجأة الكبرى لـ (إسرائيل) لم تكن من الجيوش العربية التقليدية، بل من اليمن وإيران”، موضحاً أن هاتين الدولتين تُمثِّلان اليوم “المصدر الحقيقي للقلق الأمني لدى (تل أبيب)”؛ بسَببِ قدرتهما على الردع والتحَرُّك خارج الحسابات الأمريكية. ويصف هينينغسن الجيش اليمني بأنه الـ“أكثر فاعلية من كُـلّ الجيوش العربية مجتمعةً في مواجهة (إسرائيل)”.
وفي محاولة منه لفك "شفرة" الحضور اليمني بهذا الشكل من القوة والتأثير، قال هينينغسن إن "(إسرائيل) اليوم تخشى اليمن أكثر مما تخشى أي جيش عربي تقليدي؛ لأنها تواجه خصماً غير قابل للابتزاز، ولا يعتمد على واشنطن".
نجح اليمن في أن يكون في قلب المخاوف الأمنية للقوى الاستعمارية، ليس بالخروج عن "القوانين والأعراف الدولية" واستعراض القوة على الآخرين، وإنما في قدرته على تحويل موقفه من الكيان الصهيوني واحتلاله للأراضي العربية وممارسته البلطجة ضد شعوبها إلى أفعال تهز أبراج الصهيونية العالمية، ولأجل كل ذلك فإنه ليس بحاجة لأن يُكثر من الحديث عن أن يمن اليوم لن يسمح بأي حال مصادرة حقوق الشعب اليمني، ونهب ثرواته، وتهديد معيشته.
اليمنيون -وإن خفّ مشهد العنف الإسرائيلي المستمر في غزة- لم يتركوا جبل الرُماة، ولا زالوا في حالة الاستنفار القصوى للضغط على الزناد ضد كل المحاولات في النيل من البلد بسبب مواقفه المبدئية تجاه دينه وأُمته، وتجاه مبادئه القيمية والأخلاقية. وسواء جاء أي عدوان بصورة مباشرة أمريكية إسرائيلية أو عن طريق "تحالف العدوان"، فإن الهدف واحد والعدو واحد وحق الدفاع لن يستثني أحداً.
وحين يطلق المدعو "نتنياهو" تهديداته فإنما يشير إلى أنه وكيانه لم يستوعبوا الدرس بعد، ما يستدعي رفع وتيرة الأدوات المستخدمة لتأديب هذا الكيان المارق من الإنسانية، إذ إن عصابة الاحتلال -وبكل بجاحة- تحاول فرض "استخفافها واستهتارها" على اليمن، فتريد منه تقبُّل ما تفعله، أو تجاهله على أقل تقدير، وهو ما لا يستقيم مع الطبيعة اليمنية.
تحججت السعودية بالتصعيد في البحر الأحمر، واعتبرت ذلك عائقاً أمام استكمال خارطة طريق السلام في اليمن. وزوال هذا المبرر اليوم مع استمرار الرياض في التهرب من الاستحقاقات التي تُعد مطالب حيوية للشعب اليمني، أضِف إليه التحركات العدوانية التي تتشارك فيها مع أمريكا والكيان الصهيوني، يعني غياب النوايا الصادقة لإنهاء الوضع القائم المتمثل في حالة "اللاسلم واللاحرب"، وهو ما يجعل اليمن مُلزَماً بالتحرك لوضع حد لهذا الاستخفاف، والدفاع عن حقوق شعبه.
ونهاية أكتوبر الماضي أكد القائم بأعمال رئيس الحكومة العلامة محمد مفتاح أن القيادة اليمنية لن تقف مكتوفة الأيدي أمام أي إجراءات عدائية تمسّ حياة المواطنين أو سيادة البلاد. وقال: “نقول لمن يتخذ الإجراءات للتضييق على شعبنا في معيشته: معادلة البنك بالبنك، والمطار بالمطار، والميناء بالميناء لم تسقط، وهذه اللعبة لن تستمر، وشعبنا لن يخنع وسيواجهكم ويُسقط مؤامراتكم”.
ويحذر محللون حسب موقع “New Eastern Outloo“ الروسي من أن انهيار عملية السلام في اليمن سيؤدي بشكل "شبه مؤكد" إلى استئناف العمليات الهجومية لليمنيين. ويرى سيرغي سيريبروف، الباحث الأول في معهد الدراسات الشرقية التابع للأكاديمية الروسية للعلوم، حسب الموقع، أنه في مثل هذا السيناريو، من المحتمل جداً تكرار هجمات اليمنيين عبر الحدود على البنية التحتية الحيوية السعودية، بما في ذلك المنشآت النفطية.