موقع أنصار الله . تقرير |
سلاح الدعاية هو ما يصطلح عليه بلغة العصر بـ(الحرب النفسية)، وهي وإن كانت مصطلحا حديثا، إلا أنها استخدمت على مر التاريخ وفي كل الحضارات، مع تغييرات في تسمياتها. ولعل من أبرز النماذج المعاصرة على الحرب النفسية: نموذج (الحرب الباردة) التي جرت في النصف الثاني من القرن الماضي بين حلف شمال الأطلسي بالقيادة الأمريكية وحلف وارسو بالقيادة السوفيتية، وقد سميت إلى جانب هذه التسمية بحرب الأعصاب، حرب الدعايات، حرب الشائعات، حرب الكلمة والصراع الفكري.
وتكون الحرب النفسية أكثر فاعلية وأشد نكاية في الخصوم إذا توفرت فيها عوامل التأثير، والتي من بينها قوة الآلة الإعلامية المستخدمة وضعفها من الجهة الأخرى لدى الخصم المستهدف، وقلة الوعي التاريخي والسياسي لدى الشعوب، وضعف الانتماء العقدي والاستعلاء الفكري عندها.
هذه التوصيفات للحرب النفسية تنطبق أشد ما تنطبق في العصر الحالي على الحركة الصهيونية منذ بدءِ نشأتها إلى تغول الكيان الإسرائيلي في أرض فلسطين، حيث قامت هذه الحركة -بمساعدة من القوى العالمية وبدعم لا مشروط منها- بشيطنة كل دعاوى الشعب الفلسطيني في استحقاقه لأرضه وحقه المشروع في المقاومة، وبرسم صورة الضحية للصهاينة أمام الرأي العام العالمي. وسنستعرض في هذا المقال أساليب الصهاينة في استخدام الحرب النفسية، ومراحلها، وتأثيرها، وسبل التحرر من وطأة نتائجها.
تمثّل الحرب النفسية أحد الأعمدة المركزية في العقيدة العسكرية الإسرائيلية، حيث تُعامل كأداة موازية للقوة النارية، وكمكوّن تأسيسي إلى جانب محددات الأمن القومي، والجاهزية العملياتية، والتفوق التكنولوجي، والضربات الاستباقية، والعمليات المشتركة. ومنذ بدايات المشروع الصهيوني اعتبرت السيطرة على الوعي، واختراق البنية النفسية للفلسطينيين والعرب، وإعادة تشكيل الرأي العام المحلي والدولي، عملية استراتيجية لا تقل أهمية عن العمليات العسكرية المباشرة.
ارتكزت الحركة الصهيونية -منذ الهجرات الأولى إلى فلسطين- على بناء سردية مضللة تقصي وجود الفلسطينيين من الجغرافيا والتاريخ، وجرى تسويق شعار "أرض بلا شعب لشعب بلا أرض" كأداة ناعمة للحرب النفسية تهدف إلى شرعنة الاستيطان وتغييب أصحاب الأرض، ثم تلا ذلك انتقال العصابات الصهيونية مثل ما يعرف "الهاغاناه" و"الأرجون" إلى ممارسة الإجرام وعمليات الترهيب الممنهج عبر المجازر، والتهجير، وتدمير القرى لبث الرعب في نفوس الفلسطينيين ودفعهم قسرًا إلى الرحيل في النكبة التي مهدت لقيام الكيان الإسرائيلي عام 1948.
اعتمد الكيان الإسرائيلي في حربه النفسية على استثمار كذبة "الهولوكوست" لتأطير نفسه في صورة الضحية الدائمة، وقد أدى هذا النهج إلى انحياز الإعلام الغربي انحيازًا عميقًا للرواية الصهيونية، وتبرير كل أشكال العدوان باعتبارها دفاعًا عن النفس رغم وقوعها داخل أراض عربية محتلة، وفي المقابل جرى تصوير الفلسطينيين كـ”إرهابيين”، وهو ما خلق بيئة دولية قادرة على تجاهل آلام الشعب الفلسطيني ومعاناته وحقوقه، وقد عزز من ذلك الميولُ الغربي إلى الحركة الصهيونية، والنزعة العدوانية تجاه الأمة الإسلامية، وهي نزعة متأصلة لدى الغربيين.
مع اندلاع الانتفاضة الفلسطينية الثانية عام 2000، أعلن "رئيس الأركان" الإسرائيلي “موشيه يعلون” إطلاق حملة واسعة للحرب النفسية تحت عنوان “كيّ الوعي”، وهدفها ترسيخ قناعة لدى الفلسطينيين بأن المقاومة المسلحة غير قادرة على تحقيق أي إنجاز. وأصبحت هذه العقيدة منذ ذلك الحين سياسة ثابتة لا تنفصل عن الأداء العسكري والأمني الإسرائيلي، تستهدف إرهاب المجتمع الفلسطيني لعدم المطالبة بحقوقه التاريخية في استعادة أرضه. لذا خصص الكيان الإسرائيلي عدة أجهزة متخصصة في تنفيذ العمليات النفسية مزودة بالإمكانيات المادية والتكنولوجية والإعلامية، منها:
"مركز عمليات الوعي" (MALAT): أنشأ الكيان الإسرائيلي في عام 2005 مركزاً خاصاً لإدارة الحرب النفسية على الأمة الإسلامية، أطلق عليه “مركز عمليات الوعي”، وهو جزء من جهاز "الاستخبارات العسكرية" الصهيونية المسمى “أمان”، مهمته إدارة الحرب النفسية، وإنشاء مواقع إلكترونية لنشر الدعاية والشائعات السلبية.
بدأت عمليات هذا المركز مع العدوان على لبنان 2006، ونشط دوره مع العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة عام 2008، حيث أعد لذلك حملة متكاملة لتحطيم المعنويات الفلسطينية من خلال استخدام مجموعة من الأدوات لنشر الشائعات والدعاية السلبية، مثل إلقاء المنشورات والاستيلاء على محطات الإذاعة والتلفزيون، والحملات الإلكترونية التي استهدفت المنتديات الشائعة في قطاع غزة في هذا الوقت.
استمرت العمليات النفسية الإسرائيلية ضد الشعب الفلسطيني على طول أمد الصراع؛ واختلفت آلياتها وتوجهاتها بين قطاع غزة والضفة الغربية؛ ففي غزة سعت "إسرائيل" في كل عدوان على القطاع إلى إيقاع أكبر قدر من الخسائر البشرية والمادية وبخاصة في صفوف المدنيين، لإثارة الهلع الشعبي وتقويض أي نوع من المقاومة، بالإضافة إلى استخدام سياسة العقاب الجماعي، فبالرغم من أن معركتها كانت مع حماس إلا أنها فرضت حصاراً شديداً على القطاع منذ عام 2007، ما خلق حالة من الحرمان الاقتصادي والأزمة الإنسانية، هدفت إلى التحكم في الشعب الفلسطيني، وإثارة الغضب الفلسطيني ضد الحركة. أما في الضفة الغربية فقد عملت "إسرائيل" على التضييق على أهالي الضفة من خلال مصادرة أراضيهم، والاعتقالات اليومية، وتوسيع المستوطنات على حساب الأراضي الفلسطينية.
اعتمد العدو الإسرائيلي في غزة سياسة تقوم على استنزاف المدنيين وإلحاق أكبر قدر ممكن من الخسائر للبنية الاجتماعية والاقتصادية، بهدف خلق حالة من الانهيار المعنوي تدفع السكان ضد المقاومة، وتضعف قدرتها على الاستمرار. وشمل ذلك الإبادة الجماعية، ففي العدوان الإسرائيلي الأخير استشهد ما يزيد عن 70 ألف فلسطيني، وأصيب ما يزيد عن 170 ألف آخرين، ناهيك عن تدمير 90% من مساحة قطاع غزة، ويضاف إلى الحصار المشدد منذ العام 2007.
أما في الضفة الغربية فتمحور الضغط النفسي حول سياسات يومية مستمرة عبر مصادرة الأراضي والاستيطان والاعتقالات الممنهجة، والوجود الأمني المكثف في المدن والقرى.
ومنذ اليوم الأول للعدوان على غزة تبنّى الكيان الإسرائيلي عدة أدوات رئيسية منها استراتيجية “الصدمة والرعب”، حيث اعتمد العدو تكتيك الضربات الجوية المكثفة والعنيفة، بهدف بث الذعر لدى المدنيين لدفعهم إلى النزوح، وإظهار قدرة العدو على استعادة الهيبة الأمنية أمام الداخل الإسرائيلي، وإحباط معنويات فصائل المقاومة عبر إظهار فارق القدرة التدميرية الهائل.
كما عمد العدو إلى ممارسة أسلوب البث النفسي المباشر من خلال منشورات جوية تتضمن تهديدات وأوامر بالإخلاء، ورسائل نصية جماعية على الهواتف، وتسجيلات عبر المسيّرات تستخدم أصواتًا تهديدية، وأحد الأمثلة الصارخة كان إسقاط منشورات في جنوب غزة تتضمن صورة ليحيى السنوار مرفقة برسائل تهدف إلى زرع الشك والكراهية تجاه المقاومة.
استخدم العدو أيضا العقاب الجماعي وإنتاج اليأس المجتمعي، وتمثلت أدوات هذا التكتيك في تدمير شامل للبنى الحيوية (كهرباء، ماء، اتصالات، مستشفيات)، إضافة لمنع المساعدات، وتجويع السكان، وذلك لخلق بيئة لا يشعر فيها المدني بأي مكان آمن، بغرض الضغط على الوعي الجمعي لدفعه نحو الانهيار النفسي والقبول بالتهجير.
وسيطر العدو الإسرائيلي على السردية الإعلامية العالمية، وعمل على إعادة هندسة المجال الإعلامي العالمي عبر تضخيم روايات ملفقة حول ما حدث في 7 أكتوبر، وتوجيه وسائل الإعلام الغربية لتبرير العدوان باعتباره “دفاعًا عن النفس”، وشيطنة أي صوت معارض للرواية الإسرائيلية، واستهدف العدو المجتمع الإسلامي عبر وسائل إعلام عربية بينها قنوات الجزيرة والعربية والحدث، التي طالما ركزت على ترسيخ الرواية الإسرائيلية أمام أي مستجدات، مع إبداء الملاحظات حول الرواية الفلسطينية، إضافة إلى استضافة المحللين الصهاينة، وغيرها من الأساليب التي ترسخ رواية العدو، وكان الهدف إفقاد الفلسطينيين آخر ملاذ معنوي "التعاطف الدولي".
وكشفت وثائق مسرّبة أن بريطانيا قدمت للعدو الإسرائيلي تدريبات خاصة في مجال العمليات النفسية، والهجمات السيبرانية، والتأثير الرقمي، بما يشمل إنشاء حسابات وهمية، وبث مواد مصورة مفبركة، واستهداف المحتوى الداعم لفلسطين على الإنترنت.
منذ بداية العدوان على غزة امتدت المواجهة النفسية إلى الجبهة اللبنانية، بهدف الحد من تصعيد حزب الله، وإبعاده إلى ما بعد الليطاني. وارتكزت أدوات العدو الإسرائيلي على:
الرسائل التحذيرية واختراق الاتصالات، حيث قام العدو الإسرائيلي بإغراق سكان الجنوب اللبناني برسائل تدعوهم إلى مغادرة مواقع تزعم أنها مخازن أسلحة لحزب الله، ووصل الاختراق إلى بث رسائل عبر إذاعات لبنانية واتصالات مجهولة لوزراء ومسؤولين، بينهم وزراء الإعلام والثقافة، والهدف خلق ذعر داخلي وزعزعة الثقة بالدولة والحزب.
كذلك عمد العدو إلى الهجمات السيبرانية عبر "عملية تفجير البيجر"، حيث استخدم العدو الإسرائيلي هجومًا سيبرانيًا غير مسبوق أدى إلى تفجير أجهزة اتصال يستخدمها مجاهدو حزب الله لتحقيق أهداف نفسية متعددة، منها إرباك القيادة الميدانية، وإظهار عمق الاختراق الأمني، وبث شعور بالعجز داخل البيئة التنظيمية لحزب الله. وبالرغم من فداحة الجريمة إلا أن العدو فشل في تحقيق أهدافه رغم تخطيطه لسنوات عدة.
إضافة إلى ذلك قام العدو بتبني سياسة الاغتيالات النوعية للقيادات من فؤاد شكر وصولًا إلى اغتيال الأمين العام لحزب الله سماحة السيد حسن نصر الله، بهدف ضرب البنية القيادية للحزب وتوجيه ضربة معنوية قاسية تُحدث فراغًا استراتيجيًا واضطرابًا عملياتيًا وتراجعًا في تماسك محور المقاومة ككل، إلا أن حزب الله -بالرغم من المأساة الكبيرة- استطاع إعادة بناء بنفسه وسد الثغرات القيادية، وصولا إلى إجبار العدو على توقيع الاتفاق دون تحقيق أيٍّ من أهدافه الاستراتيجية.
يسعى العدو الإسرائيلي إلى إعادة تشكيل البيئة الإقليمية بالكامل عبر توظيف أدوات الحرب النفسية كجزء أساسي من استراتيجيته الشاملة، بين تدمير غزة وتوسيع نطاق النار إلى الجنوب اللبناني وصولا إلى إيران واليمن، بهدف “كيّ الوعي” الفلسطيني والإسلامي، وخفض سقف التوقعات، وتحويل الحق الفلسطيني في دولة مستقلة إلى معركة يومية من أجل البقاء فقط، إلا أن العدو بالرغم من الإمكانيات الهائلة التي أعدها في هذه المعركة إلا أنه عزز من وعي الأمة بأنه كيان هش قابل للهزيمة، وأن حالة الإذلال في واقع الأمة هو نتاج للتفريط في المسؤوليات الدينية تجاه القضية المركزية للأمة، لا بقدرات العدو.