في كل عام، حين تحلّ ذكرى مولد الصديقة الطاهرة فاطمة الزهراء عليها السلام، ينهض في وجدان الأمة نورٌ يوقظ ما غفا من بصائرها، ويعيد إلى الروح الإسلامية شيئًا من صفائها، هذه المناسبة بقدر ما هي ذكرى لامرأة عظيمة؛ فإنها احتفال بمثالٍ إنساني وروحي يختصر كمال الإيمان، وسمو الأخلاق، ورفعة المقصد، وبهاء السلوك، وفي اليوم العالمي للمرأة المسلمة، تتقاطع رمزية الزهراء مع معركة الوعي التي تخوضها الأمة، لينعقد بين الحدثين خيط من الضوء يجعل من سيرة الزهراء مرآةً لواقع النساء المسلمات اليوم، ويحوّل الذكرى إلى دعوة للنهوض في وجه موجة الحرب الناعمة التي تستهدف هويّة الأمة وموقعها في العالم.
وفي ذكرى الزهراء أصدر السيد القائد عبدالملك بدرالدين الحوثي ـ يحفظه الله ـ بياناً هنأ الأمة الإسلامية بهذه المناسبة، ثم جمع السيد في بيانه بين الاحتفاء الروحي بمولد سيدة نساء العالمين فاطمة الزهراء (عليها السلام)، والتحليل النقدي للأمة الإسلامية في ظل التحديات المعاصرة، وقدم خطاباً يحوي رؤية تربط بين كمال الزهراء وبين حاجة الأمة الملحة إلى نماذج ترتفع فوق الواقع المتهاوي، فالزهراء سلاح ثقافي وأخلاقي في مواجهة الحرب الناعمة التي تستهدف الهوية وهي حصن معنوي يقابل حرب التغريب والتفكيك.
ليست جراح الأمة اليوم جراحًا من حروب المدافع والجيوش فقط؛ بل من حربٍ أشد خطورة، حرب تُصاغ بسلاسة الكلمات، وتُصوَّر في الإعلام، وتنساب في المناهج والثقافة، وتُدار بأدوات تُغَيِّر قناعات الشعوب وتُضعف مناعتها الأخلاقية والفكرية.
"هذه الحرب الناعمة نجحت ـ عبر عقود ـ في صناعة تيهٍ فكري داخل الأمة، وفي بعثرة وعيها الجمعي، وفي تفريغها من محتواها الحقيقي فجعلت أمّة المليارَيْ مسلم ـ رغم الثروة، والعدد، والجغرافيا، والقدرات ـ غثاءً لا وزن له، تتقاذفه القوى الكبرى، وتُطوّع أنظمته وتُرهب شعوبه. لقد حوّلت هذه الحرب ثروات البلدان العربية إلى غنائم تُدار من وراء البحار، وأراضيها إلى ثكنات عسكرية، وعقول شبابها إلى مساحات مفتوحة للاختراق، وأحلامها إلى مشاريع مرهونة بإرادة الغير".
بلغ الانحدار الأخلاقي والسياسي مداه حين ظهر موقف الأمة من المجازر التي تُرتكب بحق الشعب الفلسطيني: أطفالٌ يُقتلون في حضاناتهم، رُضّعٌ يموتون تحت القصف أو جوعًا لانعدام الحليب، نساءٌ من كل الأعمار يُستهدفن قتلاً وانتهاكًا واغتصابًا، شيوخٌ يُبادون، ومجتمعٌ كامل تُنتزع منه حياةٌ بعد حياة.
أمام هذه الجرائم التي هزّت ضمير الإنسانية شرقًا وغربًا، خرجت شعوب بعيدة عن المنطقة في مظاهرات غاضبة، بينما كان الصمت ـ أو أسوأ من الصمت: المشاركة في تمويل المعتدي ـ هو عنوان معظم الأنظمة العربية والإسلامية، بعض الأنظمة لم تكتفِ بالخذلان، بل تحوّلت إلى جزء من آلة العدوان دعمًا ماليًا وإعلاميًا واستخباراتيًا، وتضييقًا على أي صوت يحاول نصرة المظلومين.
يقول السيد القائد: "إنَّ أمّتنا الإسلامية تضرّرت بالحرب الناعمة المفسدة المضلّة أكثر من الحرب الصلبة، وما حالة التيه والشتات، والحالة المخزية، والذلة والمسكنة، والتبعية العمياء للأعداء، التي نرى عليها معظم أمة الملياري مسلم، إلَّا شاهد على ذلك، حيث نجح الأعداء بذلك بتطويع معظم الأنظمة وأكثر الشعوب، وإخضاعها لإملاءاتهم، وحوّلوا ثرواتها إلى مأكلة لهم، وأوطانها إلى قواعد عسكرية، وقوّتها البشرية إلى أدوات طيِّعة مسخَّرة مستعبدة لهم، وفرَّغوها من محتواها الإنساني والأخلاقي والإسلامي إلى مستوى فظيع، وكان من أبرز تجلّيات هذه الحالة- ولا يزال- موقف معظم أمة الملياري مسلم تجاه ما يقوم به العدو اليهودي الصهيوني، وشريكه الأمريكي، وداعموه من صهاينة الغرب، من إبادة جماعية للشعب الفلسطيني، وممارسة أبشع وأفظع الجرائم الرهيبة بحقه، بما في ذلك: إعدام وقتل الأطفال الخدَّج في حضانات الأطفال، والأطفال الرضّع الذين قتل منهم الآلاف بالقنابل والسلاح الناري، وبالتجويع ومنع الحليب عنهم، وقتل بعضهم عقب ولادة أمّهاتهم لهم، وكذلك قتل الآلاف من النساء المسلمات من كل الفئات العمرية وفي مختلف الأحوال، بما في ذلك النساء الحوامل، والمسنّات، والصغيرات، والكبيرات، إضافة إلى امتهان كرامتهن الإنسانية، وارتكاب جرائم الاغتصاب لانتهاك حرمة البعض منهن... وغير ذلك من الممارسات الإجرامية الفظيعة، التي يندى لها جبين الإنسانية، والتي لهولها وفظاعتها تحرّكت شعوب في أقصى الأرض بدافع الضمير الإنساني، وخرجت في مظاهرات كثيرة ومستمرّة، وعبَّرت عن سخطها الشديد تجاه العدوّ الصهيوني وجرائمه، وتحرّكت قوى حيّة في مختلف أنحاء الأرض لأنشطة متنوعة لنصرة الشعب الفلسطيني، بينما كانت الحالة المختلفة تماماً هي في معظم البلدان العربية والإسلامية التي لم تتخذ أي موقف، ولم يصدر منها أي تحرك.
لقد أصبح الارتماء في أحضان القوى الساعية لنهب المنطقة، وخاصة الولايات المتحدة والكيان الصهيوني، خيارًا مُعلَنًا لكثير من الأنظمة، تحت شعارات مخادعة مثل “السلام” و“الاستقرار” سلامٌ يُراد به استسلام، واستقرارٌ يُراد به خضوع، وتغييرٌ يُراد له محو الهوية.
"بل والأسوأ من ذلك: ما فعلته بعض الأنظمة العربية من تقديم العون الاقتصادي، والمالي، والإعلامي، والاستخباراتي للعدوّ الإسرائيلي، إضافة إلى الإسهام في تكبيل الأمّة عن أي تحرك فاعل لنصرة الشعب الفلسطيني، إنَّ هذا من أكبر وأوضح التجلّيات للخلل الرهيب في واقع الأمة، والانحدار الرهيب على المستوى الإنساني والأخلاقي، وعلى مستوى الرؤية والبصيرة والوعي، فمعظم المسلمين في أنحاء الأرض يعيشون أزمة حقيقية، وإفلاساً على مستوى الوعي، وعلى مستوى الأخلاق والقيم، وهذا هو السرّ الحقيقي الذي جعل من هذه الأمة الكبرى: أمّة الملياري مسلم، التي تمتلك الإمكانات الهائلة، والعدد الملياري، والجغرافيا الواسعة، فاقدة لقيمة كل تلك العوامل والعناصر المهمّة للقوة، وتحوّلت إلى غثاء كغثاء السيل كما في الحديث النبوي الشريف؛ ولهذا تجرَّأ عليها عدوّها اللدود اليهودي الصهيوني، إلى درجة أنَّه يسعى بكل طمع لفرض معادلة الاستباحة لها في الدم، والعرض، والأرض، والمقدّسات، والدين، والدنيا، ويسعى إلى إرغامها لتقبل بذلك، ويشاركه الأمريكي لفرض ذلك على الأمّة، وأصبحت كثير من الأنظمة العربية ومعها كثير من النخب قابلة بذلك، وتوجّه لومها إلى من لا يقبل بذلك من أحرار الأمّة، ممّن بقي لهم كرامة إنسانية، وعزّة إيمانية".
النموذج الأكثر وضوحًا على ذلك يظهر في الجماعات المسيطرة على أجزاء من سوريا، التي أعلنت صراحةً أنها لا تعادي "إسرائيل" بل ترغب في التحالف معها، ومع ذلك، نالت من العدوان الصهيوني ما لم ينله غيرها، أكثر من ألف غارة مدمرة، واحتلال لمساحات واسعة، وتوغلات إلى تخوم العاصمة، وخطف يومي للمواطنين حتى باتت البلاد مثالًا صارخًا لمن يسلّم إرادته للعدو ثم يُترك تحت وطأة استباحته الكاملة.
"إنَّ نموذجاً واحداً من نماذج الخيار النفاقي والاستسلامي، والتعبير عن الولاء لأمريكا، والارتماء في الحضن الصهيوني، والنتيجة لذلك، هو كاف في إيضاح الحقيقة لكل إنسان بقي له أدنى مستوى من الفهم والإدراك الإنساني، وذلك النموذج هو: الجماعات المسيطرة على سوريا، فهي واضحة وصريحة في خيارها وارتباطها وتوجهاتها التي تعلن فيها ولاءها للأمريكي، وأنّها لا تعادي إسرائيل، وأنّها تسعى لعلاقة معها، وأنّها تعادي من يعاديها، وهي بالفعل كذلك، ومع كلِّ ذلك بلغ عدد الغارات الجوية المدمِّرة أكثر من ألف غارة، والاحتلال لمساحة ثمانمائة كيلو متر، والتوغّلات العسكرية الإسرائيلية إلى ريف دمشق، على بعد كيلوهات من العاصمة دمشق، والاختطافات يومية لأبناء الشعب السوري... وغير ذلك من أشكال الاستباحة التَّامَّة، كما أنَّ من الشواهد الجليّة لحقيقة العدوانية والإجرام الصهيوني: الانتهاكات المستمرّة للاتفاقات الدولية التي عليها ضمناء، كما هو الحال في غزَّة ولبنان".
لقد أصاب العمى والبكم والصمم كثيرًا من النخب والأنظمة، حتى لم تعد ترى الحق ولو تجسّد أمامها بوضوح الشمس، هذا الانهيار في الوعي جعل الأمة تفقد الوزن المعنوي الذي استحقت به يومًا أن تكون شاهدة على الناس، لكن القرآن سبق ووصف هذه الحالة بدقة حين قال: {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ} لأن من يفقد بصيرته الأخلاقية يصبح غير قادر على رؤية الواقع حتى لو تراكمت شواهده فوق صدره.
"إنَّ انعدام البصيرة والوعي، وموت الضمير الإنساني لدى معظم أنظمة ونخب وشعوب العالم الإسلامي إلَّا القليل، هي نتاج للحرب الشيطانية المفسدة المضلّة؛ ولذلك فإنَّ من المهم جدًا الاستفادة من هذه الذكرى المباركة، والمناسبة العزيزة: ذكرى مولد الزهراء "عَلَيْهَا السَّلَامُ"، وسائر المناسبات الإسلامية، في إحياء الروح الإسلامية، والإضاءة بنور الهدى؛ لتصحيح المفاهيم، وكشف الظلمات المتراكمة، وإزاحة الغشاوة التي أعمت قلوب الكثير والله المستعان!"
إن ذكرى مولد فاطمة الزهراء فرصة تاريخية لإعادة بناء الهوية الإيمانية على أساسها الأصيل، فالزهراء مشروع لتجديد حاضر الأمة، هي دعوة للمرأة المسلمة أن تستعيد دورها في صناعة الوعي لا استهلاك الوهم، وأن تكون شريكة في مواجهة الطغيان لا تابعًا لثقافة الاستلاب، كما أن استلهام سيرة الصفوة من رجال الأمة ونسائها يعيد إلى الروح الإسلامية قدرتها على استعادة دورها العالمي دور إقامة القسط، ونصرة المستضعفين، وكسر شوكة الظالمين، وحمل رسالة الرحمة للعالمين.
وحين تتصل روح الأمة بنور القرآن ورسالة النبي وسيرة الزهراء، تستعيد قدرتها على النهوض من بين الأنقاض، فالانهيار ليس قدَرًا، والهزيمة ليست حكمًا أبديًا، والأمة التي لا تزال تملك إرث الأنبياء، وروح المقاومة، وملايين الأحرار لن تُهزم إلا إذا بادرت هي إلى تسليم مفاتيح روحها للغزاة.
إنّ هذه الذكرى المباركة تذكّر المرأة والرجل، الشيخ والفتى، بأن النور لا يزال ممكنًا، وأن الهداية تنتظر من يفتح لها باب القلب، وأن الأمة مهما انحنت تحت الضغط يمكنها، إذا عادت إلى منابع هويتها، أن تضيء العالم من جديد… كما أضاءته يوم كانت الزهراء تمشي في طرقات المدينة نورًا ورحمةً وعزّة.
"إنَّ الإسلام العظيم بقرآنه ورسوله هو النور الأسمى، الذي يتحقق من خلال الارتباط الوثيق به تحقيق الارتقاء والكمال الإنساني إلى أعلى المراتب، كما هو في النموذج الأسمى والأعلى للمرأة المسلمة: فاطمة الزهراء سيّدة نساء العالمين، وكما نماذجه الراقية من رجال ونساء مِمَّن ينبغي أن تستلهم الأمّة منهم أسمى الروحية، وأرقى الوعي، وأعظم التأثير؛ لتستعيد الأمّة بذلك كرامتها الإنسانية، وعزّتها الإيمانية، وحضورها العالمي، ودورها المفترض بها في حمل الرسالة الإلهية، وإرث الأنبياء، والسعي لإقامة القسط، وإنقاذ المستضعفين والمظلومين والمحرومين، وكسر شوكة الطغاة والمجرمين والظالمين، والإضاءة بنور الله للعالمين، بدلاً من التبعيّة والعبودية والخنوع للمستكبرين والشياطين والمفسدين".
وقدم السيد في بيانه تشخيصاً لاذعاً لواقع الأمة عبر مفهوم الحرب الناعمة المفسدة المضلة باعتبارها أخطر من الحرب الصلبة وقد نجح العدو في تحويل الأمة إلى أدوات طيعة مسخرة مستعبدة، وفي نفس الوقت جعل السيد القائد الموقف من القضية الفلسطينية المعيار الحاسم لقياس الانحدار الأخلاقي والوجودي للأمة، فالوصف التفصيلي للجرائم "قتل الأطفال الخدج"، "جرائم الاغتصاب" هدفه كشف عورة الصمت العربي والإسلامي، والأهم هو المفارقة المأساوية حيث تحركت شعوب في أقصى الأرض بدافع الضمير الإنساني مقابل جمود معظم العالم الإسلامي.
قدم السيد القائد ـ يحفظه الله ـ حالة "الجماعات المسيطرة على سوريا كنموذج الخيار النفاقي والاستسلامي، فالتفاصيل الدقيقة (ألف غارة، احتلال 800 كم، التوغل قرب دمشق) دليل قطعي مادي على الاستباحة الكاملة وهو تحويل للواقع السياسي إلى رمز للذل والقبول بالتبعية.
الختام، قدم السيد القائد تصوراً للأمة المنشودة، أمة تحمل الرسالة الإلهية، تستعيد كرامتها الإنسانية، تكسر شوكة الطغاة، والزهراء هنا هي البوابة الروحية لهذا التحول.