هل يحترق النفوذ الأمريكي بالإصرار على إحراق المنطقة؟ (الحلقة الثانية)

موقع أنصار الله  || صحافة عربية ودولية || د. حسن أحمد حسن * / موقع المنار

 

في دراسة من جزئين تحت عنوان: هل يحترق النفوذ الأمريكي بالإصرار على إحراق المنطقة، نستعرض في الجزء الثاني منها أبرز النقاط التي لا يجوز إغفالها في اطار الحديث عن التناقض الظاهر بين التصريحات والسياسات في الموقف الأمريكي ،وماهي  دلالات الإعلان الامريكي رسميأ عن أن  مصير الرئيس الأسد لم يعد أولوية امريكية والشعب السوري هو من يقرر ذلك، فضلا عن الرؤية الاستراتيجية لخاتمة الصراع المفتوح:

 

1-     تزامن تصريح المندوبة الأمريكية في أروقة الأمم المتحدة مع تصريح وزير الخارجية الأمريكية من تركيا، وتأكيد البيت الأبيض على مضمون رسالة واحدة ومحددة، فهذا يعني أن المطلوب إعطاء الفكرة أكبر قدر من المصداقية، ليقين صناع القرار الأمريكي بأن أي طرح جديد، أو مقاربة بآليات غير معهودة قد تقابل بالتشكيك بالنوايا المبيتة من  وراء الإعلان عنها، وهم محقون بذلك لأن تاريخ الإدارات الأمريكية المتعاقبة جمهورية كانت أم ديمقراطية يثبت أن تغيير الخطاب لا يكون إلا اضطرارياً، وبما يخدم الهدف الاستراتيجي، لا بما يؤدي إلى تهميشه أو التخلي عنه.

 

2-     عبارة “لم تعد أولوية” تعني أن هذا الأمر كان أولوية على امتداد ست سنوات ونيف، وفي ضوء هذا كانت تصريحات أوباما وغيره من المسؤولين الأمريكيين بأن أيام الأسد أصبحت معدودة، وها نحن أمام حقيقة ساطعة وهي الاعتراف بالعجز عن تنفيذ ما كان مطلوباً، والقبول بهذه الواقعية السياسية التي يتحدث عنها الخطاب الأمريكي، والسؤال هل هذه الواقعية طارئة حديثاً، أم أنها جزء من المشهد السوري منذ إطلاق الشرارة الأولى لإرهابهم الممنهج؟ وهل أصبح السيد الرئيس اليوم معبِّراً عن تطلعات غالبية الشعب، وقبل أشهر وسنوات لم يكن كذلك؟ أم أن صمود الدولة السورية شعباً وجيشاً وقائداً ودعم الأصدقاء المؤمنين بحتمية انتصار الحق والإرادة الوطنية هي من أرغمت الأمريكي لإدخال تعديلات على خطابه ضمن إطار البدائل الممكنة التي عادة ما تكون مرفقة بالخطط الأمريكية للبدء بالسيناريوهات البديلة ” خطة ب ـ ج  ـ د الخ..” مع الاحتفاظ بالأهداف الاستراتيجية، ومحاولة تدوير الزوايا لضمان تحقيقها.

 

3    عندما يؤكد الخطاب الأمريكي أن الشعب السوري هو من يحدد مصير السيد الرئيس فأين الجديد في الموضوع؟ وهل أصبح من حق الشعب السوري أن يقرر نظام حكمه ومن يحكمه عندما ترضى واشنطن، أم أن هذا الحق كان  محظراً على الشعب السوري في السنوات السابقة؟ وقبل هذا وذاك أليس ما أعلن عنه الخطاب الأمريكي من أسس القانون الدولي ومسلماته، أم أن القانون الدولي لا يكون نافذاً إلا بجواز سفر أمريكي؟ وهل مثل هذا الكلام يعني اعترافاً أمريكياً صريحاً بأن مواقف واشنطن وسياستها المعتمدة كانت منذ البداية متناقضة مع القانون الدولي لصالح قانون الغاب والتغول المرفوض أخلاقياً وإنسانياً، ومتناقض جملة وتفصيلاً مع  القيم التي أرساها المجتمع الإنساني عبر مسيرة تطوره الطويلة؟

 

4-     صحيح أن هذه النغمة الجديدة في الخطاب الرسمي الأمريكي لاقت ارتياحاً، وهذا أمر طبيعي، وخطوة يمكن العمل لتطويرها ـ لكن الصحيح أيضاً ـ بل الأصح ـ إن هذا الموقف ليس منَّة أمريكية تجود بها إدارة ترامب على الدولة السورية، وما كان لمثل هذا الخطاب أن يظهر للوجود لو لم تكن الواقعية الميدانية والسياسية والمجتمعية والدبلوماسية ـ وليس فقط الواقعية السياسية ـ قد فرضت على المسؤولين الأمريكيين مثل هذا الخطاب، وهذا لا يعني قط أن واشنطن في وارد نقل التموضع من ضفة إلى أخرى، فهذه الولايات المتحدة الأمريكية التي لا يمكن أن ترى إلا عبر المنظار الإسرائيلي المتناقض بالضرورة مع مصالح دول المنطقة وشعوبها، وما الحضور العسكري الأمريكي المباشر إلى شمال شرق سورية إلا التجسيد العملي لسياسة ترفض القانون الدولي ولا تعترف بوجود الشركاء، بل الأتباع والأدوات، وفي أفضل الأحوال الحلفاء المطيعين الذين لا يسعون لندية مع واشنطن في كل ما يتعلق بصنع القرار الدولي، ولا يطمحون لكسر الأحادية القطبية التي تحرص واشنطن على إطالة أمدها ما أمكن حتى ولو كان ذلك بحقن المورفين التي تقلل آلام مخاض نظام جديد لكنها لا تستطيع منعه من الانتقال من حالة جنينية كانت سورية بصمودها ودعم أصدقائها الرحم الحاضنة والمثالية لذاك الجنين الذي يستعد العالم لاستقباله، وكل ما تشهد الساحة السورية والإقليمية في المستقبل القريب إنما هو للحيلولة دون ذلك، أو تأجيله أطول فترة ممكنة، لكن إلغاءه ضرب من المستحيل، وإلا كيف يمكن فهم التصريحات الرسمية الأمريكية التي تؤكد استمرار فرض العقوبات على روسيا الاتحادية إلى أن تعيد جزيرة القرم إلى أوكرانيا، ولا أحسب مراهقاً في السياسة يمكن أن يفكر للحظة واحدة في إمكانية حدوث ذلك، أي أن الاشتباك سيبقى قائماً، وقد يشتد ويتفاقم بغض النظر عن خطاب التهدئة الذي تعتمده موسكو، ويبني عليه بعض أصحاب الأقلام والمختصين بالشأن السياسي والتحليل الاستراتيجي الكثير من الآمال، ولا ضير في ذلك، فمن حق الأقلام المقاومة أن تتكامل بأدوارها وتتقاسم المهام، حيث يختص بعضها بتعميم التفاؤل المبني على معطيات واقعية، في حين تتابع أخرى رسم معالم ما قد يتولد أو يستولد من تحديات وأخطار وتهديدات، وتسلط الضوء عليها مبينة سيناريوهات المواجهة المحتملة والمبنية على قاعدة التكلفة والمردودية وآفاق المستقبل الممكن وفق تطور الأحداث وتداعياتها المحتملة.

 

5-     لماذا الآن أصبح هذا الأمر غير أولوية لدى الإدارة الأمريكية، وأصبح من حق الشعب السوري تحديد من يحكمه ونظام حكمه بعد ست سنوات من تدمير البنى التحتية ومحاولة تقويض عوامل القوة الشاملة للدولة السورية وفي مقدمتها العنصر البشري والاستهداف الممنهج سياسياً واقتصادياً وعسكرياً ودبلوماسياً؟ وماذا عن التدخل السافر الذي لم ينقطع بالشأن الداخلي السوري؟ وهل يمكن النظر للوجود العسكري الأمريكي وما يسمى التحالف الذي تقوده واشنطن إلا بعين الريبة، واستشعار أخطار  العمل بوسائل جديدة لفرض التقسيم، وإن كان على مراحل وفق مستجدات الحرب المركبة المفروضة والتي تترك الأبواب مفتوحة على شتى الاحتمالات والسيناريوهات السياسية منها والعسكرية بآن معاً؟.

 

خاتمة:

 

الفهم الموضوعي لتطور الأحداث وتداعياتها يؤكد أنه لا يمكن فصل حلقات المواجهة المزمنة بين مشروع التفتيت الصهيو ـ أمريكي وبين مشروع المقاومة وعلى جميع الساحات، فالجبهات غدت متصلة من اليمن إلى جزيرة القرم، لا بل إلى أبعد من ذلك، وإذا كان هناك من يزين لطواغيت الكون سوء أعمالهم، ويسوقها على إنها إنجازات استناداً إلى أن الحرب المتنقلة في جغرافيا دول المنطقة لم تكلف المايسترو الصهيو ـ أمريكي أية خسائر بشرية أو نفقات مادية، حيث تكفلت دول الخليج بتأمين الوقود اللازم بشرياً من مفرخات الفكر التكفيري الوهابي، كما تكفلت بدفع كل المتطلبات: تسليحاً وتمويلاً وإعلاماً موجهاً وفق البوصلة الصهيونية، فعلى أولئك أن يتذكروا أن مثل هذه المكاسب التكتيكية محكومة بالتلاشي والذوبان مع الخسارة الاستراتيجية التي تلوح معالمها واضحة في الأفق، فالأحادية القطبية لم تعد قائمة، وإن لم تتبلور معالم النظام العالمي البديل، وإصرار واشنطن ومن معها على ” الإدارة بالأزمة” بدلاً من “إدارة الأزمة” سيجعل الجميع محكومين بمبدأ / خاسر ـ خاسر/ في ظل انتفاء مبدأ / رابح ـ رابح/ فالإرهاب لا يحتاج جوازات سفر للتنقل والإقامة في مواطن جديدة، وهو غير ملزم بما تتضمنه نظرية الحتمية الجغرافية، وعندما تتبلور الأمور أكثر فأكثر، ويثبت أن ما تريده واشنطن هو الاستمرار بسياسة إحراق المنطقة، فالاحتمال الأكثر إمكانية للتبلور والتحقق هو احتراق النفوذ الأمريكي دفعة واحدة، وواهمٌ من يظن أن بإمكانه التحكم بألسنة اللهب إذا زادت كمية الوقود المضاف إلى النيران المشتعلة، ففائض القوة سيجد مرتسمات تصريف على جميع الساحات، ولولا هذا الأمر لما ترددت الإدارة الأمريكية لحظة واحدة في الإعلان عن فرض إمبراطوريتها الجديدة على رماد دول المنطقة، لكن تلك الإدارة ذاتها بجناحيها الديمقراطي والجمهوري تدرك أن قواعد الاشتباك تغيرت، وأن المنطقة برمتها من مضيق جبل طارق إلى البلقان ـ وضمناً الكيان الصهيوني ـ ستلفحها ألسنة اللهب عندما يتم إشهار سيف التقسيم والتفتيت علانية، ومن حق المتابع العادي أن يتساءل: ماذا لو بدأت رحلة التوابيت الأمريكية تشق طريقها باتجاه العودة، حتى وإن كانت بسبب ” أخطاء غير مقصودة”؟ وكيف ستكون مواقف الحكومات الأوربية لو تم إغلاق مضيق هرمز بناقلة نفط مشتعلة لحادث “غير متعمد وغير عدائي”؟ وهل تستطيع العواصم الأوربية تنفيذ تهديدات حليفها أردوغان الذي أكد أنه لن يكون بمقدور أي أوربي السير بأمان في مدينته؟ وكم من المستوطنين في الأراضي العربية المحتلة  في فلسطين وما حولها سيبقى حيث يقيم إن ذهبت الأمور نحو الهاوية؟ وإذا تآكل النفوذ الأمريكي في المنطقة وما حولها هل ستبقى الولايات الأمريكية متحدة؟؟.

 

 

 

* الدكتور حسن حسن، باحث سوري متخصص بالجيوبولتيك والدراسات الاستراتيجية.

قد يعجبك ايضا