مرضى اليمن تحت الحصار: ينتظرون الموتَ الزاحفَ ببطء (تحقيق)
موقع أنصار الله || صحافة محلية || عبدالحميد الغرباني / صدى المسيرة
وفاةُ أَكْثَر من 9 آلاف مريض بينهم جرحى العدوان لم يتمكنوا من السفر للخارج بسبب الحظر
تعمَلُ المستشفياتُ بما تبقى من مستلزمات شحيحة واستمرار الحصار يهدِّدُ بتوقفها
مئاتُ الأَطْفَال ولدوا بتشوهات ناجمة عن الأسلحة المحرمة وماتوا بسبب الحصار وحظر السفر
هناك جريمةٌ مركّبةٌ يحترفُها العدوانُ مع استمراره في تقويّض الخدمات التي يعتمدُ عليها اليمن، هذه الجريمةُ تكادُ تكونُ مخفيةً ظاهرةً وَالعدو يصنعها عبر أمرين، الأمر الأول هو الاستهداف المباشر للإنْسَان اليمني والأمر الثاني هو استمرار فرض الحصار المطبق على اليمن خُصُوصاً على المجال الجوي، فالثابتُ في إحصائية وزارة الصحة والسكان أن خمسةً وسبعين ألفاً من المرضى في اليمن يحتاجون السفر إلى الخارج بشكل شبه سنوي وقد ينقصون أَوْ يزيدون على هذا الرقم، لكن المؤكَّدَ مع مُضي الربع الأول من عام العدوان الثالث أن هذا الرقمَ رُشّح للارتفاع وأن هناك الآلافَ من المرضى يعيشون أحلك الأوقات وآخرون يموتون _بينهم أَطْفَال _وكان بالإمْكَان إنقاذ أَرْوَاحهم، هذا ما أكدته عددٌ من الجهات الرسمية لنا بعد نزول ميداني نلخصه في هذه السطور.
من مستشفى الثورة العام بصنعاء اخترنا أن تكونَ البداية، حيث يرقد المواطن ناصر يحيى ناصر على أحد أسرّة المشفى منذ أربعة أشهر، مثخناً بجراحه بعد إصابته بغارةٍ جوية للعدوان ضربت مديرية عتمة، جرح هذا الوالد الشائب ليس كأي جرح لقد تحطمت الجهة اليُمنى من وجهه، فقد الفكين الأعلى والاسفل من فمه وعظام أنفه أَيْضاً، فلا يستطيع الأكل إلّا عبر طريقة بديلة، ظهر لي من خلال حديثه أن ذلك مَا يؤلمه أَكْثَر وما شكّل صدمة نفسية له، كما أكدت لي الطبيبةُ وفاء عَبدالله التي تُشرِفُ على حالته، (لا أستطيع أن آكل من هنا _ مُشيراً إلى فمه المحطّم _ فقط عبر ماسورة والحمد لله، يا رجال معنا الله)
هذا الجريح نموذج يجر عشرات الحالات، ففي العناية المركزة في طوارئ مستشفى الثورة يرقد المواطن سعيد يحيى علي وهو في حالة متدهورة بعد أن شل هلع ناتج عن ضربة جوية للعدوان على العاصمة صنعاء وظائف الكلى لديه، فأصيب بفشل كلوي وارتجاج في الدماغ، تقول ابنته التي تلازمه معظم الوقت (نحن من شرعب ونسكن صنعاء ووالدي كان بخير ما بينوش شيء بس كان سارح للشغل في شركة الجراش للأدوية بعدين ضرب الطيران صاروخ على منزل صالح عامر فافتجع أبي بشكل كبير وتعب وجاء له ارتجاج بالدماغ وفشل كلوي).
وتضيف والعبرة تكاد تخنقه والألم يعتصرها: (سفرناه مصر وتعالج جلس هناك سبعة أَوْ ثمانية أشهر حتى تحسنت حالته ورجع وحالته مستقرة، أول ما رجع هنا مرض)، دعونا نترك مسافة فاصلة بيننا وبين معرفة مصير هؤلاء وما يحتاجون إليه وَنستدير إلى الكادر الطبي هنا عَلَّهم يفتحون ثغرة للضوء، هم يفتحونها ولكن الظروف والواقع الذي خلقه العدوان يعمل ضدهم أَوْ ذلك ما يؤكده الدكتور نبيل المضواحي _استشاري جراحة القلب بمستشفى الثورة العام-: (تنقصنا الآن أشياء كثيرة؛ بسبب الحصار لمدة سنتين، وبدأت السنة الثالثة ونحن نستخدم المخزون الداخلي والآن انتهى المخزون).
أطباءُ اليمن: نُعاني من نقصٍ حاد في المستلزمات الصحية الأَسَاسية والدوائية!
بدأ منسوبُ الصدمة يتضاعف لديّ من إفادة الدكتور المضواحي فقاطعتها سائلاً: ماذا ينقصكم بالضبط؟ فيرد (النواقص كثيرة جِـدًّا بالنسبة للعمليات، الصمامات، المحاليل، المستلزمات لجراحة القلب أَصْبَحت الآن شبه معدومة في المستشفى وفي اليمن بشكل عام)، ويضيف بجملة تقرع أجراس خطر يحدق بالآلاف من المرضى: (والله نحن الآن نشتغل بالموجود وسيأتي يومٌ من الأّيَّـام نتوقف عن العمل؛ نتيجة لعدم توفر المستلزمات الطبية اللازمة لعمليات القلب)، ويتابع (حتى الأدوية، معظم الأدوية أَصْبَحت غير موجودة، أدوية كثيرة، ومنها أدوية أنعاش القلب، اليمنُ تحت الحصار ونحن نعاني من نقص حاد في المستلزمات الصحية الأَسَاسية والدوائية وعلى المنظمات العالمية ذات الصلة القيام بدورها قبل أن تتعاظم الكارثة)، لا أكاد أنهي الحديثَ مع الدكتور المضواحي ونحن في مركَز القلب حتى أشاهد الدكتور أبو زيد الكندي رئيس قسم جراحة القلب بمستشفى الثورة العام يخرج لتوِّه من العناية المركزة لمرضى القلب فأعرفه بنفسي وأطلب منه وقتاً قصيراً يجيب فيه على تساؤلاتي، وكان أن وافق، فبادرته بالسؤال عن مستوى الخدمة الصحية والطبية التي يقدمها المركز في ظل الوضع الراهن وما أبرز التحديات الماثلة أمامهم، فكان رده (منذ فتح المركز وَنحنُ نعمل معظم الحالات الجراحية ما عدا الحالات المعقدة مثل التشوّهات الخلقية عند الأَطْفَال الناجمة عن استخدام العدوان للأسلحة المحرمة وحالات أخرى لا تجرى عملياتها إلّا في مستشفيات ومراكز خَاصَّـة معدودة العدد حتى في الخارج ليس فقط عندنا في اليمن)، ويتابع الدكتور الكندي قائلاً: (هذه العمليات تحتاج إلى مراكز متخصصة وعنايات متخصصة وَكادر متخصص، وكانت هذه الحالات سابقاً قبل الحرب والحصار على بلادنا تسافر للعلاج في الخارج)، وما يلبث الدكتور أن يقرع جرس إنذار آخر ويكشف عن جانب من الجريمة المركبة التي يحترفها العدوان ويغض الطرف عنها عالمياً، يقول الدكتور الكندي: (الأَطْفَال المصابون بتشوهات خلقية يلقون حُتُوفَهم؛ بفعل استمرار الحصار على اليمن وعرقلة تسفيرهم للخارج لتلقي العلاج)، ويواصل (في ظل الحصار الحالي هذه الحالات أَصْبَحت تعيشُ مأساة كبيرة جِـدًّا وكثيرٌ من هذه الحالات توفيت، والسبب أنه لم نستطع نقدم لهم خدمة في اليمن ولم يستطيعوا السفر للخارج لتقدم لهم الخدمة الطبية اللازمة)
أختار هنا الصمت دون أن أبادر لتساؤل آخر، فيلتقط الدكتور الكندي نفسه، ثم يقول (نحن من هنا نطالب من المنظمات الدولية ومن المجتمع الدولي أن يأخذ هذه المسألة بعين الاعتبار، عليهم أن يعملوا من أجل أن يرفعوا الحصار)، ويضيف بجملة ملؤها الألم تستنكر الموقفَ الدولي وتستبشع الصمت تجاه سياسة التجزير في اليمنيين عبر كُلّ سلاح ووسيلة: (هناك أَطْفَال يموتون بفعل الحصار، ارفعوه عنا ليستطيعوا أن يحصلوا على الخدمة الطبية اللازمة والتي لا تتوفر في اليمن).
الأَطْفَالُ المصابون بتشوهات خلقية يلقون حُتُوفَهم؛ بفعل استمرار الحصار على اليمن
السفرُ للعلاج في الخارج والتمكن من الحصول على الخدمات الصحية والطبية اللازمة هو ما يحتاجه المواطن ناصر يحيى ناصر عيضة وَالمريض يحيى علي سعيد اللذين سبق وقدمنا الحديث عنهما، ونعود هنا لاستكمال ما تقوله ابنةُ المواطن يحيى علي سعيد التي لخصت المشكلة الإضافية لوالدها بالقول (ماعد أقدرناش نسفره ثاني مرة؛ بسبب المطارات الطريق مقطوعة)، أما المواطن الأول ناصر يحيى ناصِر فيقول بصوت متقطع ويكاد يفهم بفعل الإصابة البالغة التي لحقته (نطالب الأُمَم المتحدة بالعمل على فتح المطار من شان نروح نتعالج) أغادر مستشفى الثورة العام وأنا أردد في نفسي سؤال: حتى متى يستمر هذا التوحش الذي يفترس الإنْسَان في اليمن؟ وإذا لم تعمل الأُمَم المتحدة على إيقافه فإلى أي وقت سترعى هذا التوحش طالما وهي قبل أيام تتبنى مقايضة اليمن واليمنيين واضعة مرتباتهم وحقهم المشروع في مقابل أن يسلموا أرضهم (الحديدة) لعدو يقتلهم بدل المرة ألف وتوفر هي الغطاء له بشتى السبل والوسائل وتتجاهل بيانات المنظمات التي تديرها والتي تتحدث عن موت طفل يمني كُلّ عشر دقائق من أمراض يمكن الوقاية منها؟! من هنا وبالبناء على هذه المعلومة المرعبة وضعنا على طاولة الدكتور عَبدالحكيم الكحلاني وهو الناطقُ الرسمي للصحة سؤالاً: إلى أي مصير ينتهي حال المصابين بأمراض مزمنة في ظل الظروف بالغة التعقيد التي نعيشها وَالرياض أَوْ قُل واشنطن أَوْ كلتاهما ومجرمون كُثْرٌ قطعوا الطريق أمام هذه الحالات المستعصية وأمام آخرين؟ الناطق الرسمي للصحة يعتبر منع اليمنيين من السفر إلى الخارج جريمة بحد ذاتها (أما عندما تمنع مريضاً من السفر لتلقي العلاج فهي جريمة مركبة). يستحضر ناطق الصحة الحالات المرضية التي تحتاج للعلاج في الخارج فإذا هي ما بين “جريح أَوْ معاق أَوْ مريض بالسرطان أَوْ مريض بالفشل الكلوي”، ثم يتهم العالم الصامت عن الألم اليمني المتفاقم بالتوحش يقول (للأسف نحن في عالم متوحش لا يستمع لنداءات الإنْسَانية) ولم يبالغ من وجهة نظرنا ناطق الصحة ولربما أنها وضع نصبَ عينيه أن البعض قد ينكر عليه مثل هذا الكلام، فكشف عن معلومة مُرعبة وتمثل فاجعة يقول ناطق وزارة الصحة والسكان: (إحصائية وزارة الصحة تقدر أن أَكْثَر من 9 آلاف حالة كانت تحتاج السفر للخارج لتلقي العلاج توفت للأسف الشديد؛ بسبب عدم تمكنها من السفر؛ بفعل استمرار القيود العدائية على مطار صنعاء الدولي)، قاطعته هنا منذهلاً هذا الرقم صادم بل مرعب دكتورنا الفاضل، ويرد (بالتأكيد ومن المعلوم والمعرف في وزارة الصحة أن أَكْثَر من 75 ألفَ يمني يحتاجون للسفر سنويا إلى الخارج للعلاج، سواءً مرضى السَّرطان أَوْ القلب أَوْ غيرها أَوْ زراعة كلى)، من هنا فالعدوان كما يقولُ الدكتور عَبدالحكيم الكحلاني يرتكبُ جريمة مركبة يموت فيها الكثيرون من المرضى وبالتزامن مع انهيار النظام الصحي في اليمن بفعل العدوان والحصار فتكون المشكلة مركَّبة ومعقدة وبطلها الوحيد الموت الذي تطلقه السعوديّة فيفترس اليمنيين في كُلّ مكان.
مديرُ صنعاء الدولي: قرابة 400 ألف يمني عالقون في الخارج والداخل
مأساةُ المرضى في اليمن أَوْ قُلْ تداعياتها المدوية ترتبط بالحصار وفرض القيود العدائية ولا إنْسَانية على المنافذ اليمنية، وفي مقدمتها مطار صنعاء الدولي، يجدد خالد الشايف المدير العام لمطار صنعاءَ التأكيد أن استمرارَ فرض الحصار على المطار جريمة حرب، ويستحضر الخدمات الإنْسَانية البحتة التي يقدمها المَطار، فيكشف عن حالات كثيرة من ذوي المصابين بالأمراض المستعصية: (حضروا إلى المطار يطالبون بمساعدتهم للسفر عبر رحلات المنظمات التابعة للأُمَم المتحدة كأطباء بلا حدود والصليب الأحمر).
سألته هنا والتفاؤل يسبقني، أملت أن انفراجة قد حدثت ولو في السر وبعيداً عن العيون فكان رَدُّه مؤكّداً أن الأُمَم المتحدة لا تهتمُّ بمعاناة الشعوب، بل تستغلها، كما يرى البعض، يقول مدير عام صنعاء الدولي (طرحنا على بعض المنظمات الدولية أن هناك حالاتٍ مستعصيةً وبحاجة ماسة لسرعة العلاج بالخارج، فكان ردها أن ضغوطاً شديدة ومضايقات مختلفة من دُوَل العدوان تمارس عليهم، وبالتالي لا يستطيعون نقلَ أية حالة مرضية)، ويستطرد الشايف فيقول: الواضحُ أن الهدف من وراء استمرار فرض الحصار على المطار هو (إذلال الشعب اليمني وزيادة معاناته وتجويعه وتركيعه)، ما من شك أن الشعبَ اليمني لن يخضع لابتزاز مهما عظم ولن ينزل عند مقايضات المقامرين الذين لم يفتحوا ثغرة للنور باتجاه اليمن ويريدونه أن يعيشَ في ظلام حالك، يؤكد مدير صنعاء الدولي (أن 90% من الحالات الراغبة في السفر للخارج حالات إنْسَانية _مرضى، طلاب، مغتربين، سياح_..) ويضيف (المطار مطار مدني ويخدُمُ الجانب المدني وجميع المسافرين الذين يرغبون في السفر هم مدنيون ومرضى وكبار السن ونساء وأَطْفَال، بالإضافة إلى المشكلة الكبيرة والتي تتضاعف يوماً بعد آخر في الخارج وهي مشكلة العالقين، يؤكد لنا مطار صنعاء الدولي خالد الشايف أن (أَكْثَر من مائة ألف يمني عالقون في مختلف دول العالم)، ويوضح أن معاناتهم تتضاعَفُ وتزداد بفعل قطع الطريق أمامهم إلى مطار صنعاء الدولي من جهة وَ(عجز الخطوط اليمنية في نقل هؤلاء العالقين إلى سيئون أَوْ إلى عدن؛ بسبب مشاكل في بعض الطائرات، بعضها تحتاج إلى صيانة وبعضها خارجة عن الخدمة)
ويواصل الشايف نَثْرَ معلوماته حول العالقين فيقول: (ضمن العالقين في الخارج مرضى خرجوا في الفترة التي كان المطار خلالها مفتوحاً، وهؤلاء المرضى خضعوا لعمليات جراحية سواء للقلب أَوْ زرع كلى وَأمرض مستعصية والبعض الآخر منهم كبار السن ونساء وأَطْفَال)، وهؤلاء لا يستطيعون مطلقاً العودة إلى سيئون أَوْ إلى عدن لأسباب كثيرة من بينها الحالة الصحية التي يمرون بها ومصاعب العودة إلى صنعاء والمحافظات الأخرى براً من عدن أَوْ سيئون، وعلى ذكرنا للعودة إلى الداخل فإحصائية مطار صنعاء الدولي تؤكد أن (أَكْثَر من ثلاث مائة ألف مواطن لديهم رغبة في السفر للخارج لأسباب كثيرة في مقدمتها العلاج؛ باعتبار أن الشريحة الراغبة بالسفر للخارج هي في الأغلب الطلبة الدارسون في الخارج وَعدد كبير من المغتربين الذين عادوا للبلاد سابقاً وعدد آخر من المرضى).
ومقارنة بما كان يستوعبُه المطارُ خلال فترة عمله قبيل العدوان، فإن الأرقام التي يذكرها مدير المطار معقولة بل تبدو أقل من الأرقام الحقيقية، ذلك أن إحصائيات المطار سجّلت خمسة آلاف مسافر وعائد من وإلى اليمن بشكل يومي قبل أن يُحرَمَ اليمنيون من هذا الحق الطبيعي ويهجعَ العالم عن هذه الجريمة ويستمع في المقابل إلى هرقطات العدوان، فيما يذبل الكثير من اليمنيين في منازلهم وفي المستشفياتِ المختلفة وَفي القرن الحادي والعشرين وبعد أن أشرقت الترامبية على الغرب والشرق أيضاً.