موقع أنصار الله . تقرير |  يحيى الشامي

تؤتي المقاطعة الاقتصادية لا شك أُكُلها، وتثمر تداعياتها ونتائجها أضراراً مهولة على اقتصاد العدو الإسرائيلي منذ بدأت في العالم، ضمن موجة احتجاجات واسعة الدعوات لمقاطعة المنتجات والشركات الداعمة لكيان العدو الإسرائيلي. اليوم، وبعد الإفصاحات المتتالية لهذه الشركات، والتي كانت آخرها نهاية العام 2024، تبين التأثير القوي لهذا الحراك الذي يقوده الوعي الشعبي الهادئ في منع مورد مالي من الوصول إلى كيان العدو الإسرائيلي، بعدها أصبح تحديث أرقام المقاطعة وتفاصيل نتائجها أمراً صعب المنال، على ما يبدو أنه بسبب الحظر ومنع تداول المعطيات، ما يؤكد أن المقاطعة هي أمضى الأسلحة وأكثرها فاعلية بيد الشعوب، دون قدرة الأنظمة على التحكم فيها أو الحد منها أو نزعها من يد الشعوب.

 

المقاطعة أداة اقتصادية بأبعاد أخلاقية وسياسية

يرى المقاطعون أن شراء السلع أو الخدمات من الشركات الداعمة للعدو الإسرائيلي أو المنتمية لدول تدعمه يؤدي إلى إيرادات وأرباح تتحول إلى ضرائب تدعم حكومات مساندة للعدو في عدوانه على قطاع غزة، فمن منظور أخلاقي، يمثل هذا الشراء مساهمة غير مباشرة في تمويل آلة الحرب الإسرائيلية التي تتسبب يومياً في سقوط الضحايا وتدمير البنية التحتية، ومن هذا المنطلق، تصبح المقاطعة واجباً إنسانياً يفرضه الضمير. يقول أحد دعاة المقاطعة: "لا أستطيع أن أقدم شيئاً لغزة وأهلها المحاصرين الذين يقتلون يومياً على مرأى ومسمع من الجميع، لكنني أشعر أني أقدم شيئا لهم حين أقرر عدم شراء منتجات شركات داعمة للعدو الإسرائيلي. هو أقل ما يمكن تقديمه لشعب يعاني ما يسمع عنه الجميع من خلال وسائل الإعلام".

من الناحية السياسية، تعمل المقاطعة على إرسال إشارة واضحة للشركات الداعمة للكيان الصهيوني بأن هناك ثمناً تدفعه لدعمها الاحتلال، وفي الوقت نفسه تدعم المقاطعة معنويات الشعب الفلسطيني، هذا ما ذهب إليه خبراء وكتاب مهتمون في أن هناك تأثيراً إيجابياً واضحاً لحملة المقاطعة على المستويين الشعبي والرسمي، وبالتالي ضرورة استمرار هذه الحملة، بحيث لا تقتصر على مقاطعة البضائع، بل تشمل جوانب أخرى مثل التواصل الثقافي والرياضي.

 

التأثير الملموس للمقاطعة على الشركات العالمية

بدأت حملات المقاطعة تؤتي ثمارها، وتظهر آثارها جلية في النتائج المالية للعديد من الشركات العالمية المتهمة بدعم العدو الإسرائيلي، ففي الأردن، أثار إعلان سلسلة متاجر كارفور إغلاق جميع فروعها (51 فرعاً) في الرابع من نوفمبر 2024 ردود فعل مرحبة واسعة. كانت "كارفور" من ضمن العلامات التجارية التي أطاحت بها حملة المقاطعة التي انخرط فيها السواد الأعظم من الأردنيين تضامناً مع غزة منذ بداية العدوان الإسرائيلي، وتشير مصادر إلى أن مبيعات كارفور في الأردن شهدت انخفاضاً حاداً تجاوزت نسبته 80%، ما دفع إدارة الشركة الفرنسية لاتخاذ قرار الإغلاق، بعد فشل محاولاتها السابقة بتخفيض الأسعار، ما يعني أن سياسة المقاطعة أصبحت قناعة لدى الأردنيين، وقد وُصِفت بأنها "نمط حياة" للمواطن الأردني.

وفي سلطنة عمان، وعقب الدعوات القوية للمقاطعة التي انطلقت بالتزامن مع بدء الإبادة الجماعية في غزة، تغير سلوك المشترين ليصبح تفقد العلامة التجارية ضرورياً لتحديد المنتجات التي تطالها المقاطعة، بصرف النظر عن مدى جودتها وأهميتها للمشتري، وبات العديد من المشترين يستعينون بوسائل مختلفة كالهواتف للتأكد إن كانت سلعة ما موجودة ضمن قوائم السلع المقاطعة أم لا، ويرى الباحث الاقتصادي علوي المشهور أن تأثير المقاطعة كان إيجابياً على الاقتصاد المحلي العماني، إذ أسهمت في تقليل التحويلات الخارجية المرتبطة بوكالات تجارية عالمية، وأتاحت الفرصة لصعود بدائل محلية، كما أسهمت في تعزيز حركة الأموال داخل الدولة، وهي حركة استمر تصاعدها بالأرقام منذ ما يقارب عامين إلى اليوم.

وبالعودة إلى أرقام تمثل ريع نشاط المقاطعة – بعضها لفترات سابقة وفق المتوفّر من بيانات في شبكة الإنترنت - تكشف النتائج المالية للشركات الواقعة تحت مظلة المقاطعة نجاحاً متفاوتاً، يظهر من خلال تراجع الإيرادات أو الأرباح، أو تراجع ما تم تحقيقه من الشرق الأوسط أو المنطقة العربية والعالم الإسلامي. وهي كالآتي:

ستاربكس: كشفت سلسلة متاجر القهوة الأمريكية عن تراجع مبيعاتها 7% خلال الفترة بين يوليو وسبتمبر 2024، مع انخفاض الأرباح إلى 909.3 ملايين دولار، وهي أرقام تزداد حتى اليوم رغم عدم توفر بيانات بسبب امتناع بعض الشركات عن الكشف عنها لتأثيراتها المضرة في رأس مالها وعلاماتها التجارية.

أمريكانا للمطاعم: تراجعت أرباح شركة أمريكانا للمطاعم بنحو النصف خلال الأشهر التسعة الأولى من العام 2024، وسط مقاطعة تشهدها أسواق في المنطقة ضد علامات تجارية متهمة بدعم العدو الإسرائيلي.

ماكدونالدز: تراجعت مبيعات شركة مطاعم ماكدونالدز الأمريكية في الأسواق بالمجمل 1.5% في الربع الثالث، وانخفضت المبيعات 3.5% في الأسواق التي تعمل بترخيص تحت ضغط "التأثير المستمر للحرب في الشرق الأوسط".

كوكاكولا: تراجع الدخل التشغيلي لشركة كوكاكولا في أوروبا والشرق الأوسط وأفريقيا 14% في الربع الثالث، دون إشارة من الشركة إلى تأثير المقاطعة.

بيبسيكو: تراجعت إيرادات بيبسيكو من الشرق الأوسط وأفريقيا وجنوب آسيا 4% في الربع الثالث.

 

التأثير الاقتصادي الفعلي للمقاطعة على العدو الإسرائيلي والقطاعات المتضررة

لتقدير التأثير الاقتصادي الفعلي للمقاطعة على العدو الإسرائيلي، يجب الأخذ في الاعتبار أن حكومة العدو الإسرائيلي غالباً ما لا تصرح بشكل مباشر عن حجم هذه الخسائر لتجنب إظهار الضعف، ومع ذلك، يمكن استنتاج التأثير من خلال مؤشرات غير مباشرة، وبيانات من منظمات مثل حركة المقاطعة العالمية (BDS) وبعض التقارير الاقتصادية، تهدف المقاطعة بشكل مباشر إلى تقليل الطلب على المنتجات والخدمات الإسرائيلية، وبالتالي تقليل صادراتها. على سبيل المثال، وثقت حركة BDS حالات لشركات عالمية كبرى ألغت صفقات أو انسحبت من استثمارات في كيان العدو الإسرائيلي بسبب ضغوط حملات المقاطعة، وتشير التقديرات إلى خسائر بمئات الملايين من الدولارات سنوياً في قطاعات معينة.

يعد قطاع السياحة أحد القطاعات الأكثر تضرراً بشكل مباشر من التوترات الجيوسياسية وحملات المقاطعة، فالمخاوف الأمنية والدعوات للمقاطعة السياحية تؤدي إلى انخفاض أعداد الزوار. أدت الحرب الأخيرة على غزة إلى تراجع حاد في حجوزات الفنادق والرحلات الجوية، ما كلف الاقتصاد الإسرائيلي مليارات الشواكل،  كما أن الشركات العالمية التي لديها امتيازات أو استثمارات في كيان العدو الإسرائيلي، والتي تُتهم بدعمه، تعاني من انخفاض في المبيعات داخل الكيان وخارجه، فمثلاً، أدت تبرعات فروع ماكدونالدز داخل الكيان لجنود جيش العدو إلى حملات مقاطعة واسعة النطاق، أثرت على أرباحها بشكل كبير، ليس فقط في الشرق الأوسط ولكن عالمياً.

أما عن القطاعات الأكثر تضرراً فهي: القطاع الاستهلاكي والتجزئة، حيث الشركات التي تعتمد على البيع المباشر للمستهلكين هي الأكثر عرضة للتأثر المباشر بحملات المقاطعة الشعبية، يليه قطاع السياحة، ثم المنتجات الزراعية التي كانت هدفاً رئيساً لحملات المقاطعة في أوروبا، وأخيراً، قطاع التكنولوجيا الفائقة (Hi-Tech) والشركات المرتبطة بالمشاريع العسكرية، حيث تتزايد الضغوط على الشركات وصناديق الاستثمار لسحب استثماراتها من الشركات، وحتى الجامعات التي لها علاقات بالمؤسسة العسكرية الإسرائيلية، أو المستوطنات والمشاريع الأخرى.

 

التحديات التي تواجه حملات المقاطعة وسبل تعزيز فعاليتها

تواجه حملات المقاطعة تحديات متعددة تتطلب استراتيجيات مبتكرة للتغلب عليها، أحد أكبر هذه التحديات هو الوعي والمعلومات المضللة؛ فضمان وصول المعلومات الدقيقة حول الشركات المستهدفة إلى أوسع شريحة من الجمهور يتطلب إنشاء منصات معلومات موثوقة ومحدّثة باستمرار، واستخدام وسائل التواصل الاجتماعي لنشر الوعي بالشركات المستهدفة، وتفنيد الشائعات بمعلومات موثقة. التحدي الآخر هو إيجاد البدائل المحلية؛ ففي بعض الحالات، قد يكون من الصعب على المستهلكين إيجاد بدائل للمنتجات المقاطعة، ما يتطلب تشجيع وتطوير الصناعات والمنتجات المحلية، ودعم المشاريع الصغيرة والمتوسطة.

كما أن التأثير على المدى الطويل قد يتضاءل إذا لم يتم الحفاظ على الزخم والحماس الشعبي، لذا، يجب أن تكون الحملات الإعلامية التوعوية مستدامة، وتتجدد باستمرار بأفكار ومبادرات جديدة، مثل تنظيم فعاليات منتظمة، وتحديث قوائم المنتجات المستهدفة، وتسليط الضوء على قصص النجاح. علاوة على ذلك، تواجه حملات المقاطعة الضغط السياسي والاقتصادي المضاد من قبل الدول أو الشركات المتضررة، وهو تحدٍ يتطلب بناء تحالفات واسعة بين منظمات المجتمع المدني والنقابات العمالية والمجموعات الحقوقية لمواجهة هذه الضغوط، والتوعية بالحق في المقاطعة كشكل من أشكال حرية التعبير. وأخيراً، فإن اختلاف مستويات الوعي والالتزام يستدعي العمل على بناء شبكات عالمية للمقاطعة، وتبادل الخبرات بين النشطاء في مختلف الدول، وتوحيد الرسائل لضمان تأثير أوسع، خاصة بين شريحة المتضامنين مع فلسطين، وتفعيل مختلف الأنشطة عبر منصات التواصل لخدمة الفكرة وتعزيز المقاطعة.

ولأهمية هذه القضية نلخّص ما يجب عمله لضمان استمرارية وفعالية حملات المقاطعة وتحقيق أهدافها بالتالي:

 يمكن تبني استراتيجيات مثل: التوعية المستمرة، وتحديث المعلومات عبر حملات إعلامية رقمية وميدانية، وسرد قصص النجاح، والتنسيق والتوحيد من خلال بناء تحالفات واسعة، وتوحيد قوائم المقاطعة، والضغط على الشركات والمؤسسات عبر حملات المراسلة المباشرة، والمظاهرات السلمية، والضغط على المؤسسات المالية، كما يجب دعم البدائل المحلية والعربية وتشجيع المنتجات الوطنية ودعم المشاريع الناشئة والتشجيع على الابتكار، وأخيراً، التأثير على السياسات الحكومية بالدعوة إلى سن قوانين داعمة، والمشاركة السياسية.

المقاطعة سلاح الشعوب الذي يؤتي ثماره

لقد أثبتت المقاطعة أنها أكثر من مجرد فعل اقتصادي؛ فهي تعبير عن الرفض الشعبي، والنتائج التي تم تحقيقها حتى الآن، من إغلاق فروع لشركات عالمية كبرى إلى تراجع مبيعات وأرباح أخرى، هي شهادة على قوة هذا السلاح السلمي والفاعل. عندما تتحد الشعوب وتترجم قرارها برفض أن تكون جزءاً من تمويل آلة الحرب والاحتلال، فإنها تمتلك القدرة على إحداث تغيير حقيقي وملموس. إن استمرارية هذه الحملات وتوسعها، مع الوعي المتزايد والتنسيق الفعال، واعتمادها كمسار قائم ونشط على مستوى محلي ودولي، سيضمن أن تبقى المقاطعة سلاحاً قوياً وفعالاً ومؤثراً بيد الشعوب، قادراً على الضغط على العدو الإسرائيلي، ودفعه نحو وقف عدوانه على غزة.