بين ركام غزة وصمت العالم: ناشطون عرب يسألون: من بقي مع الكرامة؟

د. محمد شمص: نزع سلاح المقاومة هو تنفيذ مباشر للأجندة الصهيونية، والسلاح هو آخر رموز كرامة الأمة في وجه المشروع الاستعماري.
قاسم العسكري: خطاب القسام الأخير يمثل تحوّلًا استراتيجيًا، إذ يدمج بين اللغة العاطفية والسياسية لتأطير القضية ضمن السياق الأممي والإسلامي.
علياء الهواري: خطاب المقاومة بات يحاكم النخب والأنظمة علنًا، متجاوزًا العتاب إلى المحاسبة، وفاضحًا الانسحاب الأخلاقي من القضية.

موقع أنصار الله - محمد المطري

في زمنٍ تتكثف فيه المآسي وتتراكم فيه الخيبات السياسية والإنسانية، تُطلّ غزة من تحت الركام، لا لتُعلن هزيمتها، بل لتعيد تعريف الصراع.

حرب لم تعد تقليدية، ولا مجرد مواجهة عسكرية؛ بل صارت معركة وعي، وإبادة ممنهجة، واستنزافًا لضمير العالم، مشهد يتكرر كل يوم: جثث تحت الأنقاض، أطفال يتضورون جوعًا، وأصوات من تحت الحصار تطرق جدران العزلة بصوت المقاومة.

في هذه اللحظة المفصلية من عمر العدوان، جاء خطاب الناطق العسكري باسم كتائب القسام، أبو عبيدة، ليفجّر معادلة الصمت، لا في وجه الكيان الغاصب وحده، بل في وجه أنظمة ونخب اختارت التخاذل والتواطؤ.

لم يكن الخطاب تقليديًا، ولم يكن تعبويًا فحسب، بل حمل لهجة غير مسبوقة من العتاب الحاد والمساءلة الصريحة، موجّهًا أصابع الاتهام إلى الأمة الإسلامية والعربية على تقاعسها المهين، قائلاً بصوتٍ حاسم: "أنتم خصومنا أمام الله" يوم القيامة.

وبالمقابل فقد خصّ أبو عبيدة بالتحية شعب اليمن، الذي -رغم ما يكابده من جراح وحصار- أبى إلا أن يسجّل موقفًا مشرّفًا في معركة الكرامة إلى جانب غزة، في مفارقة تُدين صمت شعوب أخرى لم تحرّك ساكنًا.

لم يكن الخطاب مجرد تلويح بالعقاب الأخروي، بل مرافعة أخلاقية وتاريخية، عرّت الانهيار السياسي والديني والإنساني للنظام العربي، وطرحت سؤالًا قاطعًا لا يقبل التأجيل: أين أنتم من دم غزة؟ وأين ضمير الأمة؟

وتُمثّل المسيرات الشعبية الأسبوعية في اليمن، إلى جانب التحركات الجماهيرية المتقطعة في عواصم أوروبية وغربية، بالإضافة إلى الأصوات القليلة التي لا تزال تصدح عبر منصات التواصل من نخب سياسية وإعلامية وأكاديمية، امتدادًا لصوت الضمير الحي الذي يرفض أن يُطوى علم غزة تحت ركام النسيان، ولا تقتصر أهمية هذه التحركات في كونها تمثل مظاهر احتجاجية، بل تتجاوز ذلك لتمثل تجلّيات واعية لنداءات أخيرة في معركة الوعي، في وجه صمتٍ عربيّ مُطبِق، وتواطؤٍ رسمي يُعاد تسويقه كخيار استراتيجي.

هذه المبادرات، وإن كانت متناثرة، تحمل في جوهرها محاولات جادة لاستعادة البوصلة الأخلاقية للأمة، وتقديم قراءة بديلة للمشهد، لا ترى في غزة ساحة حرب فحسب، بل مرآة لانكسار القيم، وفضاءً يعيد اختبار معنى الانتماء والحرية.

التجويع كأداة تطهير عرقي

في هذا السياق يؤكد الناشط الإعلامي اللبناني الدكتور محمد شمص أن المشاهد الواردة من قطاع غزة تعبّر عن محرقة إنسانية غير مسبوقة في التاريخ الحديث، مشيرا إلى أن الاحتلال الإسرائيلي، بعد فشله في كسر إرادة الشعب الفلسطيني بالآلة العسكرية، لجأ إلى سلاح التجويع، معتمدًا على حصار شامل يطال الغذاء والدواء، وسط صمت عربي ودولي مخزٍ.

وفي حديثه لموقع أنصار الله يقول شمص: "العدو الصهيوني لم يعد يُخفي نواياه، فهو اليوم يستكمل مشروع التهجير القسري، عبر  ضغط نفسي ومعيشي  شامل على السكان المدنيين"، موضحا أن العدو الإسرائيلي يستخدم التجويع كأداة تطهير عرقي ممنهج، في ظل سكوت الأمم، وانهيار المنظومة الأخلاقية التي تتغنى بحقوق الإنسان.

ووفقًا لشمص، فإن بعض الأنظمة العربية لا تكتفي بالصمت، بل تمارس الابتزاز السياسي ضد المقاومة، مستشهدًا بالموقف السعودي الذي يشترط القضاء على المقاومة مقابل التدخل الإنساني في غزة.

ويرى أن الكيان الصهيوني لا يبحث عن مطبعين، بل عن أنظمة خاضعة تُنكر التاريخ وتتنكّر للكرامة، محملاً هذه الأنظمة مسؤولية الانهيار العربي.

ويعتبر كل من يطالب بنزع سلاح المقاومة شريكاً مباشراً لأجندة العدو الإسرائيلي، واصفا السلاح بأنه شرف الأمة، وآخر ما تبقى من كرامتها.

ويلفت إلى أن غزة لا تنتظر إلا الله وسواعد المقاومين ودعاء الأحرار، أما المتخاذلون فمصيرهم إلى زوال.

حديث شمص يفضح المسكوت عنه، ويكسر جدار التطبيع، ويتجاوز توصيف المأساة، ليبلغ درجة من الفضح السياسي المباشر، حيث يستند في كلامه على مجموعة من القيم والأخلاق الفضيلة الصارخة، لكنه لا يكتفي بالبكائيات، بل يُحمّل مسؤوليات واضحة ويسمّي الفاعلين.

ويعيد تركيز الانتباه على خطورة "سلاح التجويع" كأداة سياسية، وعلى الطابع الوظيفي لبعض الأنظمة في مشروع تفكيك المقاومة، ما يجعل من شمص صوتًا استثنائيًا في معركة الوعي.

 

تحول نوعي في المواجهة

أما الناشط السياسي العراقي قاسم العسكري، فيُقدّم قراءة استراتيجية في خطاب أبي عبيدة، الناطق العسكري باسم كتائب القسام، مؤكدًا أن الخطاب يمثل تحولًا نوعيًا في أدوات المواجهة.

وفي حديثه لموقع أنصار الله يؤكد العسكري أن أبا عبيدة تجاوز الخطاب العسكري التقليدي، ليتوجه بلغة عاطفية سياسية نحو العلماء والنخب والأحزاب، في محاولة لإعادة مركزية القضية الفلسطينية داخل الوعي الجمعي العربي والإسلامي.

وبحسب العسكري، فإن "المقاومة تُدرك حجم الضغط الداخلي والإنساني الذي تعيشه غزة، ولذلك فهي تُحمّل التخاذل العربي مسؤولية إضافية، في محاولة لتثبيت الجبهة الداخلية وتعزيز الصمود الشعبي"، مؤكدا أن هذا الخطاب جاء ليتماهى مع الشارع العربي، ويكشف زيف التبريرات الرسمية حول الاستقرار و"التحالفات الضرورية".

ويشير إلى أن خطاب القسام الأخير ليس مجرد نداء تعبوي، بل هو جزء من هندسة خطابية تُعيد تشكيل العلاقة بين المقاومة والجماهير، وتستخدم العاطفة كأداة استراتيجية في معركة متعددة المستويات.

ويشدد بإن المقاومة اليوم تُدرك أن قوتها ليست فقط في السلاح، بل في قدرتها على تحريك الوعي الجمعي، وبناء تحالفات جديدة خارجة عن منطق الدولة التقليدية.

يكشف تحليل قاسم العسكري عن تحوّل نوعي في خطاب المقاومة، من حدود المواجهة الميدانية إلى فضاء المعركة الرمزية على الوعي العربي، فقد انتقلت المقاومة من خطاب العتاب الأخلاقي إلى خطاب المحاسبة المباشرة، ومن مخاطبة الشارع العاطفي إلى استهداف النخب الفكرية والدينية والسياسية، في محاولة لإحداث خرق في جدار التواطؤ الرسمي، وبلورة وعي جماعي بديل.

خطاب القسام بلاغ يوم القيامة

هذا التحول يعكس نضجًا في أدوات المقاومة، التي باتت تدرك أنها لم تعد مجرد فاعل عسكري، بل فاعل سياسي-ثقافي، يسعى إلى إعادة تشكيل العلاقة بين الجماهير وقضيتها المركزية، في ظل مشهد عربي مأزوم يبحث عن مشروع يلامس قضاياه الكبرى، ويقترح مسارات واقعية للخروج من الانكفاء.

وتتفق الكاتبة والناشطة الإعلامية المصرية علياء الهواري مع ما طرحه الناشط السياسي العسكري، حيث تؤكد أن خطاب أبي عبيدة الأخير يُشكّل رسالة كشف حساب للمؤسسات العربية والإسلامية.

وفي حديثها لموقع أنصار تشير الهواري إلى أن المقاومة تجاوزت مربع مخاطبة العدو فقط، لتدخل في مربع المحاسبة العلنية للأنظمة والنخب التي تخلّت عن مسؤولياتها التاريخية.

ووفقا للهواري فإن ما يجري في غزة ليس فقط معركة عسكرية، بل امتحان وجودي لهوية الأمة، ومرآة لدرجة الانهيار الأخلاقي العربي، موضحة أن بعض الأنظمة ترى في المقاومة خطرًا على استقرارها، فتختار الصمت أو حتى التواطؤ باسم الواقعية السياسية.

وتشير إلى أن الإعلام الموجَّه والتطبيع العلني وتزييف الوعي كلها أدوات تُستخدم اليوم لتفكيك الحاضنة الشعبية للمقاومة، وتحويلها إلى عبء أخلاقي بدلا من أن تكون رافعة تحررية.

وتختم الهواري حديثها بالتأكيد على أن "المعركة اليوم ليست فقط معركة سلاح، بل معركة وعي وتحرر من الخوف والتبعية، والبطولة لم تعد حكرًا على الميدان، بل صارت تتجلى في كل صوت حر يصرخ باسم فلسطين".

في المجمل تبقى أحداث غزة المأساوية كشفاً أخلاقياً شاملاً لانهيار المواقف وسقوط الأقنعة، لتمثل المعركة الغزاوية امتحاناً للضمير العربي، حيث الصمت شراكة، والتبرير خيانة.

وفي المقابل تكتب غزة تاريخًا يصنعه الدم والصمود، وتطرح السؤال الأهم: من تبقّى مع الكرامة، ومن اصطفّ ضدها؟