موقع أنصار الله . تقرير
في زمنٍ تخلّى فيه كثيرون عن القضايا العادلة، أبى الشعب اليمني إلا أن يكون شعلةً من نور، تقاوم العتمة وتفضح الزيف. جسّد اليمنيون أعظم صور الوفاء والإباء، حين خرجوا في أكثر من (1.319) ساحة يرفعون راية غزة، ويهتفون باسمها، غير آبهين بالمطر المنهمر، ولا بالبرد القارس، ولا حتى بشظف العيش الذي يكابدونه منذ سنوات.
في لحظة استثنائية، نزل الغيث على الجماهير المحتشدة، كأن السماء تشاركهم مشاعر الوفاء. لم يتراجع أحد، بل ثبتوا في أماكنهم، يُكملون الهتافات، ويجددون العهد مع غزة. مشهد يُشبه الأساطير، لكنه واقعي بكل تفاصيله. من يقف تحت المطر وهو يهتف لفلسطين، لا يمكن أن يُهزم مهما اشتدت عليه الظروف.
كان المطر يتساقط كأنّه امتحانٌ آخر لصبر هذا الشعب الجبّار، لكن الجماهير لم تتراجع، بل بدت كأنها تستمد من زخات المطر طهارة موقفها، وسموّ نواياها، وثباتها الذي لا يلين. كبار وصغار، شيوخ وأطفال، وجرحى ومعاقين وقفوا صفًا واحدًا تحت السماء المفتوحة، يعلنون أن فلسطين في قلوبهم، وأن غزة ليست وحدها.
في مشهد يعجز عن وصفه القلم، كانت الساحات تفيض بالإرادة، وترتجّ بالشعارات الصادقة: "دمنا مع غزة، وأرواحنا فداء القدس". لم تكن تلك المظاهرات مجرد فعالية عابرة، بل كانت موقفًا إنسانيًا، وبيانًا للعالم بأن اليمن -رغم الحصار والجراح- ما زال يقف في طليعة الأمة، يحرس كرامتها، ويكتب بدمه وألمه ملحمة جديدة في سجلّ الشرف.
إن موقف الشعب اليمني في نصرة غزة ليس جديدًا، لكنه في كل مرة يدهش العالم بروعته وعمقه. ففي وقتٍ يشتدّ فيه الحصار على اليمن، كان الأجدر أن ينشغل بنفسه، لكنه انشغل بغزة، وأثبت أن من يحمل فلسطين في قلبه لا يمكن أن تنكسر إرادته. هكذا هو الشعب اليمني.. عظيم في صموده، عظيم في وفائه، وعظيم في مواقفه التي ستظل خالدة في ذاكرة الأمة.
كان صوت الجماهير اليمنية في الساحات رسالة مدوّية للعالم: "لسنا ضعفاء، نحن أصحاب قضية، وإذا عجز الآخرون عن نصرة غزة، فإن اليمن سيكمل الطريق". هذه مواقف متجذّرة في تاريخ طويل من دعم فلسطين بالمال والرجال والموقف السياسي والإعلامي والعسكري.
يعاني اليمن من حصار خانق، وأزمات اقتصادية وإنسانية ومعيشية طاحنة، لكنه لم ينسَ غزة، بل تقدّم الصفوف لنصرتها. كيف لا، وهو الذي يرى في فلسطين قضية الأمة كلها، ويرى في مقاومة الاحتلال شرفًا لا يُساوم عليه. لقد أثبت اليمني أنه لا يحتاج إلى رفاهية أو دعم خارجي كي يعبّر عن ضميره، بل يحتاج إلى قضية يؤمن بها، وهو ما وجده في فلسطين.
في مشهدٍ أعاد للأمة كرامتها وخلط أوراق القوى الكبرى، دخل اليمن الحرب إلى جانب غزة، لا بالشعارات فحسب، بل بالصواريخ والطائرات المسيرة، والعمليات البحرية التي قصمت ظهر العدو الإسرائيلي، ووضعت الولايات المتحدة في موقف دفاعي عاجز لأول مرة منذ عقود.
ورغم الحصار الخانق المفروض على اليمن منذ سنوات، فقد تحوّل هذا البلد المحاصر إلى قوة عسكرية ضاربة تُرعب "إسرائيل" وتربك أمريكا، وتُعيد رسم خارطة الردع في المنطقة.
وفي تطور مفاجئ وصادم للعدو، أعلنت القوات المسلحة اليمنية منذ نوفمبر 2023 تنفيذ ضربات صاروخية مباشرة باتجاه أهداف عسكرية تابعة للعدو الإسرائيلي في أم الرشراش "إيلات" ومحيطها، وقد اعترفت "تل أبيب" مرارًا بوصول الصواريخ من اليمن، بل اضطرّت إلى تعزيز منظومة "القبة الحديدية" في الجنوب. وحينها قال الصهيوني "هرتسي هاليفي"، "رئيس أركان" جيش العدو، في تصريح لقناة "كان" العبرية أواخر ديسمبر من العام الماضي: "الهجمات القادمة من اليمن لم نكن مستعدين لها، وتشكّل خطرًا استراتيجيًا غير مسبوق".
بالتوازي مع الضربات الصاروخية، فرضت اليمن حصارا بحريا على العدو الصهيوني، اضطر معه العدو إلى إغلاق ميناء "إيلات"، ولكن القوات المسلحة اتجهت مؤخرا إلى توسيع حصارها البحري على العدو، وأعلنت فرض عقوبات على أي شركة تتعامل مع موانئ فلسطين المحتلة، وتقضي العقوبات باستهداف كافة السفن التابعة للشركة المنتهكة للقرار. يوم أمس أصدر مركز تنسيق الشؤون الإنسانية (المعني بالتخاطب مع الشركات المنتهكة للحظر اليمني) خطاباً وجّهَ من خلاله إنذارا أخيرا لتلك الشركات، مؤكدا أن أي شركة لا تلتزم بقرار القوات المسلحة فإنه سيتم فرض العقوبات عليها.
وقد تسبّب هذا الحصار في تغيير مسارات سفن كبرى، وعزوف شركات عن التعامل مع موانئ فلسطين المحتلة، فالقرار اليمني واضح جدا: "لن تمر أي سفينة مرتبطة بالعدو الإسرائيلي ما دامت غزة تحت العدوان والحصار".
ورغم الحماية العسكرية المباشرة التي أعلنتها الولايات المتحدة للعدو الإسرائيلي، والتي شملت إرسال حاملات طائرات وتشكيلات بحرية متقدمة، إلا أن العمليات اليمنية استمرت، بل وتطورت. فيما اضطرت الولايات المتحدة لإخلاء البحر الأحمر من المدمرات وحاملات الطائرات لأول مرة منذ عقود.
الخبير العسكري الأمريكي مايكل هانا قال في وقت سابق لشبكة CNN: "اليمن -المحاصر منذ سنوات- أصبح اليوم شوكة في خاصرة أمريكا، إنه نموذج مذهل لصناعة الردع من قلب الحصار".
وهكذا انتقل اليمن من مربع الدفاع وتحول اليوم إلى مبادر ومهاجم، يضع "إسرائيل" في مرمى نيرانه، ويجعل أمريكا تحسب خطواتها بدقة. هذا التحول الجريء يؤكد أن استراتيجية اليمن لم تعد ردة فعل، بل "خطة تحرير شاملة" تنطلق من الواجب الديني والإنساني تجاه غزة وفلسطين.
وبفضل الأداء العسكري المُذهل، تحوّلت نظرة العالم لليمن: لم يعد يُذكر كبلد يعاني من الحرب، بل كنموذج جهادي صلب. وسائل إعلام عالمية بدأت تتناول التجربة اليمنية بكونها مدرسة جديدة في حرب التحرير غير المتكافئة. صحيفة "الغارديان" البريطانية نشرت في تقرير خاص أن "اليمن قَلَبَ الموازين في البحر الأحمر، وفرض معادلة ردع أرغمت إسرائيل على الاعتراف به كتهديد استراتيجي جديد."
بعد أن اضطرت الولايات المتحدة إلى الانكفاء والاتفاق مع اليمن في عدم استهدف سفنها مقابل إيقاف العدوان على اليمن، رأى العدو الإسرائيلي أنه بات مكشوفا أمام الصواريخ اليمنية، وحاول أكثر من مرة إعادة توريط أمريكا في مستنقع اليمن دون جدوى. فحاول العدو شن غاراته على اليمن منفردا، لكنه سرعان ما أيقن باستحالة هزيمة اليمنيين، بعد أن اضطر خلال الفترة الماضية لشن عدوانه بالطائرات المسيرة إثر تمكن الدفاعات الجوية اليمنية من إرباك طائرات العدو "إف35"، وتوعد الرئيس مهدي المشاط بأن اليمن سيجعل من أحدث طائرات العدو أضحوكة أمام العالم.
في ظل هذا الوضع، عمد العدو إلى إعادة تفعيل مرتزقة العدوان الذين وقفوا مع العدوان الأمريكي السعودي طوال السنوات الماضية، وهم الآن يحضرون للفتنة وزعزعة الجبهة الداخلية، لكن اليمن أقوى من كل العواصف. سيد القول والفعل السيد عبدالملك بدرالدين الحوثي أكد في خطابه يوم الخميس أن هناك جهوزية واسعة وعسكرية بشكل كبير. ووجه السيد القائد التحذير لكل من تسول له نفسه الوقوف مع العدو الإسرائيلي من كل أدوات الخيانة والغدر والإجرام. مؤكدا أن موقف الشعب سيكون حازما مع أدوات الخيانة والغدر، وأن على أدوات العدو الإسرائيلي أن يدركوا أن الوضع في هذا البلد هو بهذا المستوى من العظمة والتماسك والوعي الشعبي الواسع.
والملفت في الأمر أن لجوء العدو الإسرائيلي إلى تفعيل الأدوات -التي عجزت طوال عشر سنوات عن إركاع اليمنيين- دليل على مدى التخبط والإرباك الذي يعيشه العدو، وأصبح حاله كحال الغريق الذي يحاول التمسك بالقشة.
ما فعله اليمن منذ اندلاع معركة غزة لا يُعد مجرد تضامن، بل مشاركة فعلية في الحرب. من أرض محاصرة، قُصفت بالصواريخ لعشر سنوات، خرجت قوة لا تُقهر، ترسل الصواريخ، وتُغلق البحار، وتُفشل أعتى الجيوش. اليمن لم يرفع السلاح فقط من أجل غزة، بل رفع راية الكرامة للأمة كلها، وأثبت أن من يملك الإيمان والمشروع القرآني والقيادة الربانية، قادر على قلب المعادلات مهما كانت التحديات والتضحيات.