موقع أنصار الله . تحليل | أنس القاضي
يأتي هذا التقدير التحليلي استناداً إلى ورقة بحثية نشرها المعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية (IISS) في 1 ديسمبر 2025، تحت عنوان:
"ذهول كونستليشن: قرار الفرقاطة يضع البحرية الأمريكية على مسار جديد غامض"، وهي من إعداد نيك تشايلدز، الباحث الأقدم للقوات البحرية والأمن البحري في المعهد، والمسؤول عن تحليل القدرات البحرية للدول وإعداد البيانات المنشورة سنوياً في كتاب "التوازن العسكري"، وتعدّ كتاباته مرجعاً أساسياً في المجتمع البحري الغربي نظراً لطبيعة منصبه ودوره البحثي في متابعة التحولات البحرية العالمية، ما يمنح تحليلاته أهمية خاصة عند دراسة اتجاهات القوة البحرية والسياسات البحرية للدول الكبرى.
تكتسب ورقة تشايلدز أهميتها من كونها صادرة عن مؤسسة بحثية تُعد من أكثر المراكز تأثيراً في تحليل الاستراتيجيات العسكرية الغربية، فضلاً عن صدورها في توقيت دقيق أعقب قرار البحرية الأمريكية في 25 نوفمبر 2025 بإلغاء برنامج الفرقاطة المستقبلية من فئة كونستليشن، وهو القرار الذي أثار نقاشاً واسعاً داخل الأوساط العسكرية الأمريكية والدولية حول مستقبل الأسطول الأمريكي وقدرته على مواكبة التحولات التكنولوجية والمواجهات البحرية الحديثة.
وفي هذا السياق، يعتمد تقدير الموقف الحالي على التحليل الذي قدّمه تشايلدز، كونه توصيفاً داخلياً لواحدة من أهم الأزمات البنيوية التي تواجه البحرية الأمريكية منذ عقدين، ومنطلقاً لفهم أعمق لتأثير هذه الأزمة على موازين القوى البحرية العالمية، وعلى بيئة الأمن البحري في البحر الأحمر وباب المندب، وعلى موقع اليمن تحديداً في خضم هذه التحولات.

يمثّل قرار البحرية الأمريكية في 25 نوفمبر 2025م بإلغاء برنامج فرقاطات فئة كونستليشن مؤشراً واضحاً على اختلالات بنيوية متراكمة في منظومة بناء السفن لدى الولايات المتحدة؛ فالبرنامج الذي كان يُنظر إليه باعتباره حلقة رئيسية في إصلاح الخلل الناتج عن تجربة السفن القتالية الساحلية (LCS)، واجه تعقيدات تصميمية وتكنولوجية متزايدة. فقد تحوّل التصميم من نسخة معدّلة عن فرقاطات FREMM الأوروبية بنسبة تطابق تبلغ 85% إلى تصميم أمريكي شبه جديد لا تتجاوز نسبة التشابه فيه 15%.
هذا التحول أدى إلى تضخم الكلفة والوزن وزيادة التأخير في البناء لثلاث سنوات، ما دفع البحرية الأمريكية إلى إنهاء البرنامج وإلغاء أربع سفن مخططة والإبقاء على سفينتين قيد الإنشاء تحت مراجعة قد تحدد مصيرهما لاحقاً. يعكس هذا الإلغاء أزمة تتجاوز الجانب التقني، وتمتد إلى فشل المؤسسة البحرية الأمريكية في توفير سفن جديدة تلبي متطلبات البيئة الاستراتيجية الراهنة، وفي مقدمتها التنافس العالمي المتسارع، وازدياد تهديدات الحرب البحرية غير المتماثلة.
تزامن إلغاء برنامج كونستليشن مع صعود متسارع لقدراتِ بحريةِ جيش التحرير الشعبي الصيني. تواجه الولايات المتحدة تحدياً استراتيجياً يتمثل في بطء وتيرة تحديث أسطولها مقارنة بالصين، التي تبني طرادات ومدمرات وفرقاطات متقدمة بقدرة إنتاجية تفوق نظيرتها الأمريكية من حيث الكم والزمن.
هذا التفاوت في القدرة الصناعية البحرية يعمّق الفجوة بين الطرفين، ويقوّض قدرة البحرية الأمريكية على الحفاظ على تفوقها العملياتي في المحيطين الهندي والهادئ، إلى جانب عجزها في الممرات البحرية الحيوية الممتدة من غرب آسيا إلى شرق المتوسط، ومنها البحر الأحمر وباب المندب.
تسعى الإدارة الأمريكية الجديدة إلى إعادة صياغة رؤية شاملة للبحرية تتضمن تحديث العقيدة، وتطوير مقاتلات سطحية صغيرة جديدة، ودفع برامج السفن السطحية غير المأهولة (المسيرة) (USVs)، إلا أن هذه الخطط -رغم طموحها- تواجه تحديات عملية كبيرة، أهمها:
- عدم نضج التصميمات الجديدة القادرة على أداء المهام في المحيطات المفتوحة.
- التأخر الزمني المتوقع لتحويل الأفكار والمفاهيم إلى قدرات عملياتية ملموسة.
- التردد في التوجه نحو سفن كبيرة من فئة DDG(X) وسط نقاشات سياسية داخلية حول طبيعة السفينة المستقبلية، بما في ذلك مقترحات إعادة إحياء مفهوم "البوارج الحربية".
هذه المؤشرات تدل على أن البحرية الأمريكية تمر بمرحلة انتقالية غير مستقرة، يصعب خلالها الحفاظ على مستويات الجاهزية التقليدية، خصوصاً في المسارح البحرية البعيدة.

برز البحر الأحمر كأحد المسارح التي انعكست فيها محدودية القدرات الأمريكية الحديثة، إذ كشفت التجارب العملياتية في البحر الأحمر والبحر الأسود ضعف تصميم الفرقاطة كونستليشن في مواجهة تهديدات غير متماثلة. كما أن قدرة الفرقاطة على حمل 32 خلية من نظام الإطلاق العمودي VLS باتت غير كافية للتعامل مع سيناريوهات الاشتباك الكثيف، مقارنة بالقدرات التكتيكية للقوات اليمنية.

يشير ذلك إلى أن البحرية الأمريكية لم تعد قادرة على فرض نموذج التحكم البحري التقليدي في الممرات الحيوية، خصوصاً في باب المندب الذي شهد نشاطاً مكثفاً للبحرية اليمنية التي تمتلك قدرات بحرية وصاروخية متطورة.
الدلالات الاستراتيجية لليمن
1 تراجع فعالية الردع البحري الأمريكي في البحر الأحمر:
إن الفجوة المتزايدة بين الطموحات الأمريكية والواقع العملياتي تضعف قدرة الولايات المتحدة على ضبط توازن القوى البحري في باب المندب، وتحدُّ من قدرتها على حماية خطوط الملاحة المرتبطة بالكيان الصهيوني، أو مواجهة التهديدات غير المتماثلة بفاعلية كافية.
2 تعزيز موقع اليمن في معادلة الردع البحري:
أثبتت العمليات البحرية في البحر الأحمر خلال الأعوام الأخيرة أن القدرات اليمنية (الصواريخ الدقيقة، والمسيّرات البحرية، والطائرات المسيرة) تشكل عنصراً مؤثراً في بنية التهديدات البحرية الحديثة. ومع استمرار الارتباك الأمريكي في تطوير سفن تتكيف مع هذا النوع من التهديدات، يبرز اليمن بوصفه فاعلاً قادراً على فرض معادلات جديدة في ممر مائي بالغ الأهمية.
3 تحوّل في الحسابات الإقليمية:
لا يُتوقّع أن تترك الولايات المتحدة البحر الأحمر لصنعاء خلال المرحلة الانتقالية التي يشهدها الأسطول الأمريكي، غير أن قدرتها على فرض السيطرة البحرية الشاملة تتراجع بصورة ملحوظة، الأمر الذي يدفع واشنطن إلى تعويض هذا النقص عبر تعزيز الاعتماد على السعودية والإمارات والفصائل المحلية (المرتزقة) الموالية لهما، وكذلك عبر منح بريطانيا دوراً متقدماً في عمليات البحر الأحمر، وإنْ بقي دوراً مساعداً لا قيادياً بحكم محدودية القدرات البريطانية مقارنة بالولايات المتحدة. وفي هذا الإطار يمكن للرياض وأبوظبي أن تتجها إلى تسريع شراء المعدات البحرية المتقدمة وتحسين بنيتهما البحرية، بينما تقوم لندن بدور تمكيني في التدريب وبناء القدرات واستخدام الموانئ اليمنية التي تحتلها الإمارات كنقاط ارتكاز عملياتية.
4. اتساع هامش المناورة الاستراتيجية لليمن:
في ظل ضعف القدرة الأمريكية على الانتشار الكثيف والمستدام في البحر الأحمر خلال المرحلة الانتقالية الحالية، تتوافر لليمن فرصة لتعزيز أدوات الردع، وترسيخ قواعد اشتباك جديدة، وتثبيت موقعه كطرف مؤثر في أمن الممر البحري الدولي.
يشير إلغاء برنامج الفرقاطة كونستليشن إلى بداية مرحلة انتقالية مضطربة في القوة البحرية الأمريكية، تتسم بتراجع القدرة على إنتاج سفن جديدة، وصعوبة التكيف مع التهديدات البحرية "غير المتماثلة"، والصعود المتسارع للبحرية الصينية. وتمتد هذه التداعيات إلى البحر الأحمر، حيث يزداد الضغط على الولايات المتحدة للحفاظ على نفوذها والحد من تآكل الردع البحري.
بالنسبة لليمن، تكشف هذه التطورات عن فرصة لتعزيز موقعه في معادلة الأمن البحري، فالبحرية اليمنية وسّعت الفجوة بين القدرات الأمريكية ومتطلبات البيئة العملياتية الحديثة. وتؤشر هذه المعطيات إلى مرحلة جديدة من التفاعلات الإقليمية والدولية يكون فيها باب المندب مركزاً لصراع الإرادات البحرية، مع تزايد أهمية القوة البحرية اليمنية في تحديد ملامح هذا التحول.