منذُ أَيَّـام، ضجّت وسائل الإعلام العربية والدولية بالحديث عن الغارات الإسرائيلية التي استهدفت العاصمة القطرية الدوحة، وما رافقها من جدل واسع حول الدول التي فتحت أجواءها أمام الطائرات المعادية؛ تحول الموضوع إلى قضية الساعة، وانهالت الإدانات والتعليقات، وبدت وكأننا أمام جريمة غير مسبوقة في التاريخ العربي المعاصر.

لكن، وهنا بيت القصيد: لماذا أخذت هذه الغارات على الدوحة كُـلّ ذلك الزخم، بينما اليمن يتعرض منذ أشهر لغارات صهيونية متواصلة استهدفت صنعاء والحديدة وصعدة والجوف ومختلف المحافظات اليمنية، وأوقعت عشرات الشهداء والجرحى، ولم نسمع حينها الضجيج ذاته ولا نصفه؟!

بل إن المفارقة المؤلمة أنّ العدوان الأخير على صنعاء والجوف جاء بعد يوم واحد فقط من استهداف الدوحة، وخلّف عشرات الشهداء والجرحى، بينهم نساء وأطفال، ومع ذلك مرّ الحدث في الإعلام مرور الكرام، بينما بقيت الأنظار مركزة على الدوحة وما جرى فيها.

ازدواجية صارخة في المعايير

هنا يبرز سؤال لا بد أن يُطرح بجرأة:

هل أصبح فتح الأجواء لقصف اليمن أمرًا عاديًّا أَو مبرّرًا، بينما فتحها لقصف الدوحة خيانة كبرى وفضيحة لا تُغتفر؟!

هل أرواح اليمنيين أقل شأنًا من أرواح غيرهم؟ أم أن هناك حسابات سياسية وطائفية قذرة تحكم الوعي والإعلام وتحدّد متى نغضب ومتى نصمت؟

الجواب المؤلم أن ما اعتُبر اليوم "فضيحة" بحق قطر، كان بالأمس وما يزال يُسوّق على أنه "تحالف مشروع" حين كان المستهدف هو اليمن. لقد صُوِّرت الغارات على صنعاء وصعدة على أنها "حرب ضرورة" أَو "ردع للحوثيين"، بينما جرى تصوير الغارات على الدوحة على أنها خيانة كبرى وعدوان لا يمكن احتماله.

الإعلام الموجّه وصناعةُ الوعي المزيف

الإعلام العربي والدولي لعب الدور الأخطر في هذه الازدواجية.

ففي حالة اليمن، تم التلاعب بالمصطلحات لتبرير القصف، واختزلت المجازر في عناوين باردة مثل: "استهداف مواقع للحوثيين" أَو "غارات على معاقل المتمردين"، رغم أن الضحايا في الغالب كانوا من المدنيين.

أما في حالة الدوحة، فقد تحوّلت الغارات إلى عناوين عاجلة مثيرة، وتصدّرت الشاشات بنبرة تنديد واحتجاج، وكأنّ الدم القطري أغلى من الدم اليمني.

اُلطائفية السياسية ُسمٌّ قاتل

الطائفية السياسية لعبت دورًا محوريًّا في ترسيخ هذا التناقض. لقد سُمّم جزء من الوعي الجمعي العربي بخطاب طائفي جعل من دم اليمني مباحًا، ومن قتله "انتصارا" لمعسكر ما ضد آخر. بينما حين أصابت الطائرات الدوحة، استيقظت فجأة القيم والأعراف لتعلن أن هذا خط أحمر.

هكذا جرى تفريغ الموقف الأخلاقي من معناه، وتحويله إلى أدَاة انتقائية. وحين يصبح الدم العربي سلعة تصنّف حسب المذهب أَو التحالف السياسي، فإننا نكون قد دخلنا في ضلال مركب، لا يفرّق بين الحق والباطل إلا بميزان المصالح الضيق.

التحالفات المصلحية: الغطاء الأخطر

الأنظمة التي فتحت أجواءها أمام الطائرات المعتدية على اليمن لم تُحاصر سياسيًّا ولم تتعرض للعقوبات، لأنها كانت تتحَرّك تحت المظلة الأميركية أَو ضمن حسابات إقليمية مرسومة بدقة. أما حين ظهر الكيان الصهيوني في الصورة واستهدف قطر، تغيرت الحسابات فجأة، وارتفعت الأصوات وكأننا أمام حدث طارئ.

المفارقة أن تلك الأنظمة تعرف جيِّدًا أن فتح الأجواء لأي طائرة معادية ــ سواء كانت أميركية أَو بريطانية أَو إسرائيلية ــ هو خيانة، لكن الخيانة جرى تجزئتها، حتى صار ما هو خيانة في قطر مُجَـرّد "تحالف" في اليمن!

الوعي المقلوب

اليمن لم يكن استثناء يستحق الصمت، ولا قطر استثناء يستحق الضجيج. الاستثناء الحقيقي هو هذا الوعي المقلوب الذي يجعل الدماء درجات، والعدوان درجات، والخيانة درجات.

إن أخطر ما يواجه الأُمَّــة اليوم ليس القصف ولا الطائرات ولا فتح الأجواء فحسب، بل هذا الانهيار الأخلاقي الذي يبرّر هنا ويُدين هناك. هذا هو الضلال المركب الذي يجعل بعض الشعوب ترى بعين واحدة، وتغض الطرف عن مأساة اليمن بينما تملأ الدنيا صخبًا عند استهداف قطر.

معادلة واضحة لا تحتمل التأويل

المعادلة الأخلاقية والسياسية أوضح من أن تُجادل:

فتح الأجواء للعدوان خيانة.

قتل المدنيين جريمة.

العدوان على اليمن والعدوان على قطر واحد في المضمون، وإن اختلف في ردود الأفعال.

ما لم يُبنَ موقف واحد صادق من كُـلّ عدوان، وما لم يُعتبر دم العربي كله خطًا أحمر بلا استثناء، فإننا سنظل أسرى لعبة قذرة تُدار بعقول الآخرين وأموالهم وأدواتهم الإعلامية.

ختامًا.. اليمن يُقصف منذ أشهر والدم ينزف، والدوحة قُصفت بالأمس فاستيقظ الضمير فجأة. وبين الصمت والضجيج، تضيع الحقيقة: أن الدم العربي كله يُستباح، وأن الخيانة واحدة، وأن العدوان واحد، وإن اختلفت المسميات.

وما لم يدرك العرب أن المعركة واحدة وأن التلاعب بالمبادئ هو الجريمة الكبرى، فإننا سنظل ندور في حلقة الضلال المركب، نصرخ حين يريدوننا أن نصرخ، ونصمت حين يأمروننا بالصمت، بينما أوطاننا تُدكّ وأمتنا تُفتّت.