المـوتُ.. بيــن الفــزع والاحتفــــاء..!

‏موقع أنصار الله || مقالات ||عبدالقوي السباعي

الموتُ.. كلمةٌ تُرعِبُ القلوبَ وتقشعرُّ منها الأبدانُ وترفُضُها العقولُ، ولكنه حقيقةٌ تحدُثُ أمام أعيُنِنا في كُـلِّ لحظة، ولا نستطيعُ تجنُّبَهُ ولا الهروبَ منه، إنَّه قَدَرُ الإنسان لا مَحال، بل هكذا اقتضت سنةُ الله الكونيّة أنّه لن يدومَ أحد سوى الله -سُبْحَانَـهُ وَتَعَالَى-، الذي جعل الأرضَ ممراً قصيراً للبشر ليقوموا بإعمارها وعبادته، ومن ثَمَّ ينتقلون من الحياة الدنيا إلى الحياة الآخرة، ليجدوا نتائجَ ما كانوا يفعلون في الحياة الدنيا، ويبتلي اللهُ تعالى العبدَ بهذا الاختبار بعد أن أنزل له الرسلَ والكتبَ لهدايته، وخلق له العقلَ الذي يستطيعُ من خلاله تمييزَ الحَـقِّ والباطل، فجعل اللهُ الموتَ واعظاً للإنسان حتى يتوقّف عن التمادي بالباطل، وهو يتخطف الناس دون أن يستثنيَ أحداً مهما كَبُرَ شأنُه في الدنيا، فيعرف أنه سيذوقُ الموتَ مثل باقي البشر، ولن يأخُذَ معه سوى عمله، وهذا ما يجبُ على الجميع فهمُه والعملُ به.

ولو استعرضنا الموتَ كظاهرةٍ مرتبطةٍ بالإنسان منذُ بدء الخليقة من خلال تحليل النصوص الدينية (الإسلامية والمسيحية واليهودية)، والخطاب الديني في التُّراث الإنساني وعلاقته بالخِطاب الأسطوري والخُرافي (البوذية والهندوسية)، فسنجدُ اختلافاً كبيراً لمفهوم الموت وفي تباينٍ مستمرٍّ من عصرٍ إلى عصر ومن مجتمعٍ إلى آخرَ، تنعكسُ ثقافتُه على السلوك البشري وعلى الطقوس التي مُورست في هذه الحقبة أَو تلك، فمفهومُ الموت لم يكن خاصيةً ملازمةً للوضع البشري بالنسبة لإنسان العصور البدائية والوثنية أَو الملاحدة وحتى معتنقي الديانات السماوية الذي كان (يعتقد البعضُ أنه وُلد خالداً والبعض يعتقدُ بالاستنساخ وآخرُ يعتقدُ بخروج الروح إلى العِلم السفلي وآخرُ يعتقد بالانتقال للعيش في البُعد الآخر غير المرئي من هذا العالم) وَ… وَ…، ولكن ومع مرور الوقت ونزول الرسالات السماوية، بدأ الإنسانُ يدرك أن لحياته بداية ونهاية، وتطور وعيُه مع تطور التاريخ البشري فزاد انكبابُه على معرفة كنه الموت؛ ولذلك حين ترقى وعيه تضاعفت الأسئلةُ المطروحة عليه وأهمها على الإطلاق ما مصيرُ من يموت؟..

لقد كان للتراث الديني الإسلامي والنصوص القرآنية، الدورُ الأكبرُ في الإجابة على هذا التساؤل، ولكن هذا الأمرَ لم يستمر طويلاً، إذ عاد ليكون محصوراً بين صفحاتِ الكُتب وفي أذهان رجال الدين الذين سعَوا بطريقةٍ وأُخرى على جعل خوض العامة فيه من الأمور المستهجنة وغير المستحبة، وخصوصاً إذَا ما تعلق الأمرُ بالشهادة، وكنّا معاشرَ اليمنيين وحتى وقتٍ قريب ننظرُ إلى الموت بفزعٍ وولولةٍ وعويلٍ ونواح، سواءٌ أكان الميت متوفياً أَو شهيداً، لكنّا ومع الثقافةِ القرآنية بتنا ننظرُ إلى الشهادة في سبيل الله ليس على اعتبارها النهاية المطلقة للحياة، أَو على أنها تؤدي إلى الفناء الكامل للحيوية الواعية، ولكنها تعني انفصالَ الجسد عن الروح وتحلل الأول، وانتقال الأخيرة من نمط حياة أَو وجود إلى نمط آخرَ؛ لأَنَّ الروحَ تسمو إلى العالم الذي يختاره اللهُ للشهيد مصداقاً لقولهِ -سُبْحَانَـهُ وَتَعَالَى-: (وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ، فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُواْ بِهِم مِّنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ، يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ)، ويقول -سُبْحَانَـهُ وَتَعَالَى-: (وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لَا تَشْعُرُونَ)، وَإذَا ما تمعنّا في الآياتِ القرآنية التي تدورُ حول الشهادة وكرامة الشهداء عند الله، سنجدها تحمل رؤيةً علميةً ثاقبةً لإعجاز علمي يستحق البحث يتجلى في الشهادة في سبيل الله، فالشهداءُ هم أولئك المؤمنون الذين اصطفاهم اللهُ تعالى؛ لأَنَّهم صدقوا ما عاهدوا الله عليه، ففازوا وربحت تجارتُهم مع الله، فأكرمهم بالحياة بيننا مع أننا لا نشعرُ بذلك، وتحول ذلك الفزع والهول إلى احتفاءٍ وفرحةٍ لفرحةِ الشهيد، فلا فناء لأمةٍ تعشق الشهادةَ وتحتفي بالموت.

 

قد يعجبك ايضا