كيف قاد سيد الثورة معركة الصمود والتحرر؟.. المرتكزات الاستراتيجية لمواجهة العدوان في خطاب قائد الثورة (2-4)
موقع أنصار الله || مقالات ||أنس القاضي
واقع الحال أن ما تلى 21 أيلول/ سبتمبر من تطورات وأحداث كله يشهد أنها ثورة تحررية، وأن مشكلة الخارج معها هي أنها ثورة تحرر الشعب اليمني من الوصاية الخارجية وتستعيد لشعبنا القرار السياسي وتتيح الفرصة للقوى السياسية الداخلية وتهيئ المناخ لمعالجة المشاكل السياسية بروح وطنية وبعيداً عن التبعية للخارج.
وهذا الموقف العدواني تجاه اليمن كان قد تبلور كخط سياسي في مؤتمر الحوار الوطني على لسان القوى السياسية العميلة تحت مفهوم دولة اتحادية «فدرالية من ستة أقاليم» خارج التوافق الوطني، فجاءت الثورة الشعبية وأحبطت هذا المشروع. وكذلك برز العدوان كرد فعل على الانتصارات التي حققتها قوات الجيش واللجان الشعبية في مواجهة الجماعات الإرهابية، وبالتالي فقد كان خيار المواجهة لدى السيد خياراً إنسانيا وقضية المواجهة قضية عادلة لا تنازل عنها، وينطلق هذا الخيار من مسؤولية دينية أخلاقية وطنية راسخة.
التوكل على الله
إن من أبرز المحددات المبدئية والعقائدية لمواجهة العدوان، التي تملكت السيد عبدالملك الحوثي، مبدأ التوكل على الله، والإيمان العميق بعون الله ونصره، وتعبئة الشعب والمجاهدين وتوعيتهم بأهمية التوكل على الله وحتمية نصر المستضعفين. وكان لهذا المبدأ دور عظيم في صناعة الصمود، خاصة في أوساط رجال الجيش واللجان الشعبية، الذين يبدون صلابة وحماسة ويخوضون معارك لا هوادة فيها ضد عدو يستخدم أحدث التقنيات العسكرية الغربية. كما برز هذا الخطاب والمبدأ الإيماني كرد فعل ضد الجبروت الإمبريالي الاستعماري الليبرالي والانهزامي الذي يؤله الإمبريالية الأمريكية.
انطلاقاً من ثابت عقائدي إيماني بنصر الله للمستضعفين في الثقافة القرآنية، ومن تجربة مقاومة ست حروب ظالمة كانت المقدرات المادية في أيدي أنصار الله أحقر من أن يُنسب النصر إليها، تعامل السيد مع التوكل على الله كمبدأ راسخ لا شك فيه، يراه رأي العين. وترابط مع هذا الإيمان الراسخ بعدالة القضية وقوة موقف الحق التي هي مع الشَعب اليمني، وما لهذه القضية العادلة والمحقة من دور في التصلب وتقديم التضحيات ومواصلة الكفاح الشعبي حتى النصر.
في إطار الدراسات العلمية وعلوم الاجتماع الحديثة لا يُمكن التحقق من وجود تدخل إلهي ودوره في النصر، إلا أن التدخل الإلهي للمؤمنين مسألة عقائدية راسخة، وبالنسبة لمن يلمسونه في واقع الجبهات فهو أمر موضوعي لا فكرة محفزة. أما الذين لا يؤمنون بالقضايا الغيبية، فتظل لديهم إشكالية معرفية ونوع من الألغاز والغرابة والحيرة في تفسير مسألة انتصار قوى شعبية بإمكانيات وأوضاع متهالكة ضد قوى أكثر تنظيما وأكثر عدداً وأحدث تسليحاً!
وعلى الرغم من عجز علوم الاجتماع المادية عن تفسير المسألة الغيبية والتأكيد على وجودها، والاكتفاء بالقول بأن هذه القصص مسائل مثالية، إلا أن علم الاجتماع الماركسي يعالج بشكل جيد مسألة التماسك العقائدي وانعكاساته على صمود القوى الشعبية في نضالها. وتعتبر الماركسية العامل الروحي والأيديولوجي الأخلاقي القيمي عاملاً مهماً جداً في النضال الجماهيري، حيث يعتبر ماركس أن «الأفكار تتحول إلى قوة مادية حين تصبح في أيدي الجماهير».
إن التوكل على الله والإيمان بنصر الله لا يقتصر فقط على حقل الإيمان والاعتقاد الغيبي كعلاقة بين الإنسان والإله؛ فالإيمان إلى جانب ذلك هو معطى ووعي اجتماعي يُشبع حاجة معينة لدى الإنسان، أي أن هناك أساسات مادية لنشأة الإيمان، وجذر أرضي لأوراقه السماوية. ويبرز تعمم ونمو وتصلب الإيمان بالله في أوساط شعبنا، وخاصة في مرحلة العدوان، كموقف رفض اجتماعي للهيمنة الإمبريالية الأمريكية (أي إقامة للتوحيد ونفي للطاغوت) ووضعية نفسية اجتماعية تنبذ الخوف من جبروت التقنية العسكرية الحديثة التي يملكها الإمبرياليون، ودافع وحافز للأمل بالغد السعيد والخلاص، فيغدو شعار «الله أكبر» واستشعار عظمة الله بمثابة نفي للتصورات الطاغوتية المرسخة عن جبروت أمريكا وقوى العدوان والاستكبار والاستعمار والصهيونية.
وفي وضع تاريخي تستعرض فيه الإمبريالية تفوقها العلمي بكل وحشية ورجعية وبربرية، ويخترق المجتمع اليمني فكر ليبرالي وانهزامي يؤله أمريكا، وتتسيد على القوى السياسية الكلاسيكية حالة من الانهزامية والانبهار تجاه الغرب وممالك وإمارات الخليج، ويغيب عن الساحة أي خطاب علماني قومي أو اشتراكي مناهض للفكر الإمبريالي والهيمنة الأجنبية، في هذا الوضع من الوعي الاجتماعي، جاء أنصار الله ليشبعوا هذا النقص وهذه الحاجة الروحية الأيديولوجية لدى الشعب بفكر مقاوم يفتح الآفاق ويعطي الناس أملاً في الحياة والتغيير والتقدم.
ومن لا يتنبه لحاجات المجتمع ولا يعي الموقع الذي تشغله الحاجة الروحية والأيديولوجية لدى الشعب، يستغرب الالتفاف الجماهيري حول أنصار الله، ويفسر شعبية أنصار الله بمجرد حشد الجماهير بالمال والسلطة على غرار آليات الأنظمة السابقة.
استلهام تجارب الشعوب
لم تغب عن قائد الثورة مسألة الاهتمام بمعرفة تاريخ حركة الثورة العالمية والاستفادة من هذه التجارب. ففي كثير من خطابات قائد الثورة تطرق السيد إلى تجارب الشعوب المعادية للإمبريالية الأمريكية، والتي خاضت حروباً دفاعية وتحررية ضد الغزو والهيمنة الأجنبية، مثل المآثر العظيمة التي اجترحها الشعب الكوبي والفيتنامي وكذلك الكوري والإيراني في ثوراتهم وحروبهم الدفاعية التي تصدوا فيها للغزو والاحتلال والهيمنة الاستعمارية الأمريكية.
إن خطورة هذه الأفكار عن تجربة حركة الثورة العالمية لدى قائد الثورة لها مغزى هام، ألا وهو وحدة حركة الثورة العالمية. هذه الوحدة التي تشترك فيها الشعوب في النضال والمصائر هي موجودة في الواقع التاريخي، وإن كانت في هذا العصر ليست مجسدة في روابط سياسية بين هذه الشعوب المناهضة للإمبريالية، بل مجرد حالة تعاطف وجدانية، على عكس الوضع الذي كانت فيه حركة التحرر الوطنية المكونة لحركة الثورة العالمية موحدة وذات علاقات سياسية اقتصادية عسكرية فكرية في إطار «المعسكر الاشتراكي».
انصب اهتمام قائد الثورة في ذكر التجارب التاريخية على بعدين رئيسيين:
البعد الأول تمثل في استيعاب هذه التجارب التاريخية، وبالتالي الاستفادة مما يمكن تطبيقه في الوضع اليمني. وفي هذا السياق أُعدت أوراق العمل، وكتب الكتاب الوطنيون عن هذه التجارب.
والبعد الثاني: استلهام المآثر البطولية التي خلدتها هذه الشعوب، في نضالها التحرري، وتقديم هذه التجارب كشواهد تاريخية تزيد من صلابة الجماهير والقوى الوطنية المواجهة للعدوان، وتؤكد إمكانية القوى الشعبية -متى ما توحدت خلف قضية عادلة- على أن تحرز نصرا على أعتى الدول الإمبريالية في العصر الحديث، كما في التجربة الخالدة للشعب الفيتنامي الذي قهر الإمبريالية الأمريكية.
كما اهتم قائد الثورة بأن يُشير إلى أن هذه الشعوب انطلقت من منطلقات وطنية وإنسانية لتخوض هذه الحروب وتصنع هذه البطولات، وكان النصر حليفها، مؤكداً أننا كشعب مسلم لدينا ما يوجهنا من منطلقات عقائدية، فتصبح مواجهة الطاغوت ونفي كل ألوهية لغير الله واجباً دينياً مقدساً، وليس فقط مسؤولية وطنية، مما يعني أنه جدير بنا أن نكون أجدر بالمقاومة ومواجهة التحديات والظفر بالنصر.
استراتيجية الاعتماد على الشعب
تحددت الاستراتيجية الثانية التي وضعها قائد الثورة في الاعتماد على الشعب واستنهاضه وتعبئة طاقاته، وتحميل الجماهير المسؤولية والمبادرة الذاتية لخوض الصراع والاستمرار به، وتوزيع المهام وفق تقسيم العمل الاجتماعي. وكان تشديد قائد الثورة على هذه الاستراتيجية ومنطلقه لإقرارها ليس فقط حقيقة أن حروب التحرر الوطنية هي على الدوام حروب شعبية، بل ولأن مؤسسات الدولة اليمنية لم تكن مؤهلة لخوض حرب دفاعية وإعداد الإمكانيات لها، وكذلك المؤسسة العسكرية القديمة المتهالكة لم تكن مهيأة لمثل هذه المعارك، لا عسكرياً وتكنيكياً ولا من حيث العقيدة العسكرية. وفي هذه الظروف تحمل الشعب الثقل الأكبر. وكان السيد قائد الثورة على صواب في توجهه نحو الشعب في المقام الأول، ودون أن ينفي أهمية الدولة ودورها، وضرورة تحسين أدائها، فقد كانت مسألة إصلاح الدولة هي الاستراتيجية الثالثة، ولكنها مُلحقة بالشعب وتابعة له وليس العكس.
إن محورية الإنسان، الشعب، الفاعل في الأرض، القادر على التغيير اجتماعياً ووطنياً، الحامل دينياً مسؤولية القيام بذلك التغيير كمُستخلَف في الأرض، تُعَدُّ أحد مرتكزات خطاب السيد قائد الثورة.
تستنهض خطابات السيد جماهير الشعب لمواجهة العدوان، حيث تُشدد على المسؤولية الإنسانية المجتمعية، وتحث على الأدوار الشعبية التي يجب أن يقوموا بها في الحياة وفق معطيات فلسفة الصراع بين المستضعفين والمستكبرين، المقاومين والغزاة المستعمرين، وذلك باعتبار أن مواجهة العدوان ضرورة اجتماعية وحتمية تاريخية من أجل الانعتاق الوطني وتحقيق الاستقرار والرفاه الاجتماعي. ومحورية دور الشعب في تحمل هذه المسؤولية لا تأتي -وفقاً لخطاب قائد الثورة- من واقع أن الشعب هو صانع التحولات وصاحب المسؤولية في المواجهة فحسب، بل لأن الشعب -أيضاً- هو المُستهدف الرئيسي من العدوان، وأن هدف العدوان هو استعباد الشعب اليمني. أما ثروات الشعب وأراضيه فهي ليست سوى قيم مضافة إلى قيمة الإنسان اليمني الذي يحق للعالم أن يتغنى بصموده في وجه العدوان، وفي سبيل حريته.