دلالاتُ التطبيع بين الإمارات والاحتلال الإسرائيلي
موقع أنصار الله || مقالات || عبد العزيز بن حبتور*
أُميط اللثامُ في يوم الخميس 13 أغسطُس 2020م، عن العلاقاتِ الدافئة القائمة أصلاً بين مشيخة الإمارات العربية المتحدة الخليجية ودولة الكيان الصهيوني المحتلّ لأرض فلسطين، حيث تم الإعلانُ عن هذه العلاقة الدبلوماسية والسياسية الجديدة من البيت الأبيض الأمريكي في واشنطن عبر مؤتمر صحافي أداره الرئيسُ الأمريكي دونالد ترامب.
بطبيعة الحال لقي الخبرُ تِرحاباً حاراً من مُعظم الدول الغربية الاستعمارية الرأسمالية التي تدور في الفلك الأمريكي الصهيوني وأتباعه في المنطقة العربية والإقليمية، لكن في اللحظة ذاتها ظهرت اعتراضاتٌ واحتجاجاتٌ جادة ضد هذه الاتّفاقية التي وُصفت بأنَّها حدثٌ ليومٍ أسود جديد ونكبةٌ إضافية تواجه أمتنا العربية والإسلامية وجميع شعوب العالم الحُرة.
مأساةُ الشعب الفلسطيني هي تحصيل مكثّـف لجريمة دولية صاغها الغرب الاستعماري الذي قسَّم أرض العروبة إلى دويلات وكانتونات ومشيخاتٍ هزيلة، وفوق هذا وذاك، تمَّ إهداء أرض فلسطين بعاصمتها المقدَّسة القُدس الشريف ومعالمها وتراثها الإسلامي والمسيحي العربي لمجموعةٍ دينيةٍ نجسة تم جمعها من أركان الأرض لزرعِها في ثرى أرض فلسطين الطاهرة، تحت شعار خبيث أن فلسطين (أرض بلا شعب ليسكن بها شعبٌ بلا أرض)، هكذا روَّج الأحبار اليهود الصهاينة للاحتلال واغتصاب الأرض وتشريد ما يزيد عن 7 ملايين فلسطيني منتشرين في أرجاء الكرة الأرضية، أي أنك لن تجد بلداً في العالم أجمع إلاّ وفيه فلسطينيون لاجئون ومشرَّدون وحياتهم المعيشية صعبة.
الفلسطينيون في الشتات وداخل الأرض الفلسطينية المحتلّة ما زالوا يعانون الأمرَّين في معيشتهم وسكنهم ومستقبلهم مع أنهم أذكى وأعظم وأكرم شعب في أمتنا العربية كلها، فهم أصحاب حق العودة وأصحاب قضية محورية، وأصحاب إنجازات على مستوى العلوم والأفكار تشهد لهم جميع الساحات الإنسانية، وهم ببساطه شديدة أينما حلَّوا ينجحون في جميع الاختصاصات، واليمنيون يعرفونهم كطلائع للتعليم كمعلمين مُنذ بدء الاستقلال والتحرّر وبناء الدولة اليمنية الوطنية، ليس هذا فحسب بل أنهم كانوا حاضرين على مستوى الوطن العربي برمته كأطباء ومهندسين واختصاصيين أكِفَّاء في جميع المهن والأعمال، وهم كذلك أساتذة فِكر وقادة مقاومة صُلبة في وجه الاحتلال.
نعم هؤلاء هم الفلسطينيون بإيجاز جَمٍّ، أكانوا في الشتات على مستوى العالم قاطبةً أَو وهم ثابتون في الأرض المحتلّة فلسطين الغالية على أحرار العالم.
تذكرت تلك الأيّام السوداء – وما أكثرها على الإنسان الفلسطيني العظيم – تذكرت في زمن الطفولة يوم النكسة الفلسطينية والعربية في 5 حزيران يونيو 1967م، حينها كنّا تلاميذَ في مدرسة قريتنا النائية (غُرير) في غيل حبان منطقة حضرموت، كنّا نجلس إلى جانب مذياع قديم لمعلمنا القدير الشاعر أحمد محمد بامعبد رحمة الله عليه، كُنّا نستمع إلى إذاعة صوت العرب من القاهرة وإذاعة الـ BBC بالعربية، وهي تنقل لنا أخبار الكارثة العُظمى التي حلَّت بفلسطين وشعبنا الفلسطيني الذي تعرض لإبادة وتهجير من قِبَل عصابات الهاجاناه وعفوداه الصهيونية التي مارست أبشع أنواع التقتيل والتعذيب والتهجير القسري لأهلنا في فلسطين، هذه الواقعة حدثت في جيلنا وكُنَّا شهوداً أحياء على ذلك الظلم الذي أحاق بالفلسطيني، أي أن الحدث ما زال طرياً في ذاكرة الأُمَّــة من المحيط إلى الخليج.
سيقول المنهزمون أخلاقياً ونفسياً إننا ما زلنا نتحدث ونكتب بلغةٍ خشبيةٍ قديمةٍ انتهى زمانها وإننا ما زلنا مسكونين بحقد الماضي، أَو إننا تجمدنا بأفكارنا وموقفنا تجاه تلك الأحداث مُنذ ما يزيد عن خمسة عقود خلت، وإن هناك تطورات ومواقف وأحداثاً لم نستطع أن نتجاوزها وأن نتفاعل معها ديناميكياً، وهذا يدُلُّ على أننا لم نفهم الواقع، عجبي من تلك الأطروحات الهزيلة وتلك الأفكار الانهزامية المريضة التي تبناها هؤلاء المُطبِّعون ولن أقول الخونة كحكم سياسي أَو أخلاقي.
انظروا وافهموا ما يقوله ويكرّره قادةُ الكيان الصهيوني اليوم وبالأمس ومن بينهم الصهيوني السفاح بنيامين نتنياهو، وبيني غانتس، وقبلهم مناحيم بيجن، ويتسحاق شامير، وأيهود باراك، وموشيه دايان، وشمعون بيريز، وإسحاق رابين وقبل الكل من هؤلاء، أول رئيس للوزراء للكيان الصهيوني المحتلّ ديفيد بن غوريون والعجوز الشمطاء جولدا مائير، ومُنظَّرهم الصهيوني الشهير تيودور هرتزل، اقرأوا ما قالوه واستمعوا إلى أحاديثهم تجاه فلسطين والفلسطينيين والأمة العربية كلها، هؤلاء لم يتغير خطابهم ولا ممارساتهم ولا عقيدتهم العنصرية ضِدَّ العرب مُنذ أن اعتنقوا الفكر الصهيوني، لكن الإشكالَ يسكن عقل بعض القادة العرب الذين دُجنوا وثُقفوا على مبدأ أن البقاءَ في سُدَّة الحُكم وتسنم السلطة لا يتم إلاّ بضمانة من بوابة الحركة الصهيونية، وهذه هي الإشكالية الأكثر تعقيداً.
أبرزُ دلالات توقيت إعلان الاتّفاق بين العدوّ الإسرائيلي ومشيخة الإمارات العربية المتحدة تتركّـزُ في الآتي:
أولاً: تشن مشيخة الإمارات العربية المتحدة عُدوانا واحتلالاً وحصاراً على اليمن مُنذ ست سنوات تقريبًا وتسبب هذا العدوان الوحشي بخسائر بشرية كبيرة تصل إلى مئات الآلاف من الشهداء والضحايا وتدمير هائل للبُنى التحتية، وتبحث المشيخة عن طوق نجاة من هذا العدوان للهروب من المسؤولية الجنائية والمحاسبة على ما اقترفته من جرائم حرب يحاسب عليها القانون الدولي، وتعتقد الإمارات بأن تطبيعَ العلاقات السياسية والدبلوماسية مع الصهاينة –وتحت مِظلة الولايات المتحدة الأمريكية– بأنها ستكون محمية من العدالة الإنسانية والدولية والسماوية.
ثانياً: أشرنا في أكثرَ من مقالة سابقة بأن مشيخة الإمارات تقع ضمن المشروع الغربي الأمريكي الصهيوني في منطقة الشرق الأوسط وهي بذلك تقع ضمن نطاق ذلك المدار الذي لا تستطيع الخروج عنه أَو التنصل من التزاماته تجاه هذا المشروع الجيوستراتيجي.
ثالثاً: مشيخة الإمارات صُممت كمشروع دولة ضمن الفكرة الاستعمارية البريطانية التي تعاني من أزمة هُـوية وطنية، فهي حديثة التأسيس (1971م)، وتقع ضمن نطاق الجغرافيا العُمانية وكانت تسمى حتى وقتٍ قريب بساحل عُمان الشمالي، والمخطّط البريطاني يوظف هذا المُعطى الجغرافي والهُـوية الوطنية لأهدافه الاستراتيجية.
رابعاً: مشيخة الإمارات تتصارع بعداوةٍ وشراسة مع إمارة قطر حول النفوذ السياسي والاقتصادي في المنطقة وتعاني من تأثير سياسة الكتل المحورية الإقليمية خوفاً على مستقبلها من الانصهار ضمن أي مشروع مقبل للمنطقة؟، وتعتقد أن الحامي لها هو الكيان الصهيوني.
خامساً: دولة الكيان الصهيوني هي الأُخرى تعيش حالة من الاضطراب الداخلي وحتى التهديد الخارجي من المقاومة اللبنانية والمقاومة في غزه والضفة الغربية، وهناك اتّهام صريح لها من قِبَل عدد من الأحزاب والشخصيات السياسية اللبنانية والأجنبية بأن لها يداً في انفجار وكارثة مرفأ بيروت، وازداد ذلك الاتّهام حينما بدأت تتكشف العديد من الأدلة تجاه ضلوع العدوّ الإسرائيلي في تلك الجريمة المروعة التي قضى من جرائها 200 شهيد وأكثر من 5500 جريح وجرى تدمير نصف بيروت، والإعلان عن صفقة التطبيع قد يحرف اتّجاه الأخبار عن مسارها.
سادساً: تحدثت العديد من المصادر الإعلامية حول هذا الاتّفاق بين الإمارات والعدوّ المحتلّ بأنه قد أنجز مُنذ عامٍ ونيف، وتمَّ التريث لعدم نجاح الانتخابات المتتالية في كيان العدوّ وعدم تشكيل حكومة طيلة الأشهر الماضية؛ ولأَنَّ شريك الشيخ محمد بن زايد آل نهيان في التوقيع على الاتّفاق، يقع هو الآخر تحت الضغط الشعبي والقانوني الإسرائيلي بمحاكمته بتهمة الفساد واستغلال المنصب والخيانة وغيرها من الاتّهامات، جاء الاتّفاقُ ليساعدَه في التخفيف من المحنة الداخلية التي يعيشها السيد بنيامين نتنياهو.
سابعاً: يعيش الرئيس دونالد ترامب فترة حرجة في مسيرة الدعاية الانتخابية في الداخل الأمريكي، إذ تُشير استطلاعات الرأي الشعبيّة تجاه انتخابه بأنها غير مُشجعة وغير مُطمئنة؛ بسَببِ المنافسة الحادة من قبل خصمه الديمقراطي اللدود السيد جو بايدن؛ وبسبَبِ إخفاقه في السياسات الصحية تجاه جائحة كورونا، وتجاه التعامل الفظ مع المحتجين في المجتمع الأمريكي الذي انتفض ضد السياسات العنصرية الخفية التي يقع تأثيرها السيئ على المواطن الأمريكي من أصول أفريقية، وبالتالي هو يحتاج إلى الدعم المعنوي من قبل الناخب الأمريكي واللوبي اليهودي تحديداً.
الخلاصة: إن الحقوقَ الإنسانيةَ والقانونية والأخلاقية التاريخية للشعب الفلسطيني في أرضه ووطنه لا يُمكن أن يعيدها مثل هكذا اتّفاق سخيف بين كيان عربي متورط أصلاً في دماء الشعوب العربية من العراق وسوريا ولبنان وفلسطين وليبيا والجزائر وتونس واليمن، وربما شعوب عربية أُخرى ستضاف إلى أجندة شيوخ الخليج العدوانية، واتّفاقه مع كيان صهيوني إسرائيلي، عنصر محتلّ لأرض فلسطين التاريخية، هذا الاتّفاق بينهم ينطبق عليه المَثَل الشعبي اليمني (بردان سقط على عريان)، أي أنه اتّفاق لن يحميَ لا الإمارات ولا الكيان الصهيوني من غضب وانتقام الأحرار، ولن يحرّر الأرض الفلسطينية المُغتصبة سوى سماع أزيزِ الرصاص الآتي من فوهة البندقية المقاومة الحُرة، واللّه أعلمُ مِنّا جميعاً.
* رئيس الوزراء