الطغيانُ القديمُ المتجدد
موقع أنصار الله || مقالات || د. فاطمة بخيت
كان الدينُ أكبرَ هَــمِّهم، سخروا كُـلَّ حياتهم لأجله، سعوا بكل طاقاتهم وإمْكَاناتهم لخدمته وإعلاء رايته، وعندما عم الفساد وأحسوا بالخطر المحدق به، هبوا لمواجهة أعدائه، واسترخصوا الأرواح وكل ما يملكون لحمايته؛ لأَنَّهم يدركون جيِّدًا أنّ ذلك الاصطفاء من قِبل المولى عز وجل يقابله مسؤولية حمل هذا الدين والحفاظ عليه صافياً نقياً كما أنزل على جدهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
عندما نبحث في أخبار العترة الطاهرة نجده مليئاً بالدروس والعبر لما قدموه من تضحيات في سبيل نصرة هذا الدين، ويجعلنا على يقين بأننا بحاجة ماسّة لإحياء ذكرى من كانوا مدرسة تتعلم فيها الأجيال المعنى الحقيقي للجود البشري على هذه الأرض وأهميّة الحفاظ على هذا الدين؛ لأَنَّ فيه تكمن الحياة الحقيقية والسعادة الأبدية.
حليف القرآن، وما أجملَه من اسم، هو من نحيي ذكرى استشهاده هذه الأيّام، وهذه التسمية تحمل دلالة عميقة، وانعكاس لشخصية من جسدوا القرآن قولاً وعملاً، ولم تكن حركته تلك إلا امتداداً للمشروع الإلهي الذي حمله آباؤه الإمام زين العابدين والإمام الحسين والإمام الحسن والإمام علي، وُصُـولاً إلى جده رسول الله صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.
ولكن؛ لأَنَّ الباطل دائماً يضيق ذرعاً بوجود من يدعو الناس إلى الله وَإلى منهجه القويم وصراطه المستقيم، فقد خاض الإمام زيد عليه السلام غمار المواجهات مع أعداء الدين، من اتخذوا (دين الله دغلاً وعباده خولاً وماله دولاً)، كما حذر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الأُمَّــة منهم قبل رحيله.
عندما انتشر الظلم والفساد في عصر بني أمية لم يكن حليفُ القرآن ليسكُتَ على ذلك وهناك ما يحثه على القيام والثورة في وجه الظلمة والمستكبرين، فكان عليه السلام يقول: (واللهِ ما يدعني كتابُ الله أن أسكت)؛ لأَنَّ على عاتق قرناء القرآن مسؤولية الحفاظ على القرآن، والعمل بتوجيهات القرآن، ليبقى للأُمَّـة منهجاً سوياً خالياً من التحريف، بعد أن حرف تأويله لصالح أمراء السوء وحكام الضلال.
كان يتحَرّك بالقرآن في حله وترحاله، كان معلماً ومربياً لأمة جده رسول الله واستنهاضهم لمواجهة الخطر المحدق بهم. لكن ذلك التحَرّك سبب قلقاً لطاغية عصره هشام بن عبدالملك، الذي كان يُقال عنه خليفة المسلمين، بينما كان يوجد في مجلسه يهودي يسب رسولَ المسلمين، وفي دولته خيّم الفسادُ والضلال، مما يدل على الواقع المظلم الذي وصلت إليه الأُمَّــة، واقع عجز فيه الناس عن قول الحق والعمل بالحق، ومواجهة الباطل.
واقعٌ جعل ذلك الطاغية يعلن على الملأ في يوم حج وبكل جراءة: (واللهِ إن قال لي أحد اتق الله إلا ضربت عنقَه)، لكن لم يكن الإمام زيدٌ ليخيفَه ذلك، فأطلقها في وجه هشام: اتَّقِ الله يا هشام؛ لأَنَّه على يقين من وجوب مواجهة الظالمين والمستكبرين، مهما كان حجم التضحيات والمعاناة، اقتدَاء بآبائه واجداده. فكانت بداية المواجهات بينه وبينهم، على الرغم من قلة الناصر والمعين، بعد أن دُجنت الأُمَّــة للحكام الفاسدين.
ما كان من الإمام زيد -عليه السلام- إلا أن استبسل في مواجهتهم مع قلة من أصحابه بعد أن تخلى عنه الآلاف ممن بايعوه، وكان يدعوهم للتحلي بالبصيرة في قتال الظالمين، وما كان منهم أَيْـضاً إلا أن اقتدوا بقائدهم العظيم في تلك المعركة، ذلك القائد الذي أصابه سهم غادر بعد مواجهات عنيفة مع من لا يجيدون سوى لغة الغدر والخديعة لعجزهم عن مواجهة أهل الحق.
حمد الله كَثيراً أن نال وسام الشهادة العظيم، ليلقى جده رسول الله وقد أمر بالمعروف ونهى عن المنكر، قتلوه ولكنه كان يرعبُهم حتى بعد ما صلبوه على كناسة الكوفة، لما بدا على جثمانه الطاهر من كرامات، فعمدوا إلى إحراقه وذرّه في الفرات، ليفوح ماء النهر برائحة المسك مدة من الزمن لعلها توقظ تلك القلوب التي تخاذلت عن نصرة الحق، فعلوا ذلك علّهم يمحون كُـلّ أثر لحليف القرآن، لكن من نزل القرآن حفظ القرآن ومنهج قرناء القرآن في قلوب محبي القرآن ومتبعي القرآن. فبقي الإمام زيد -عليه السلام- حيًّا في قلوب شيعته ومحبيه بمنهجه وثورته وحركته وكلماته وشعاراته، وسيظل دربه دربَ الأحرار على مدى الأزمان.
وكما وجد الظلمة والمستكبرون في زمن حليف القرآن وزمن آبائه، ظهروا من بعده، وفي التاريخ الكثير من الشواهد في مواجهاتهم مع أعلام الهدى من العترة الطاهرة، سلسلة ممتدة حتى استشهاد الشهيد القائد حسين بدر الدين الحوثي ومن ثمّ مواجهاتهم مع أخيه السيد القائد عبدالملك سلام الله عليهما، وكما حارب الطغاة الدين في الماضي تحت عناوين مختلفة، ها هم اليوم يحاربونه تحت عناوين ومسميات وأشكال مختلفة، يتزعمهم الأمريكي والإسرائيلي، ويتحَرّك تحت إمرتهم العملاء والمنافقون من مختلف بلدان الأرض، وعلى رأسهم العرب المطبعون.
وستستمر المواجهات بين الحق والباطل حتى آخر أَيَّـام الدنيا.