ربيعُ اليمن: النُّخبةُ والاحتواء.. أدواتُ المبادرة لإعادة التوازن (الحلقة الثالثة)
موقع أنصار الله || مقالات ||عبدالملك العجري
إنَّ أولوياتِ الدولِ الراعيةِ للمبادرة -إنْ في مكافحة الإرهاب وأمن الممرات أَو الحفاظ على علاقات مؤثرة للسعوديّة، كما سبق في الحلقة الثانية- كانت بمثابة موجه أَسَاسي في بناء وتصميم المرحلة الانتقالية، ومن ثَم كان من بين أهم أهداف مقاربتهم لإرادَة العملية الانتقالية استمرارُ التوازنات المحلية والإقليمية، بإبقاء الحُكم وإدارة العملية الانتقالية ضمن الدوائر التقليدية المعروفة والمضمونة سلفاً وإعاقة صعود شخصيات أَو قوًى سياسيَّة وشعبيّة قد تشكّل تهديداً لهذه التوازنات، وفي الحدود القصوى أن تكونَ مشاركتُها هامشيةً وغيرَ مؤثرة حتى يتم اختبارُها ومعرفةُ مدى استعدادها لاحترام قواعد اللُّعبة السياسيَّة واستعدادها للانخراط ضمن قواعد اللعبة المحلية والتوازنات الإقليمية.
من بين المفاهيم التي كانت توجّـه سياسَة الرُّعاة الدوليين والإقليميين مفهومُ النُّخبة ورؤيته لمركز الفعل والتغيير في السلطة السياسيَّة والنخبة وأحياناً الطبقة الوسطى، وبالتالي تنزاح عن منظوره بقية القوى الشعبيّة الكتلة الأوسع اجتماعياً والمهمشة سياسيًّا واقتصاديًّا، وَيتعامى عنه رؤية الصراع في ميدانه الأعم، وهو صراع يتجاوز صراع السلطة والمعارضة التقليدية (المؤتمر- “الإصلاح” والمشترك)، ولم تلتفت إلى القضايا التي يشتد عليها الطلب الاجتماعي، وعالجت مشاكل النخبة في السلطة والمعارضة ولم تعالج مشكلة الشعب، والمفهوم الآخر مفهوم الإصلاح بصفته عملية تدخل ترميمية على النظام القديم، وأهملت تحديد أولويات اقتصادية وأمنية عاجلة تساعدُ على انتقالٍ سلسٍ؛ باعتبَار أن هذا القدرَ من الإصلاحات يمكن أن يؤمن استعادة التوازنات المحلية والإقليمية وتحقيق والاستقرار الهش.
النخب السياسيَّة؛ باعتبَارها جزءاً من بنية السلطة وتنتمي إليها عضويا فَـإنَّ من مصلحتها تضخيمَ إمْكَانية الإصلاح وتفضيلها على التغيير، سيما وأن التحاق الطرف المنشق عن النظام بالثورة هو التحاق بالتسوية السياسيَّة وليس بالثورة لتوسيع مصالحها وليس بهَدفِ التغيير السياسي الشامل، ويتشابه مع النظام لحد التطابق فـي خصائصهما الاقتصادية والسياسيَّة، وبالتالي لم توفر إمْكَانية للخروج من معادلات الحكم المحلية والسياسات الخارجية التي ترسخت منذ السبعينيات، حَيثُ أوصلت البلد إلى أزمة شاملة لا تزالُ نتائجُ تلك السياسات ومعادلاتها المعقَّدة تلقي بظِلالها على المشهد الجديد وإن كان بأشكال مختلفة.
التركيبةُ السياسيَّة التي أنتجتها المبادَرةُ كانت توليفةً شديدة التناقض تفتقر للتجانس ولا يوجد بينهما ما يجمعُها على أهداف مشتركة، أما الاجتماع على مطالب المتظاهرين بالتغيير فَـإنَّها كانت مشلولة من بدايتها، وَإسنادها لهذه النخبة المتشاكسة وحدَه كان سبباً كافياً لتعطيل بقية عناصر ومهام المرحلة الانتقالية، ولم يكن خافياً على رعاة المبادرة فَهُمْ بالأَسَاس لا يثقون بقدرة النخبة التي شكّلتها المبادرة؛ ولذا حرصوا على إبقاء هذه النخب وَالأزمة اليمنية برمتها قيد النظر الدولي كما سبق، واعتمدت إدارةُ العملية الانتقالية بدرجة رئيسة على الخارج؛ لذا من الطبيعي أن تكونَ أولوياتهم هي الحاضرة بقوة في توجيه العملية الانتقالية، كما وجدت قوى المبادَرة فرصة للتنصُّل عن مسؤوليتها وانتظار ما يقدمه لها الإقليم والمجتمع الدولي وتولد عندها اعتقادٌ مبالَغٌ فيه في قدرات المجتمع الدولي وأن الحلَّ كله بيد الخارج عُمُـومًا والسعوديّة والولايات المتحدة على نحوٍ خاصٍّ لتحقيق الاستقرار في اليمن، ولا يظهر حِسُّها الوطني إلَّا حين تشعر أن توجُّـهاتِ الرعاة الإقليميين والدوليين قد تخل بحصتها أَو تمس مصالحها، وللأسف ما زالت النخب اليمنية حتى اليوم تنتظر ما سيقدِّمُه لها الإقليمُ أَو الخارج والأمم المتحدة من حلول جاهزة وهي تكشفُ عن أزمةٍ أعمقَ للعقل السياسي اليمني، سواء نخب سياسيَّة أَو تكنوقراط أَو مجتمع مدني، العاجز عن إبداع وابتكار حلولٍ واقعية قابلة للتنفيذ ومناسِبة للبيئة اليمنية خارج الأنماط والقوالب الجاهزة التي يقدمها الغرب والأمم المتحدة.
سياسةُ الاستقواء بالخارج التي تطبعت عليها النخبُ السياسيَّة اليمنية منذ الستينيات والتسابق على الخارج عند كُـلّ محطة أَو أزمة سواء السلطة والمعارضة كانت نتائجُها تدميريةً على البلد والدولة.
قبل وأثناء أزمة 2011 كان النظام يستقوى على المعارضة بمزيد من التقرُّب إلى الولايات المتحدة باسم مكافحة الإرهاب، والمعارضة كانت تحاول أن تدفع النظام للاصطدام بالخارج، وكل طرف يحاول أن يقدم نفسه الحليفَ الأكثرَ ثقةً وإخلاصاً سواء للولايات المتحدة أَو السعوديّة، وَينتهز أية فرصة لإقناعهم بالتهديد الذي يشكّله الطرف الآخر على مصالحهم، صالح يحرّض الخارج على “الإصلاح” ومحسن بتهمة الإرهاب، والمشترك يتهم صالح بأنه ليس شريكاً صالحاً في محاربة الإرهاب، وبدلاً عن أن تتحمل المعارضة مسؤوليتَها الوطنية في مواجهة فساد النظام كانت تحاول أن تفوض المهمة للخارج وتجعله في مواجهة الخارج والعكس، هذه السياسة في حقيقتها السافرة كانت بمثابة تفويض من هذه النخب للخارج الدولي والإقليمي للقيام بمهمات الدولة والسلطة والمعارضة مع بعضها، تفويضُه بمحاربة الإرهاب وبحل مشاكل الحريات وحقوق الإنسان والمشاكل الاقتصادية ومشاكل الأحزاب فيما بينها وبمشكلة الجنوب ومشكلة صعدة ومشكلة الحوثيين وُصُـولاً للحرب العدوانية في 2015م، والذي يحصل في كُـلّ هذه المحطات أن الخارجَ كان يأتي ويحشر الدولة والنخب السياسيَّة في زاوية ثم يصرخون بأن الخارج خيّب ظنهم الحسن فيه، وكأن الخارجَ فاعلُ خير يتطوع بتحمل المتاعب ليبنيَ دولتهم المنشودة وبعد أن ينهي مهمته يسلّمها على صحائف من فضة ثم يجمع حقائبه ويغادر لا يريد جزاء ولا شكوراً. ويوزعون مهام الدولة على الأطراف الخارجية، الولايات المتحدة تتطوع لبناء الدولة المدنية الديمقراطية، صندوق النقد والبنك الدوليان يهندسان لهم تنمية اقتصادية شاملة، وَالسعوديّة تعيد لهم الشرعية وتخلِّصُهم من مشاكلهم السياسيَّة والعائلية، وَآخر ينتظرُ الدولةَ الموعودةَ من الإمارات.
أما النسبة لتعامل رعاة المبادرة مع القوى الشعبيّة والثورية الصاعدة كأنصار الله وبعض فصائل الحراك الجنوبي فقد اتسم بالحذر الشديد، والمجتمع الدولي بصفة عامة لا يرغب بالتعامل مع قوى لا يملك اليقين من مسارها السياسي وَخط تحالفاتها الاستراتيجية، والتزامها قواعدَ اللعبة الديمقراطية والمعايير اللبرالية السائدة والإصلاحات المشروطة، لكنه في ذات الوقت مضطرٌّ للتعامل معها، سيما القوى ذات الشعبيّة الواسعة التي يصعُبُ تحقيقُ الاستقرار بدونها أَو التي تفرض سيطرتها على أجزاء معينة من إقليم الدولة، واحتمال وصولها للسلطة، لذلك حرص الرعاةُ على إبقاء أنصار الله وفصائل الحراك والقوى الثورية خارج المبادرة وعدم تمكينهم من أية شراكة في السلطة، والاكتفاء بإشراكهم في حدود معينة ضمن مؤتمر الحوار لاختبار مدى استعدادهم الانخراطَ فيما قبل السابقون الانخراطَ فيه.
لم يتخذ رعاةُ المبادرة أيَّة خطوة أَو تدابير حقيقية لإنهاء الانقسام ومعالجة أهم أزمتين في الشمال والجنوب وإعادة الأقاليم والمناطق الخارجة عن سلطة صنعاء وغيرها من الخطوات التي تطمئن أنصار الله وتساعدُ في إعادة هذه المناطق لسلطة صنعاء وإدماج أنصار الله في الحياة السياسيَّة، ومن ذلك استيعاب بعض قياداتهم في مؤسّستي الأمن والجيش وإعادة توزيعهم في مناطقهم وتعيين بعض مدراء المديرات والتسريع في وتيرة إعادة الإعمار، ووضع النقاط العشر والنقاط العشرين التي أقرتها اللجنة الفنية موضعَ التنفيذ وغيرها من التدابير العملية المساعدة في تحقيق انتقالٍ أكثرَ مرونةً.
إنَّ من أهم شروط نجاح العملية الانتقالية أن تتشكَّلَ كتلةٌ متجانسةٌ تمثل أغلبية سياسيَّة واجتماعية تتفق على رؤية موحدة للإصلاح وملتزمة بتحقيق الأهداف الثورية، وهو ما افتقدته تشكيلةُ المبادرة، اليمنيون لا يرَون تغييراً في المشهد الجديد وإنما بقي الصراع منحصراً في ذات القوى القديمة وحول نفس المعادلات والصيغ، وبدا اتّفاقُ نقل السلطة وكأنه إعادةُ توزيع للحصص والمناصب على أُسُسٍ سياسيَّة بين القوى القديمة نفسها، ولذلك شكّك كثيرٌ من المراقبين أن تدعمَ الجهات الراعية لاتّفاقية ظهورِ دولة ديمقراطية حقيقية تركّز على تلبية الطموحات والاحتياجات الاقتصادية والاجتماعية لأغلبية المواطنين الفقراء.