تمديدُ الهُدنة في اليمن وأبعادُها الثقافية والسياسية
موقع أنصار الله ||مقالات ||د. حبيب الرميمة
البعضُ يرى أن تمديدَ الهُدنة (بعد أربعة أشهر) من المرحلتَين السابقتين والتي لم تلتزم دولُ العدوان بتنفيذ معظم شروطها، والظرف الحالي الإقليمي والدولي الذي يجعل لصنعاءَ سلطةَ القول الفصل في رفض هذه الهُدنة، وتكبيدَ دول العدوان الخسائر الفادحة، خُصُوصاً السعوديّة، سواءً من حَيثُ ضرب المنشآت الحيوية وما ينعكس من آثار وأزمات داخلية، وتزايد السخط الشعبي المتنامي داخل المملكة، أَو من حَيثُ ما سيخلق ذلك من أزمات دولية حادة في ظل ما تعانيه دول العالم من اختناق؛ نتيجة النقص في سوق الطاقة؛ بسَببِ الأزمة الأوكرانية، وهو ما يجعل صنعاء بوضع متقدم تركع الدول جميعاً للبحث عن هُدنة، حتى وإن رغبت صنعاء في تمديد الهُدنة فمن حقها أن تطالب بشروط أفضلَ إن قبلت تمديد الهُدنة، مما يجعلُ قبولَ صنعاء تمديدَ الهُدنة بشروطها السابقة مع البحث في توسيعها غيرَ مناسب ولا تتلاءم مع الواقع السياسي.
أما الاتّجاهُ الآخرُ الذي يقبلُ للهُدنة، يرى في مبرّرات الاتّجاه الأول منطقيةً وصحيحةً لكنه فقط يفارقه من خلال التسليم للقيادة الثورية والسياسية ممثلةً بحكمة وَصوابية مواقف السيد عبد الملك بدر الدين الحوثي.
بغض النظر عن الرأيين السابقين، وإن كنا نميلُ إلى الرأي الثاني، لا بُـدَّ هنا أن نشير إلى التفسير المنطقي الذي يجعلنا نميلُ إلى هذا الرأي، ونرى في تمديد الهُدنة مكاسبَ كبيرة تتجلى حسب اعتقادنا بالتالي:
أولاً: إن تمديد صنعاء للهُدنة بشروطها السابقة مع البحث في توسيعها كما عبر عن ذلك المبعوث الأممي، رغم الفرص الكبيرة التي تملكها صنعاء -حسب التفكير الظاهري للرأي الأول- يكسِبُ صنعاءَ المزيدَ من الموثوقية والاحترام داخل المجتمع الدولي ويكشفُ للجميع أن أنصارَ الله كمشروع ثقافي هو مشروعُ سلام لا حرب، ويكسر الصورة النمطية التي سعت إلى ترويجها الآلة الإعلامية للعدوان خلال سنوات العدوان، بأن حركةَ أنصار الله هي جماعة مسلحة وعدوانية لا تؤمن إلا بالسلاح، وتفرض شروطَها بقوة السلاح، وهي تشكلُ تهديداً لدول الجوار وأمنها؛ لأَنَّها لا تفهم إلا لغةَ السلاح فقط، وهي بالتالي ليست مؤهَّلةً في قيادة دولة بحجم اليمن وما تمثله من موقع استراتيجي عالمي –باعتبارها تطل على أهم مضيق دولي–، ومن ثَمَّ يجبُ على العالم أن يقلقَ من سيطرة حركة أنصار الله على اليمن، فهي جماعةٌ تؤمن بالعنف لا بالحوار والسلام وما تفرضه العلاقات الدولية والمواثيق الدولية من مبادئ وأحكام تسير عليها الدول، كُـلُّ ذلك يجعلُ من الرسالة التي تُرسِلُها صنعاءُ -المثخنةُ بجراح العدوان منذ ثمان سنوات- محلَّ مراجعة للصورة الزائفة التي أرادت دول العدوان تجسيدَها كصورة نمطية عن حركة أنصار الله، ليكتشفَ العالَمُ حقيقةَ وجوهرَ حركة أنصار الله كحركة حضارية يعول عليها أن تسهم في مسيرة بناء السلام العالمي.
ثانياً: رسالة واضحة للعالم أجمع أن الشعب اليمني في موقف المدافع عن حقه الطبيعي في ردع أي اعتداء، وهذا الحق الطبيعي مكفول لكل البشر أفراداً وجماعات ودولاً، وأن هذا الشعب كان وَمنذ اليوم الأول لشن العدوان عليه يمارس حقه الطبيعي في الدفاع عن نفسه ومستعداً لتقديم التضحيات بعزيمة وصبر وثبات لمواجهة أي عدوان، في المقابل يكشف مدى عدوانية تحالف العدوان وعدم احترامها للمواثيق الدولية التي تكرس مبدأ عدم استخدام القوة في العلاقات الدولية، وأن النزعة العدوانية في سلوك تلك الدول تمثل انتهاكاً خطيراً بالتزاماتها الدولية. وما فرضته من أعمالٍ عدائية خلال السنوات السابقة يمثل انتهاكاً خطيراً للقانون الدولي، بشنها عدواناً على دولة مستقلة وذات سيادة وعضوٍ في الأمم المتحدة دون أي إذن أممي صادر ابتداءً عن مجلس الأمن المخول أَسَاساً حسب بنود الميثاق باستخدام القوة -وفقاً لما يمليه مبدأ التضامن الدولي– وذلك في حالة اعتداء دولة على دولة أُخرى؛ باعتبَار أن الأمن الجماعي الدولي كُـلٌّ لا يتجزأ.
ثالثاً: إن إصرارَ تحالف العدوان في عدمِ تقديمِ التنازلات -بتصحيح الوضع الطبيعي– وذلك من خلال العودةِ إلى احترام القانون الدولي وإنهاء الحصار والاحتلال غير الشرعيين، وقُبول اليمن للهُدنة المتضمنة أبسط حقوقها، يُلقِي على المجتمع الدولي المزيدَ من الألم النفسي في مواقفه المتخاذلة تجاه الشعب اليمني، كشركاء –ولو بالصمت- عن الانتهاكات الخطيرة التي يرتكبها تحالف دول العدوان، وإن اليمن –قيادةً وشعباً- يمد يده للسلام، ومن حقه العيش كما بقية شعوب العالم في دولة تنعم بالأمن والاستقرار والسيادة والاستقلال.
رابعاً: وهو الأهم، ثُبُوتُ الموقفِ المبدئي لحركة أنصار الله المنطلق من الثقافة القرآنية كمشروعٍ ونموذجٍ عملي لنظرة الإسلام للحرب؛ باعتبَار أن الحرب في الإسلام هي دفاعية فقط، وإن قواعد الإسلام تحرّم الحربَ العدوانية.
بمعنى أن الأصلَ في الإسلام هو تحريمُ العدوان، فالمؤمنُ (فرداً أَو جماعة أَو دولة) في أصله لا يجوز أن يكون معتدياً، وإنما فقط في موقف الدفاع، فَـإنَّ جنح المعتدي للسلم فلا بد أن يجنح، مهما كانت الفُرَصُ كبيرةً للظفر بالعدوِّ وتحقيق مكاسبَ سياسية، والالتزامُ بهذا الأمر أمرٌ تعبديٌّ تترتب عليه آثارٌ كثيرة، وهي فلسفةٌ عظيمةٌ تُظهِرُ مبادئَ الإسلام كدين سلام عالمي فاق كُـلَّ الفلسفات الحديثة والقواعد الأممية التي يتغنَّى (العالَمُ المتحضِّر) أنه كرّسها منذ قرنٍ من الزمن كقواعدَ عالمية من خلال ميثاق الأمم المتحدة، وهو ما يبشّر عمليًّا بثقافة قرآنية جديدة افتقدتها الإنسانيةُ للخروج من أزماتها التي فشلت الفلسفة الرأسمالية والوضعية في تحقيقه بل كانت سبباً في زيادة معاناته.