هل نطمح في عدالة انتقالية على مستوى الأمة؟
موقع أنصار الله ||مقالات ||عبد العزيز البغدادي
أعتقد أن جوهر الخلاف الأساس بين المختلفين من أمة المسلمين منذ أكثر من ألف وأربعمائة عام ما زالت تدور رحاه حول من يتولى أمرهم بعد محمد صلى الله عليه وآله وسلم هل من قريش أم من بطن من بطونها وهي أطول مدة خلاف على الحكم في التاريخ الذي ما تزال حباله تمتد وتمتد إلى حيث لا يعلم إلا الله والراسخون في الحكم وما زال اليمنيون وهم أصل الأصول كما يقول النسابون أو بعضهم ما زالوا على الهامش منذ ذلك الحين يتسولون أن يكونوا للحكام المحكومين أتباعا شعارهم حسب البردوني :
(ألا يا سيد الأذناب إنَّا خير أذنابك)
هذا الجوهر للخلاف لا بد من الاعتراف بأن دلالته أياً كانت أسانيد المختلفين يسيء للإسلام أيما إساءة لأنهم يصورونه على أنه دين عنصري والاختلاف بين الطرفين إنما هو في الدرجة فقط ، وهو ما يؤدي إلى الضرب عرض الحائط باجتهادات الفقهاء والفلاسفة الذين حاولوا وما زالوا يحاولون إثبات أن الإسلام دين عالمي الغاية والهدف : (وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين) صدق الله العظيم ، وكل رسالة أو دعوة تنطلق من منطلق محلي وقومي مهما بلغت سعة انتشارها بعد ذلك وسواء كان الانتشار بالقوة والعنف أو بالدعوة إلى الله بالحكمة والموعظة والجدال بالتي هي أحسن ، أو بالتبشير عن طريق أي خدمة ذات طابع إنساني ، ووقائع التاريخ تشير إلى أن الاتساع والضيق والتمدد والانكماش لأي دعوة أو دين أو نظرية تحكمها ظروف موضوعية ، وأكثر الأفكار والأديان والنظريات انتشاراً وقابلية للبقاء والاستمرارية إنما تقوم على الصدق في التعامل والاقتناع بالحجة وتقدير المصلحة ، وترسم ملامح هذه الديمومة والاستمرارية مدى الاستجابة للتطورات والمستجدات في الواقع الاجتماعي والاقتصادي والثقافي ومستوى انتشار الوعي ، ومعلوم أن الاستخدام السياسي للدين ينتج عنه أفدح الأضرار على حياة الناس وأمنهم واستقرارهم لأنه يقوم غالبا على محاولة تحويل بعض المسائل الخلافية إلى مسلمات سواء باستخدام القوة المباشرة أو الإيحائية وكلاهما يفسد الإرادة ولا يؤدي إلى الاستقرار ، ومن أبرز المسائل الخلافية مسألة الخلافة والولاية التي اعتبرها ويعتبرها بعض الخطباء والوعاظ كل من منطلقه من المسلمات وهي في الحقيقة أكثر القضايا إثارة للخلاف والجدل بل وللصراع في تاريخ الإسلام كما أسلفنا ، ومن يحاول نفي ذلك فهو إما جاهل وهذه مصيبة أو كذاب والمصيبة أعظم : (إذا كنت لا تدري فتلك مصيبةٌ * وإن كنت تدري فالمصيبة أعظمُ) ، ألا يكفي كل هذا الصراع بين دعاة الخلافة ودعاة الولاية الممتد لأكثر من ألف وأربعمائة عام للتدليل على كونه قضية خلافية وكأن الإسلام جاء ليجعل الناس أسرى أو عبيدا وهذا الخلاف إلى الأبد ، وأي فتنة أعظم من هذه الفتنة التي يغذيها الصراع على السلطة بين المختلفين وتغذيه من عهد من أطلق عليهم بالخلفاء الراشدين ثم بين الأمويين الذين سنوا سنة التوريث بشكل واضح جلي ولم يرفض هذه السنة مَن بَعدَهم بل نقلوها من بني أمية إلى بني العباس فالصفويين ثم العثمانيين ليصل الأمر إلى ورثة شظايا الإمبراطورية العثمانية من آل سعود وآل نهيان وبقية أنظمة التشظي والارتهان الشوهاء التي نعيشها اليوم بكل خنوع وتبلد ، ولو كان بين هؤلاء من يحاول أن يجعل من الإسلام نموذجا قابلا للحياة بالفعل لا بالشعار لوجد من يقول كفى لتوارث تحكم الإنسان بأخيه الإنسان وعلى الجميع أن يتمسك بمقولة عمر رضي الله عنه : (متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً ومقولة علي رضي الله عنه : (الناس إما أخٌ لك في الدين أو نظير لك في الخلق) وهي مقولة نفاخر بأنها من أدبيات الأمم المتحدة.
إن النماذج الحاكمة لهذه الأمة نماذج مخزية ومحزنة ليس فقط على من يمارس الحكم بل وعلى الشعوب الخانعة للحكام لأن الشعوب الحية لا تقبل بأن تتحول إلى قطعان يسوقها العملاء لأي اتجاه ، هل يعقل أن تظل أمة حية تحت رحمة حكام أموات الضمير يتنازعون حول من يمتلك استعبادها باسم الله أو باسم الشيطان.
والسؤال الذي يطرح نفسه بإلحاح في ظل كل هذا الصراع الممتد لأكثر من ألف وأربعمائة عام: هل يمكن إيجاد ما يشبه العدالة الانتقالية على مستوى الأمة لإنهاء أسباب هذا الصراع الذي يمس حياة كل من يعيش على أرض العروبة والإسلام من مسلمين ومسيحيين وكل الأديان والمذاهب والأعراق للبدء بحياة جديدة تقوم على العدالة والمساواة واحترام حقوق الإنسان تكون فيها الدولة حارسا لكل الأديان والمذاهب والأفكار وليست حاكمة باسم أي دين أو مذهب لأن الحكم باسم أي دين أو مذهب طريق لضياع الدين والدنيا معا؟
إن الظروف المأساوية التي تعيشها هذه الأمة تستوجب وبإلحاح إبقاء هذا السؤال مطروحا لتبقى الإجابة عليه مفتوحة ويبقى وعينا متيقظاً في البحث عن طريق يليق بنا كبشر قبل فوات الأوان إن لم يكن قد فات.
ميراثنا الجهل كم يبقى وعدتنا * بين الأنام تخاريفٌ وأوهامُ