السياسة المعادية للطبيعة!
موقع أنصار الله ||مقالات ||عبد العزيز البغدادي
بعض المنغمسين في السياسة بما تعنيه من مؤامرات ومكرٍ وخداع، المقتاتين على الكذب والنفاق وتحشيد الهمم لممارسة فنون الموت والاقتتال المادي والمعنوي بعناوين براقة متعددة، هؤلاء المخادعون المخدوعون ينسون أو يتناسون سر العلاقة بين الخالق بكل تجلياته مع المخلوق بكل جمالياته الإبداعية والطبيعة بمفرداتها ومعانيها وقانون التوازن الذي يحكمها ويسيرها، عيونهم كليلة عن إدراك القانون الذي يحكم العلاقة بين مصالح الإنسان ومصالح غيره من البشر وبقية الكائنات، القانون الذي يمنع أو على الأقل يحد من براكين التوحش التي تتفجر هنا وهناك فتصنع الحروب والمآسي وتتفنن في تحويلها إلى مشاريع استثمارية بعناوين ظاهرها فيه الرحمة وباطنها فيه العذاب مسكونة بهم الحكم والتحكم واستعباد من يقبل الاستعباد بوعي أو بدون وعي، يشرعنه البعض فيسمون شرهم خيراً بل جهادا في سبيل الله.
بعض هؤلاء يستنكرون عليك الكتابة عن الحب ويرون أنك بذلك غارق في الرومانسية في زمن شعاره (لا صوت يعلو على صوت الكراهية والموت) وعليك أن تترك الشعب غارقا في دوامة التعصب والحروب العبثية التي تأكل شباب وطن ممزق يبالغ في الاحتفال بالوحدة كلما مرت به ذكراها، وكأنك تشاهد سفينة النجاة، ولا مشكلة لو أن الاحتفال يأتي من باب تحدي الظروف والعمل على الخروج من هذه الدوامة، عمق المشكلة أن يتحكم فينا التناقض المزري بين أقوالنا وأفعالنا.
لهؤلاء أهدي الكلمات التالية للأديب والمفكر اللبناني ميخائيل نعيمة من كتابه البديع (سبعون -3) علهم يتذكرون أن للحياة معنى آخر غير التفنن في صناعة الموت والافتتان بنزعات التسلط واستدعائها من الكتب الصفراء وبكل الألوان والروائح التي لا يشمون مستوى عفونتها!: يقول نعيمة (من الأكيد أن البنفسجة تحيا للبنفسجة, ولكن جمالها وأريجها ليسا لها وحدها بل لي ولك ولكل من يتذوق سحر الألوان ويسكر بالأريج. ومن الأكيد أن حبة القمح عندما تنشق في ظلمة التراب عن نبتة نحيفة؛ وعندما تبرز إلى النور والهواء فتغدو سنبلة هيفاء؛ وعندما تمضي ترضع الحبوب التي فيها من عصير حياتها لا تفكر فيك وفي غيرنا من الكائنات. ولكن النظام الذي تحيا به يجعل لي ولك وللنملة والفأرة والعصفور والدجاجة والحمامة والحَجَل نصيباً كبيراً في حياتها. إنه نظام يكره الانعزال والاستئثار. فالكل في خدمة الواحد. والواحد في خدمة الكل. والذي فاته هذا الجانب من النظام فاته جوهر الحياة. والذي عاند هذا الجانب من النظام عاند القدرة الوحيدة التي في استطاعتها أن تجعل منه إنساناً حرياً بأن يسلك الطريق إلى قلب الحياة. لعلك تبصر منتهى القسوة والبشاعة في نظام يبيح جانباً من حياتك، لغيرك. ولكنك تنسى أن ذلك النظام عينه قد أباح لك حيوات كثيرات. فأنت تأكل من البقول والحبوب والفاكهة ما تشاء، وتقطف من الأزهار ما تشاء، وتذبح من الطير والحيوان ما تشاء. وأنت تبارك الحياة في ما تفعل، ولا تحسب أن في ما تفعله قساوة وبشاعة. فبأي لسان تلعنها إذا هي أباحت الشاة للذئب، والعصفور للصقر والفأر للهر، وأباحتك للذبابة والبرغشة، وللجراثيم ترعى في جسدك حياً وميتاً؟ من استباح الغير فقد أباح نفسه للغير بذلك يقضي النظام.) (*)
ولأن الإنسان لم يدرك في الغالب مستوى الوحدة بينه وبين الطبيعة كما صورتها الأبيات التي صارت بمثابة الأمثال لكثرة جريانها على الألسن تعكس هذا المعنى:
(دواؤك فيك وما تشعرُ * وداؤك منكَ فلا تُبصرُ
أتزعمُ أنك جرمٌ صغير * وفيك انطوى العالم الأكبرُ
وأنت الكتاب المبين الذي * بأحرفه يَظهر المُضمَرُ)
ولسنا هنا بصدد البحث حول صحة نسبة هذه الأبيات إلى الإمام علي كرم الله وجهه أو نفي ذلك، فما أغنانا عن البقاء حبيسي اختلاف الروايات والتعصب مع هذه الرواية أو تلك من قبل المشغولين بمتاهة الأنساب، ما يهمنا هو تأمل مستوى التسامي بالإنسان إلى المرتبة التي تجعل منه جديرا بالاستخلاف على الأرض بل على الأكوان التي وصل إليها بعلمه وعقله لا بحسبه وبنسبه وتبعده عن غرائزية التعصب، وتدنيه من رؤى العقل المستنير الذي لا يشرك مع الله إلها غيره مدركاً أن معيار التمييز بين خلقه عنده هو التقوى والعدل، وبذلك يتبين أن السياسة التي تليق بالإنسان كمخلوق يمكن تمييزه عن بقية الكائنات وهي السياسة التي تحفظ وجوده ووجود بقية الكائنات شريكته في الحياة شاء أم أبى.
شريكك في الخلق ملء الحياة * ولكنك يا صاح لا تبصرُ
(*) ميخائيل نعيمة (سبعون -3) ص (128)