“مُتَّفَقٌ عليه”

الشاعر/  بديع الزمان السلطان

 

بِيضٌ ملائكةٌ مرّوا بـغارِ “حِـرا”

لم يطرقوا البابَ كان الطَّارقُ القَدَرا

 

وكنتُ طِفلًاً سمائي سقْفُ منزلِنا

وكَعبتي وجْهُ أُمّي حيثُما نظَرا

 

مرّوا فُرادى وفي أيمانهمْ سُبَحٌ

فهدهدوني وألقَوا في فَمي سُوَرا

 

وعلّموني مِن الأسماءِ أجملَها

وألهَموني من الأسرارِ ما سُتِرا

 

وحدّثَوني عن الصّحراءِ، عن مطَرٍ

في الغَيبِ أضْفى عليها الظِّلَّ والثّمرا

 

عن ليلةٍ وضعَتْ في حِجْرِها قمراً

عن “مكّةٍ” وهيَ تقفو خلفَهُ الأثرا…

 

وعن يتيمٍ بَراهُ اليُتْمُ وقّرَهُ

فصارَ يُدعى أبا الأيتامِ والفُقَرا

 

وعن صَبيٍّ تندَّى من أصابعهِ

ماءُ الحياةِ فأحيا كلَّ مَن كَفرا

 

وعن نبيٍّ يُناجي اللهَ مُنكسرًا

مُطارَدًا: “لا تُعَذِّبْ مِنْهُمُ بَشرا

 

إنْ لم يكُنْ بكَ يا مولايَ مِن غَضَبٍ

فلا أُبالي بمَن آذى ومَن سَخِرا”

 

إذْ حلَّ كالغَيمِ والأرواحُ ذابلةٌ

فعانقَ الظَّمأَ الإنسانَ وانهمرا

 

وأخرجَ الأرضَ مِن سردابِها ومضى

بها إلى اللهِ، ما مالتْ وما عَثَرا

 

وأيقظَ الفجرَ في أصلابِ أُمَّتهِ

حتَّى تناسَلَ منها النُّورُ وانتشرا

 

ما كان “فظّاً غليظَ القلبِ” كان هُدىً

ورحمةً، مُستقيمًا مثلَما أُمِرا

 

بكيتُ لمَّا تجلَّتْ لي ملامِحُهُ

والدَّمعُ يغسِلُ عن عَينِيْ العَمى فأرى…

 

أرى نبيّاً بأقصى الليلِ مُبتهِلاً

مُستغفِرًا عن ذنوبِ الخَلْقِ مُعتذِرا

 

غارًا بعيدًا يُرَبِّي فيه دمعتَهُ

نَهْرًا من الضَّوْءِ أرخى جفنَهُ فَجَرى

 

بيتًا بسيطًا تراءَى من نوافذِهِ

مُسَبِّحًا في زواياهُ ومُدَّكِرا

 

مُزَمَّلَاً، كيف أمسَى يا “خديجتَهُ”؟

وكيف أوحَى إليهِ ربُّهُ فقرا…؟

 

مُحاصَرًا تركضُ الآمالُ في دمِهِ

وتستحيلُ حُقولًاً حولَهُ وقُرَى

 

مُهاجِرًا تركَ الدُّنيا وزينتَها

وعاشَ عَبْدًا شكورًا رابِطًا حَجرا

 

مُسافِرِينَ أناخوا عند روضتهِ

وخلَّفوني على آثارِهمْ عُمُرا

 

أسيرُ والشّوقُ محمولٌ على كَتِفي

أُكابِدُ الخوفَ والأحزانَ والخَطَرا

 

ماذا أقولُ؟! فَمي نايٌ بلا لُغَةٍ

تسرَّبَ الحُزْنُ في ثُقْبَيْهِ فانكَسَرا

 

والشِّعرُ مثلُ غَزالٍ في مُخيّلتي

إذا مددتُ يَراعي نحوهُ نَفَرا

 

لِذا وقفتُ أمامَ البابِ مُنتحِبًا

لعلَّهُ لو رآني باكيًا عَذَرا

 

لا عُذْرَ لي غيرُ أسفاري إليهِ بلا

زادٍ، وهمسُ صلاتي كُلَّما ذُكِرا

 

وكلَّما مرَّ “حرفُ الميمِ” في شفتي

تزاحمَ الدَّمعُ في عينيَّ وانحدرا

 

فهل سينظرُ في وَجْهي الغريبِ إذا

نادى المُنادي، وكُنَّا خلفَهُ زُمَرا؟!

 

صلَّى عليهِ الذي أهداهُ معرفةً

للعالمينَ فغابَ الجهلُ مُذ حضرا

 

 

قد يعجبك ايضا