الدفاعُ عن النفس.. بين المنظور الإنساني والأمريكي
موقع أنصار الله ||مقالات || منصور البكالي
القضيةُ الفلسطينية وجرائمُ الإبادة الجماعية في قطاع غزة، تعرّي حقيقةَ الدفاع عن النفس، وتفضحُ القوانينَ والمعاهدات والمواثيق الإنسانية والدولية في ظل الهيمنة الأمريكية على الأمم المتحدة ومجلس الأمن ومحكمة الجنايات الدولية، والقانون الدولي العام.
وَإذَا كان الدفاعُ عن النفس -وفق المنظور الإنساني في القانون الدولي العام، والعلاقات الدولية- إجراءً وقائياً، يهدفُ لحفظ حرية وسيادة واستقلال وكرامة ومقدَّرات وهُــوِيَّات الشعوب والدول، وشؤونها الداخلية، من أي غزو أَو احتلال أَو تدخُّلٍ خارجي، فماذا نسمِّي جرائم كيان الاحتلال الصهيوني بحق الشعب الفلسطيني، وعدوانه على قطاع غزة، واحتلاله لأرض ليست بأرضه وتهجيره وقتله للفلسطينيين منذ 7 عقود؟ ومن يحقُّ له الحديث عن الدفاع عن النفس؟ هل الغازي الغريبُ أم المقاوم والمناضل على حقه وأرضه وعرضه ومقدساته، وهُــوِيَّته، ومقدرات شعبه، وموقعه على الجغرافيا؟
ومتى يكون استخدامُ حق الدفاع عن النفس، مبرِّراً قانونياً وإنسانياً وأخلاقياً، وهدفاً سامياً لسلامة واستقرار الشعب المعتدى عليه بشكل خاص، وسلامة واستقرار المجتمع البشري بشكل عام؟ ومتى يستوجب الوضع اللجوء لاستخدام القوة العسكرية، بمختلف خياراتها لمواجهة استراتيجيات وخطط العدوّ الغاصب وإفشال أهدافه وأطماعه الرامية لمصادرة حق شعب من الشعوب، وقتله وتشريده وتهجيره نحو شعوب أُخرى، كما هو حاصل اليوم بحق الشعب الفلسطيني؟
وفقاً لقانون شن الحروب في المادة 51 من القانون الدولي توجدُ حالتان تشرّعُ لأية دولة اللجوءَ إلى استخدام القوة المسلحة ضد دولة أُخرى أَو أي كيان لقيط صنعته السياساتُ الاستعمارية القديمة، منها حالة الدفاع عن وحدتها الإقليمية واستقلالها السياسي، وفي حالة الدفاع عن النفس ضد هجوم مسلح يحاول احتلالها وإقلاق الأمن والسكينة فيها وقتل وتشريد سكانها ومصادرة مقدراتهم ونهب ثرواتهم، من قبل دولة أَو كيان أَو تحالفات أَو جماعات من خارجها.
وأمامَ حالة كهذه، القانونُ الدولي في حَــدِّ ذاته، لم يعد في مأمن من الاختراق الأمريكي الصهيوني، بل زُرع في جسده قواعدُ جديدةٌ تمنح أمريكا ضوءاً أخضرَ في مهاجمة أية دولة، ترفض وصايتها وهيمنتها؛ تحت ذريعة أنها تشكل تهديداً عليها وعلى مصالحها وتحالفاتها في المستقبل، كالقرار 1368 لمجلس الأمن، الذي يبيح لها فقط استخدامَ القوة ضد ما تسميه بالإرهاب، ووفق ما يحلو لها ولمصالحها، وأطماعها، ليتم اعتبارُ أي عدوان واحتلال أمريكي أَو إسرائيلي ضد أية دولة وبحق أي شعب في العالم، شكلاً من أشكال حق الدفاع عن النفس، ليصبح كُلٌّ من الكيان الإسرائيلي وواشنطن يستخدمون تعابير “الإرهاب” و”المخربين” و”القرصنة”؛ لتبرير حروبهم العدوانية ومشاريعهم الاستعمارية التوسعية!
الحالةُ الفلسطينية نموذجٌ متقدمٌ يكشفُ المستوى المروِّعَ الذي وصل إليه القانونُ الدولي الإنساني، بعد الاختراق، ليصبح معطَّلاً تماماً من مضامينه ومفاعيله وتشريعاته ونصوصه الإنسانية، ومخيباً لكل من يحتمي به، بل تحول إلى سلاحٍ فتَّاكٍ بيد أمريكا و”إسرائيل”، يسلِّطانه ضد كُـلّ من يحتكم إليه، وعلى إثره فقدت الأممُ المتحدة فاعليتَها ومهمتها، وتحول مجلس الأمن إلى مجلس حرب مهمتُه إعطاءُ الشرعية والضوء الأخضر لإشعال الحروب عبر حق نقض الفيتو.
مبدأُ الدفاع عن النفس، في المنظور الأمريكي، فتَكَ بالمنظور الإنساني، ووأده، وأفقده القُدرةَ على الحياة واتِّخاذ القرار والفاعلية والتطبيق في الواقع، بل حوّله إلى مُجَـرّد سلسلة من القوانين والمواد والنصوص الجامدة والمخدرة للضحية، كما هو حال غزة ومآسيها الدامية وجرائم الإبادة الجماعية بحق سكانها اليوم، والتي تعبّر عن هشاشة المنظومة الدولية والقانون الدولي ومؤسّساته الإنسانية والحقوقية، وشاهد حي يثبت انقلاب الصورة، في الواقع، وتزوير الحقائق والأدلة والأقوال، على مدى أكثر من 75عاماً لنشأة الكيان الصهيوني المحتلّ، ومؤشر خطير جِـدًّا، على عمق الهُوة بين معنى الدفاع عن النفس في المنظور الإنساني العادل، وحقيقته الميدانية وفق المنظور الأمريكي، والقانون الدولي المخترق، ومؤشر أكثر خطورة، يؤكّـد للعالم بأن كُـلّ من يؤمن بالقانون الدولي الإنساني وعدالته في خطر، متى ما وصل الدور إليه، ويضعنا أمام تساؤلات عن غياب فاعلية القانون الدولي الإنساني العام للدفاع عن النفس؟ والطرف المتحكم بالمشهد؟ وهل بات قتل كُـلّ الشعب الفلسطيني وتهجيره واحتلال أرضه دفاعاً عن النفس، وفق السردية الأمريكية الإسرائيلية؟!
لن تتوقفَ الرواية الزائفة، والدعاية الكاذبة المضلِّلة للدفاع عن النفس في قتل الشعب الفلسطيني فحسب، بل امتدت الدعاية الأمريكية لتوصف عدوانها على اليمن والعراق وسوريا البعيدة كُـلَّ البُعد ولآلاف الكيلومترات بالدفاع عن النفس الأمريكية والبريطانية! هل يتقبل العالم هذه الدعاية؟ وكيف سيصدقها؟ ولماذا يسعى الأمريكي لتسويقِها في هذه المرحلة؟ وما هي الأهدافُ من ورائها؟ حتماً لن يتقبلها أيُّ مواطن أمريكي أَو بريطاني وهو يسمعُ رئيسَه يكذب بعبارات لا تتقبلها مسامعُه، ومسامعُ كُـلِّ كائن حي، وتكشف حجم الأطماع الاستعمارية والتوسعية الأمريكية الإسرائيلية في المنطقة.
وانطلاقاً من معادلة الهجوم والدفاع، يتضح المعنى، وتبهت وتتبخر الدعاية ومعها حرب المصطلحات، لتثبت وتترسخ بدلاً عنها في الرأي العام الحقيقة الكاشفة للمعتدي الغريب، الذي يقتل ويهجر ويعتقل سكان الشعب الفلسطيني ويشن عدوانه عبر حلفائه على من يساندهم ويقف لنصرتهم في اليمن ولبنان والعراق، ومع هذا يدعي الدفاع عن النفس بكل وقاحة، وكأن أطفال غزة الذين يقتلون كُـلّ لحظة مع أهليهم بالسلاح الصهيوني والأمريكي والبريطاني وغيره، هم من يشنون حرباً عدوانية الآن على البيت الأبيض ولندن، وباريس! وكأن مندوب اليمن الدائم في مجلس الأمن هو من يستخدم حق النقض الفيتو ضد وقف الحرب على واشنطن وإدخَال المساعدات إلى سكان نيويورك أَو لندن المحاصرين!
أما لو عدنا لنص المادة 51 في القانون الدولي التي تجيزُ استخدام القوة العسكرية للدول في حماية سيادتها الوطنية، من المعني بالدفاع عن الشعب الفلسطيني في قطاع غزة؟ أليسوا هم أبناء فلسطين المقاومين ومن يساندهم من كُـلّ أحرار العالم المعنيين بالدفاع عن النفس وفقاً للقانون الدولي الإنساني العام؟ لماذا لم يقف من يعترفون بالقانون الدولي لنصرة الشعب الفلسطيني ومساعدته بالسلاح والمال لتحرير أرضه؟ ألم يكن هذا الأمر هو الواجب والمعقول للدفاع عن النفس؟
علاقةُ الضربات اليمنية المساندة لغزة -على الملاحة البحرية الصهيونية، والسفن الأمريكية والبريطانية- باحترام القانون الدولي الإنساني تندرج تحت حق الدفاع عن النفس، بمعاييره الإنسانية والأخلاقية، وتتجاوز كُـلّ الاعتبارات القانونية الوضعية، وتلعو عليها، فيما العدوان الأمريكي البريطاني على اليمن نتيجة للخرق الأمريكي الكبير للقانون الدولي العام، واستمرار الهيمنة المطلقة التي لا حدود ولا قوانين رادعة لحساباتها وحروبها ضد شعوب العالم.
فمن يدافع عن النفس الفلسطينية اليوم في وجه الإجرام الصهيوني الأمريكي في قطاع غزة، من يمثل الدفاع عن النفس وفق القانون الدولي الإنساني لا وفق المنظور الأمريكي الصهيوني الاستعماري، وهو من يصون القيم الإنسانية السامية، ويدافع عن النفس البشرية ومؤتمن على حماية المجتمع البشري والسلم والأمن الدوليين، سواء أكان دولًا أَو جيوشًا وتحالفات، أَو أحزاب وجماعات وحركات مقاومة، أَو إعلاميين ومثقفين وناشطين ومحامين وحقوقيين، وفق الإمْكَانيات والوسائل المتاحة والممكنة.