العبقرية القيادية المحمدية
إعداد || د.حمود عبدالله الأهنومي
هناك إجماعٌ بين المُفكِّرين والفلاسفة وخبراءِ التاريخ على أن الرسول محمدا صلى الله عليه وآله وسلم تميز وتفوق بصفاته ومؤهلاته القيادية بالشكل الذي أثار دهشة المراقبين، وقد عرف بعض المفكرين العباقرة بأنهم قادة ثقافيون لا يحدهم زمان ولا يقف أمام تأثيرهم مكان، والرسول صلى الله عليه وآله وسلم في مقدمتهم.
تتفق أدبيات الإسلام وفلسفات المفكرين والمنظِّرين على أهمية وضرورة صفات معينة في القائد الناجح والفعال، ومن تلك الصفات والمؤهلات الشعورُ بأهمية الرسالة التي يتحرّكُ القائدُ من أجلها، والثقة بالقدرة على العمل، والذهنية الفذّة والخصبة التي تزوِّد صاحبها بخياراتٍ متعددة، ومنها الشخصية القوية، والإخلاص، والنضج الواعي، والقدرة الإدارية، والطاقة والنشاط، والحزم والتضحية ومهارات الاتصال والتخاطب.
ولا شك أن رسول الله كان له منها القدح المعلى، والقلم الأعلى؛ فقد تميز محمد صلى الله عليه وآله وسلم بمؤهلات خلْقية وأخلاقية عظيمة أهّلته لأن يكون أزكى البشر عقلا وقلبا وعملا وأفضلهم نتيجة وجزاء، وهيأ الله له أن يكوِّن أمة قوية من اللا أمة، وأن يجمع شتات القبائل المتناحرة في كيان واحدٍ قضى على امبراطوريات ذلك العالم، وتحرَّكتْ ثقافتُه وحضارتُه المتنوِّعة وقوته الذاتية التي حافظت على روحِ الإسلام عبر القرون، رغم تلقِّيها ضرباتٍ خطيرة وقاتلة من سلطة الملك الغشوم التي تسلَّلَتْ إلى موقعِ السلطة فيه.
كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم النموذج الحي والواقعي لمميزات القائد الناجح والعبقري؛ حيث كان (قرآنا يتحرك) على حد قول أمير المؤمنين علي عليه السلام، وهذه بعض العناصر التي ستركز عليها مما تميّز بها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في قيادته العبقرية للأمة .
1-رؤية استراتيجية وخطط فعالة
كان صلى الله عليه وآله وسلم ينطلق في حركته النبوية الرسالية عبر رؤية استراتيجية قضت بتقسيمِ مراحلِ الدعوة في مكة إلى قسمين سرية وجهرية، ومرحلتي مكة والمدينة، والتحرك داخل الحجاز وخارجه في الجزيرة العربية، ثم التحرُّك خارجَها ومخاطبة زعماء العالم، وعملية الهجرة التي أعقبت إحداثَ عمليةِ بناء الأمة، وكيان دولتها العادلة على الواقع العملي، ومن يتأمَّلْ حركةَ الرسول صلى الله عليه وآله وسلم المُتصاعدة يجدها حركة منطقية مترتبة تعمل على تطوير الذات، وتطوير المحيط، ومواكبة التغيرات، ويُدْرِك أن واضعَ هذه الخطة الاستراتيجية كان عبقريا فذًّا في التخطيط، وذا عقلية خصبة مكّنته من صناعة الأحداث التاريخية على النحو الذي يريده، وهذه هي البطولة التاريخية للقائد.
ما يجب أن نعرفه أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لم يتحرك عفوا وارتجالا؛ بل كل تحركاته وخطواته تَعْكِسُ تخطيطَه ورؤاه المُستمِرَّة، وكان قبل ذلك يجمع المعلومات، ويبحث عن المكان والزمان، والعنصر البشري وثقافته وطبيعة تحركاته؛ لكي تأتي خططُه منسجمة مع ما يريده، ومراعية لهذه المعلومات والإمكانات، فحين أرسل المسلمين إلى الحبشة كان يعلم أن هناك مَلِكًا لا يُظْلَم عنده أحد، وحين قرَّر الهجرة من مكة إلى المدينة كان قد أعد مخطَّطا كاملا لها، بما فيه الطريق التي سلكها، وقد رأى أن البيئة المدنية أصبحت مواتية لخططه، ومكانا طبيعيا لها، وحين كان يرسل الدعاة كان يضع لهم المخططات الفعلية التي عليهم أن يسلكوها، وهذا كان واضحا في وصيِّته لمُعاذ بن جبل حين أرسله واليا على (الجنَد) في اليمن، وكان يطلبُ منهم رفعَ التقارير عن نتائج عملهم؛ فهذا أمير المؤمنين علي عليه السلام لما وصل أيضا إلى اليمن ودعا همدان إلى الإسلام ونفذ تعليمات رسول الله فيهم، فأسلمت همدان في يوم واحد، أرسل الإمامُ علي تقريرَه عن نتائج مهمته بإسلام همدان في يوم واحد؛ الأمر الذي حدا برسول الله أن يسجد لله شكرا، ثم يقول: (السلام على همدان)، ثلاثا.
********
وفي ما يتعلق بخطط الرسول “صلوات الله عليه وآله” العسكرية فقد كان يسبق أعداءه إلى المعارك ليبحث طبوغرافيتها، ويختار المكان المناسب والجيد ويوظفه في صالح انتصار المسلمين، ويستخدم أسلوب المفاجآت لإرباك العدو، وإشغاله بنفسه، واختيار الزمان والمكان المناسب، والقيادة المناسبة؛ كما يتبين من اختياره المكان في معركة بدر، وكان يختار مكان مركز القيادة بدقة، بحيث من خلاله يتمكن من إدارة جيشه بكل يسر وسهولة، وما تجلَّى من تخطيط بديع في أُحُد وفي الأحزاب وفي كل المعارك التي قادها بنفسه أو كلف آخرين بها فهو يشير إلى حُنكته الحربية، وقدرته الهائلة على استغلال الظروف والبيئة لصالح مشروعه العادل.
لقد كان لديه رؤية استشرافية دقيقة حول الأمور ومستجداتها وتطوراتها، وكان قائدا عظيما يستحضر إمكاناته وكيفية وضعها في متناول تحرُّكه المثمر، وكيفية استخدامها بالشكل الذي يعطي النتائج الأفضل، لقد كان خبيرا بتجنيد كل قوة في يديه، قوة الرأي، وقوة اللسان، وقوة النفوذ، وقوة الحجة، وقوة الموقف، وقوة الحق.
2-صراع الأدمغة
تعدَّدتْ طبيعةُ مهمةِ الرسول الكريم القيادية، وتبدو مؤهلاته في ما يتعلق بهذا للوهلة الأولى كأنها متناقِضة؛ فهي تهدي العقول، وتهذب الطباع، وتنشر الرحمة وتبشر بها من جانب، لكنها قوية تواجه الإنسان المنحرف الذي تمرد على العقل والمنطق، وتباغت القوى التي تكيد للإسلام بكل قوة وجهوزية من جانب آخر، لقد كان الرسول عبقريا في القيادة الروحية مثلما كان عبقريا في القيادة التشريعية، والقيادة العسكرية، والقيادة الاقتصادية، والقيادة الاجتماعية، والقيادة السياسية الداخلية والخارجية، لقد كان سلطانا على العقول والقلوب مثلما كان سلطانا على الجوارح والأعمال.
في مكة يوم كان الرسول وحيدا يدعو إلى دين الله ويواجه العالم بمفرده، كان يتحرك بفعاليةٍ ناجحة وبجرأةٍ كبيرة وبتحدٍّ عظيم، وحين كانت تضع قريش كل إمكاناتها في مواجهته والضغط عليه لم يقدروا على أن ينالوا منه تنازلا واحداً عن مبادئه وأسسه، صحيح أنه كان يضحي ببعض الأهداف التكتيكية؛ لكن كان ذلك من أجل الحصول على هدف استراتيجي أكبر؛ ولهذا أعيى خصومه عن القيام بشيء يوقفه عن تحركه.
وفي غار ثور عند الهجرة كان يصارع أدمغة قريش التي أعلنت عن جائزة ثمينة لمن يقبض عليه حيا أو ميتا، وهو لا يزال في محيطها، وكان صراع الأدمغة حاضرا بقوة في كثير من محطات حركة الرسول في الصراع مع الصلف القرشي، وفي مواجهة كل أنواع القيادات والقوى العالمية التي تناصبه العداء، وكان في كل مرة يهزمهم هزيمة مؤلمة.
3-عزم الرسل
تميز الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم بصفة قيادية عظيمة هي العزيمة والثبات، كان يثبت على موقفه الحق والعادل، حيث النبوة والرسالة لا يقبل الحقُّ فيها أنصافَ الحلول، ولا شطور الأعمال، وحين تحيط به الأزمات، وتُحدِق به المؤامرات، يثبُتُ لها ثباتَ الرواسي، ويديرها إدارة حكيمة وهادئة برويةٍ وفكرٍ وتأنٍّ، لا يعجَل ولا يتأخَّر، كلُّ حركةٍ ففي وقتها، وكلُّ قرارٍ ففي حينه، ولما ضغطت قريشٌ على عمِّه وناصرِه أبي طالب عن التوقُّف عن عيبِ آلهتِهم وانتقاصِها أعلنها مدوِّية قويةً: (والله يا عم لو وضعوا الشمسَ في يميني، والقمر في يساري، على أن أترك هذا الأمر ما تركته حتى يظهره الله أو أهلَكَ دونه)، ولما تحزّب الأحزاب من اليهود والكفار وأهل الأهواء يريدون استئصالَ الإسلام في المدينة والقضاء على أهلها قابل ذلك بثباتِ موقفٍ ونفاذِ بصيرةٍ، وتحركٍ جادٍّ وهادئٍ، وكان عاقبةُ ذلك حفرَ الخندق والعملَ على تخذيل جبهة العدو وإنشاء العداوة في ما بينها، والإرادة الصلبة، والهمة العالية، والعزيمة القوية، هي الدوافع الرئيسة للعمل حتى تحقيق الأهداف، فالقائد الذي لا يملك هذه الأمور لا ولن ينجح في حياته، ولن يُحقِّق من أهدافه شيئاً.
4-القدرة على امتصاص الضربات
فكلَّما كاده الأعداءُ بشيء عظيم يريدون إسكاته، أو شل حركته من خلاله، ظهر من خلفهم منتصرا، وأظهر أنه أكثرُ جدية من ذي قبل، رجمه أهل الطائف حين دعاهم إلى دين الله حتى أدموه، فاستند إلى عرضِ حائطٍ يرد عن نفسه غائلة أحجارِ غلمانِهم وسفهائهم، ثم ناجى ربه بالمغفرة والهداية، وكأن شيئا لم يَحدُث، وحين خاض المنافقون في حديث الإفك تغلب على هذه الشائعة وانتصر عليها ليخرج منها أكثر براءة وطهارة وتألقا.
5-الصبر
وحديث الصبر طويلٌ في رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، صبر على العبادة لله، وصبر على أعباء الدعوة، وصبر على ثقلها، وصبر على مكابدة الأعداء، وصبر على انتظار النتائج حُلوِها ومُرِّها، وصبر على إيذاء الأعداء والمنافقين، وصبر على نزاعات الصحابة واختلافاتهم، وصبر على تهذيب الأعراب وتعليمهم، لقد كان واسع الصدر حليما كريما، قادرا على تحمُّل ما لا يتحمَّله غيرُه، والصبرُ صفةٌ محمودةٌ ومطلوبة وأساسية في القادة العظام، فآفة أعمالهم العجلة والخِفة والحُمق والطَّيش، لكن الصبرَ في الرسول الرحمة محمد صلى الله عليه وآله وسلم كان في مكانة عظيمة، وكان في موقع العمل، والمصابرة، وهناك محطَّاتٌ وقصصٌ تُبرْهِنُ عظيمَ صبرِه صلى الله عليه وآله وسلم وكبيرَ تحمُّلِه.
6-الشعور بالمسؤولية
لقد كان صلى الله عليه وآله وسلم يشعر بالمسؤولية العظيمة التي كلَّفه الله بها، بل كاد أن يَبْخَع نفسه أسفا أن لم يؤمن الكفار بالدين، وحرصا على هدايتهم، وسلوكهم السبيل المرضي لله، ليس هذا الشعور شعورا مترفا يمكن الاستغناء عنه، بل كان واقعيا وذا مسؤولية عظيمة، بحجم العالم والأمة كلها، وكان صلى الله عليه وآله وسلم يشعر أيضا أنه قادر على تحمُّل تلك المسؤولية، وظل يطلب من كل مكلف في أمته أن يتحمل مسؤوليته كما ينبغي، واعتبرها أمانة على الإنسان وعليه أن يقوم بها بجدارة.
7-الصادق الأمين
وقلّ أن يكونَ هناك قائدٌ في البشرية لا تضطرُّه أحوالُ أوليائه وأعدائه إلى ارتكاب الكذب، لكن النبي محمدا صلى الله عليه وآله وسلم كان وظل (الصادق الأمين) منذ صغره، وإلى بعثته، وحتى مماته، فلم يجرَّب عليه كذبة واحدة، ولم تستجب نفسه الصادقة لضرورات الحاجة إلى قولٍ مكذوب أبدا، وهنا العظمة تتجلى في أجمل عناوينها وفي أفضل صفاتها، حين يتربّع قائد على عرش أمة تصارع الأمم الأخرى، وتتناقض علاقاتها في ما بينها، ولا يُسَجِّلُ عليه التاريخُ كذبةً واحدة، بل نراه يحثُّ على الصدق ولو ظهر ضارا، ويحث على الأمانة وإنكار قول الزور، ولا يعني هذا أن يقول الإنسان الصدقَ الضارَّ من غيرِ ضرورةٍ تُلجئُه فهذا شأنٌ آخر ينتمي إلى باب الحُنكة والاستنباط.
8-متواضع
وطالما أكسب القائدَ موقعُه الأبهةَ والعظمة فتخفَّفت نفسُه من قيم التواضع والبساطة، وراق لها أن تحتجب عن البسطاء، وأن تقلل من الاختلاط بهم، لكن قائدنا محمدا صلى الله عليه وآله وسلم كان القائد العظيم الذي تهابه قاداتُ الأرض، وتخافُ منه ملوكُها وأمراؤها؛ ومع ذلك كان يقف مع المساكين، ويتفقّد الفقراء، ويعيش عيشتهم، ويأكل أكلهم، ثم يدعو الله تعالى: (اللهم أحيني مسكينا، وأمتني مسكينا، واحشرني في زمرة المساكين). لقد كان متواضعا إلى حدٍّ مثير للعجب، فحين ارتعدت امرأة وهي تكلمه هوَّن خوفها، قائلا لها: (هوِّني عليك إنما أنا ابن امرأة كانت تأكل القديد بمكة).
9-ماهر الإصغاء
وكان تواضعُه خلُقا أصيلا متمكِّنا في نفسه صلى الله عليه وآله وسلم، وكان من لوازمه مهارة الإصغاء والاستماع للآخرين، حتى ولو كان أحدهم ممن يعاديه ويُؤلِّب عليه، فهذا عتبة بن ربيعة، جاء يفاوضه، وقال له: “ما رأينا سخلة قط أشأم على قومك منك، حتى لقد طار أن في قريش ساحراً، وأن في قريش كاهناً”، فاستمع إلى عروضه، وإلى أسئلته، فلما أتم عتبة كلامه قال له: (أفرغت يا أبا الوليد)، قال: نعم، فلم يردّ على عروضِه، بل تلا عليه صدراً من سورة: (فصِّلت)؛ وهذا من باب إظهار التمسك العظيم بالموقف، بالشكل الذي يُحبِط العدو ويهزمه في دواخل نفسه.
10-قائد روحي
ولأنه القائدُ الإلهي المرسل رحمة للعالمين فلم يكن سلطانا على الدنيا، وعبقريا في الإدارة والسياسة والحرب بل كان سلطانا على العقول قبل أن يكون سلطانا بالحرب، وكان سلطانا على العاطفة والوجدان قبل أن يكون سلطانا بالقوة والمال، وكانت تأثيراته الروحية والإيمانية أقوى سبيلا وأشد وطئا من تأثيراته العسكرية أو الاقتصادية، وفي كلِّ ذلك يتحرّكُ في منظومةٍ واحدة وبخياراتٍ مُتعدِّدة، تضمنُ له تحقيقَ الأهدافِ بأيِّ خيارٍ منها، لقد كان سلطان المهابة والجلال والاحترام والكفاءة والمهابة، لقد كان سلطان الرحمة قبل أن يكون سلطان العدل؛ فلا يذهب إلى العقوبة إلا حين تنغلق أبوابُ الرحمة، وحين يكون ترك العقوبة عاملا في نفي الرحمة.
11-قائد يصنع القادة
وإذا كلّف أحدا من أصحابه لعملٍ ما فإنه يُكلِّفُه بتلك المهمة في الوقت الذي يدرِّبه بها ليكون قائدا من قادة الإسلام، فتخرّج ذلك الرعيل العظيم من القادة العظماء من أهل بيته وأصحابه، وكان يوزِّع المسئوليات والمهام في ما بينهم، فيختار بعضهم للقيادة العامة، وبعضهم للصلاة بالناس، وبعضهم للدعوة، وبعضهم للقضاء، وبعضهم للحكم والسياسة، وبعضهم لحفظ سره، ولحفظ أسماء المنافقين، وقد يكلف بعضا منهم لبعض تلك الأعمال أو كلها، هذه هي المدرسة النبوية التي تخرج منها القادة العظماء.
12-عبقريته الإدارية
تجلَّت عبقرية الرسول الأعظم ” صلى الله عليه وآله وسلم” الإدارية في إنشائه وحثه على الإدارة الفعالة التي تَعْرِف النظامَ، وتعرف التبعات، وتعرف الاختصاص بالعمل، وظلَّ يُعلّم أمته الإدارة وأهمية الانتظام تحت الرئاسة، فدعا الاثنين المسافرَين إلى تأمير أحدهما، وكان حريصا على إقرار التبعات على من فعلها، يُوضِّح المهمات، ويعطي الصلاحيات، ونجح في الإدارة العليا بتدبير الشؤون العامة لا سيما حين تصطدم بالأهواء والنزاعات الداخلية، والتي كانت قريبة عهد بالجاهلية المُثخنة بالعصبيات، والمعمَّقَة جروحُها بالثارات.
وهو في كل ذلك لا يكتفي بإدارة الشؤون والأمور، بل أيضا بإدارة المشاعر وتوجيه الشعور نحو ما يجب وما ينبغي، ومع كل ذلك كان يتحرك بالنفوس والقلوب نحو التربية المطلوبة، والغاية السامية.
13-عبقريته العسكرية
وفي قيادته العسكرية تجلت عبقريته متميزا على كثيرٍ من القادة بإصابته في وضع الخطط الناجحة، واختيار الوقت المناسب، وتسيير الجيوش، وإصابة الحساب، وكان إذا علم أن عدوا يريد مهاجمته بادر إلى القضاء على قوته تلك حتى ولو كان في حالة غير مواتية مثلما حدث في تبوك حيث كانت الإمكانات المادية للمسلمين ضعيفة جدا، وكان أعداؤهم الرومان دولة عظمى، وفي كل ذلك كان يعتمد على القوة المعنوية والدافعية الروحية أكثر من سواها، ووظفها توظيفا بالغا، وخرج الأسود من أصحابه يزأرون بسلاح اليقين، وينطلقون بعِدَّة الإيمان وذخيرة التقوى والجهاد.
وبهذا الخصوص .. في الحرب العالمية الثانية كان الجيش الإيطالي مُسلّحا تسليحا قويا، وحديثا، وكان عديدهم كثيرا، ولكنهم كانوا بلا روحية معنوية، فكانوا يُشكِّلون عِبئا على حلفائهم الألمان، وكانت جيوش الحلفاء (بريطانيا وفرنسا ومن إليهم) يعتَبِرون مواقعَ تمركز الجيش الإيطالي فارغة، ولا يعتدُّون بوجودهم، وقد كان نابليون وهو أحد أشهر القادة العسكريين في التاريخ الحديث، يرى أن القوة المعنوية بالنسبة للكثرة العددية تكون بنسبة 1 إلى 3، ولكننا وجدنا الرسول صلى الله عليه وآله وسلم كان يقاتل جيش المشركين بجيشٍ يقل عدده عن جيش المشركين بأربع مرات، وكان ينتصر عليهم، وهذا دليل على تفوق الجانب المعنوي في جيش الرسول على جيش المشركين، بل إن القرآن أوجب على المسلمين في بداية الأمر أن يصبِر كل واحد منهم لعشرة من المشركين، ثم خفف الله عنهم إلى أن يصبر كل مقاتل لاثنين من الأعداء.
ومن عبقريته أنه كان يستهدف مراكز العدو الاقتصادية التي يستمد منها قوته وبقاءه وتمويله، وهو ما يسمى الآن بقانون المصادرة في القانون الدولي، من غير أن تطال هذه المصادرة مظلوما أو مَن لا علاقة له بالحرب، وتميَّزتْ قيادتُه العسكرية بقدرته الفذة على معرفة أعداد الأعداء، ولم يحدث أن أخطأت تقديراتُه عن العدو يوما، مثلما وقع فيه قادة الحروب في العصر الحديث، وكان إذا أراد مهاجمة عدوٍّ ورّى عنه بغيره.
ومع تلك الانتصارات والقيادة الفذة له صلى الله عليه وآله وسلم فقد كان يلتزم قيم الصدق والأمانة والرحمة والمبدئية العادلة الواعية، تغلِب عليه الرسالية الرحموية على العسكرية الصارمة، ويلتزم المبادئ حتى ولو أضرَّتْ به، فقد رفض صلى الله عليه وآله وسلم أخْذَ الخُمُس من سرية عبدالله بن جحش حين هاجمت قافلةٌ لقريش في اليوم الأخير من الشهر الحرام، وكان يكتفي من الحرب بما كان ضرورةً منها، مع قلهِ هيبةٍ لها، وعدمِ اكتراثٍ من مواجهتها، فقد كان القائد الذي يَحمي أفرادَه حين يحمى الوطيس كما أخبر عنه الشجاع البطل الإمام علي عليه السلام، وهكذا “تجمعت فيه أطيب صفات الحنان وأكرم صفات البسالة والإقدام”.
14-عبقريته السياسية
لقد كان ” صلى الله عليه وآله” يُحقِّقُ الانتصارَ السياسيَّ بأقلِّ كُلفةٍ وجُهد ومالٍ؛ وذلك لمؤهِّلاته، وخِبراتِه، وحسن تخطيطه، ودقة استشرافه لتطورات الأحداث ومتغيراتها، لقد بدا لبعض الصحابة أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قد غُبِن في صلح الحديبية وأنه تنازل عن أشياء كثيرة، ولا سيما في النص القائل: (ومن عاد من محمد إلى قريش فليس عليهم أن يردوه، ومن أتى محمدا من قريش بغير إذنِ وليِّه أعاده إليهم)، وحينها عاد مفاوِضُ قريشٍ سهيل بن عمرو منتفشا بالانتصار الشكلي؛ لكنه سرعان ما اصطدم القرشيون بهذا النص الذي خلق لاعبين جُدُدًا مُتمرِّدين على هذه المعادلة التي أرادت قريش إقرارَها لصالحها، لقد استطاع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بذلك توظيف نتائج عمل هؤلاء اللاعبين الجدد لصالح انتصارٍ واقعيٍّ حقيقي.
خرج كثير من أبناء القرشيين الذين أسلموا من مكة ليُشّكِّلوا مجموعاتِ ضغط على قوافل قريش وطرقها، وظهر الرسول خلوا من أي مسؤولية عليهم، وإذا بقريشٍ تأتي لتستجديَ الرسول محمدا صلى الله عليه وآله وسلم وتطلب تنازلها عن هذا النص، وأن يضم هذه المجموعات المُتمرِّدة، وحين أدى الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابُه عُمرةَ القضاء في العام القابل، انتصروا انتصارًا سياسيًّا قويا، وأصبح المسلمون يحققون الانتصارات الاستراتيجية ليس من باب الحرب فقط، ولكن أيضا من باب السياسة والمفاوضات، فقد أصبحوا منذئذ قوة لا يستهان بها في الجزيرة العربية اضطرت للاعتراف بها قريش الجاهلية؛ وفي عمرة القضاء لما كانوا يطوفون حول البيت أوصلوا رسائل دينية وسياسية ونفسية استطاعت أن تزلزل كبرياء القرشيين ولا سيما حين كانوا يرددون: (لا إله إلا الله وحده، نصر عبده، وأعز جنده، وهزم الأحزاب وحده)؛ الأمر الذي أفسحَ المجالَ للمسلمين في التحرُّكِ جنوبَ وشمالَ الجزيرة العربية، وآتت نتائجَ سياسية ودعوية وعسكرية مهمة على أصعدة مختلفة، وأحس المستضعفون أن بإمكانهم الدخول في الإسلام بدون خوف.
إن هذه ليست سوى سطورٍ ضئيلةٍ في سِفْرِ الرسول (ص) الوضَّاء والكبيرِ والعظيم؛ وما أشد حاجة الأمة إلى اقتفاء أثره، وطرقه، ومناهجه، وأساليبه، وسيره، وسننه، فإن فيه الخير الكثير، والهدى العظيم، ليس هناك من مناص لتجاوز الجاهلية الأخرى، إلا بذات الهمة والأخلاق والقيم والمبادئ والسير والهدى الذي تحرك بها صلى الله عليه وآله وسلم للقضاء على تلك الجاهلية الأولى..
15-عبقريته العلمية والتعليمية
استطاع الرسول صلى الله عليه وآله وسلم في غضون سنوات قليلة أن ينقل العرب نقلة كبيرة في المجال العلمي في مختلف المجالات والجوانب، فبعد أن كان العرب يعيشون في جاهلية جهلاء، اشتُقَّ اسمها من الجهل بالله، وبكل ما يجب عليهم أن يعرفوه، إلى أن صاروا الأمة الأولى التي تسود العالم بالعلم، والمعرفة، وقد برزت عبقريته صلى الله عليه وآله وسلم العلمية والتعليمية في عدد من الأمور والمؤشرات:
أولا:
تحرّك صلى الله عليه وآله وسلم بالقرآن الكريم الذي هو كتاب المعرفة الكافية، والعلم الواسع، الذي يتسع لكل مجالات الحياة، والذي هو أوسع منها، وحين يصف الله القرآن الكريم بأنه (يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ) فهذا يعني أنه يهدي بنوره وبما فيه من العلوم والمعارف والمضامين العظيمة إلى التي هي أقوم في كل المجالات، التي تتطلب الهداية والمعرفة فيها.
وبما أن القرآن الكريم هو نور الله الذي يهدي به الناس إلى طريق نهضتهم وحضارتهم وسعادتهم في الدنيا والآخرة، فإنه حينما يرد فيه أمر الله لعباده المؤمنين بأن يعدوا ما يستطيعونه من قوة ومن رباط الخيل لتحصيل قوة الردع للعدو، فهذا يعني أن المسلمين مأمورون بتحصيل جميع المعارف والعلوم التي تصل بهم إلى هذه القوة، فهم بحاجة إلى القوة الاقتصادية، التي لن تحصل إلا عن طريق العلم الاقتصادي، وهم بحاجة إلى القوة العسكرية، التي لن تحصل إلا عن طريق العلم العسكري، وهم بحاجة إلى القوة الاجتماعية، التي لن تحصل إلا عن طريق العلم الاجتماعي، وهم بحاجة إلى القوة الإدارية، التي لن تحصل إلا عن طريق العلم الإداري؛ وهذا يعني التحفيز لكل مقومات وعوامل نهضة الأمة في طريق العلم النافع.
ثانيا:
كانت مهمة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم كما وردت في ثلاث آيات في سورة البقرة، الآية 129، وفي سورة آل عمران، الآية 164، وفي سورة الجمعة، الآية الثانية، هي: 1- أن يتلو على الناس آيات هذا الكتاب الكريم، 2- وأن يعلمهم الكتاب، 3- وأن يعلمهم الحكمة، 4- وأن يزكّيهم، وهذا يبين أن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم كان يمتلك عبقرية تعليمية كافية لأن تصنع العلماء، والقيادات العلمية، فتعليم الكتاب، وتعليم الحكمة، وهي وضع الأمور في نصابها، والتزكية لنفوس أبناء هذه الأمة والارتقاء بهم.
لقد جسد رسول الله هذه المهمة في أرض الواقع، وتعليم الكتاب والحكمة، يعني أن تصل الأمة إلى مستوى الحكمة المطلوب منها، ووصولها إلى هذا المستوى يعني تحصيل كل العلوم والمعارف التي تتعامل مع مظاهر هذا الكون في سبيل الوصول إلى مستوى الحكمة التي يجب أن تتمتع بها الأمة، من القوة، والعزة، والحضارة، وبالفعل فقد وضع الرسول أمته على طريق الحكمة، ووصلوا إلى المقام المطلوب، لولا ما حصل من انحرافات وإعاقات وتشويشات على هذا الوصول.
ثالثا:
في سبيل بناء قيادات علمية مبدعة وخلاقة، خلق وهيأ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من خلال القرآن الكريم بيئة شجّعت على التعلم والتعليم الخلاق والمبدع، وأشاد بالعلم باعتباره فضيلة، وصفة كمال، وأمرا مطلوبا من الله، وجزاؤه القرب منه تعالى، والفوز برضوانه، وأشاد بالعلماء، فقال صلى الله عليه وآله وسلم: (من سلك طريقا يلتمس فيه علما سهّل الله له طريقا إلى الجنة، وإن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم رضا بما يصنع)، إلى عشرات الأحاديث التي أشادت بشأن العلم والاشتغال به، والتحرك على أساسه، وقد شكلت بنية ثقافية كافية لانطلاق الأمة في هذا المضمار.
بل إن تركيز الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم على العلم أكثر من العبادة، ومن ذلك قوله: (يا أبا ذر لأن تغدو فتعلِّم آية من كتاب الله خيرٌ لك من أن تصلي مائة ركعة، ولأن تغدو فتعلّم بابا من العلم عُمل به أو لم يعمل به خير لك من أن تصلي ألف ركعة).
بل إن القرآن الكريم نفسه كان قد أقام فضيلة العلم على دعائم المجد والعزة والشأن العظيم، فقال الله تعالى: (وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ) [العنكبوت:43]، وقال تعالى: (وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ) [فاطر:28]، ومن الملاحظ أن وصف العلماء هنا جاء في سياق الحديث عن بعض مظاهر هذا الكون وما خلق الله فيه، التي تحمل العالم بها على الخشية من الله، والخوف والحذر منه، وهو أمر تؤكده الآية الأخرى وتؤكد أيضا على تميز العلماء وفضلهم عن من سواهم، قال تعالى: (أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاء اللَّيْلِ سَاجِداً وَقَائِماً يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ) [الزمر:9]. {وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّلْعَالِمِينَ }الروم22
رابعا:
بل حينما تحدث القرآن الكريم عن العلم تحدث عنه باعتباره منحة إلهية عظيمة، فهو يأمر نبيه الكريم بأن يقرأ، (اقرأ باسم ربك الذي خلق، خلق الإنسان من علق، اقرأ وربك الأكرم، الذي علم بالقلم، علم الإنسان ما لم يعلم)، (الرَّحْمَنُ {1} عَلَّمَ الْقُرْآنَ{2} خَلَقَ الْإِنسَانَ{3} عَلَّمَهُ الْبَيَانَ{4} الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ{5} وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ{6} وَالسَّمَاء رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ)، وكل هذه الإشادات والتوجيهات تخلق دافعية عظيمة نحو التعلم، وله أثر باهر في اكتساب المؤمن للعلوم، ثم أبدع الرسول صلى الله عليه وآله وسلم في كلماته عن العلم أيما إبداع، فإذا كان الحس الجاهلي مشغولا بالملذات، وإذا كانت قد صفت قريحته في وصف الخمرة، والقتال، والسيوف، والحرب، والنساء، والأطلال البالية، والفروسية، بينما تبلدت في الحديث عن العلم والمعرفة، فإن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم أتى ليصف العلم نفسه بطريقة إبداعية، تحفز كل إنسان عاقل لسلوك هذه الطريق، فيقول: (تعلموا العلم فإن تعلمه حسنة، ومدارسته تسبيح، والبحث عنه جهاد، وبذله لأهله قربة، وهو معالم الحلال والحرام، … )، بل أكثر من ذلك ما ورد في تشبيهه نفسه الشريفة بمدينة العلم، ووصف علي عليه السلام بأنه بابها، حينما قال: (أنا مدينة العلم وعلي بابها، فمن أراد العلم فليأت من الباب)، وهذا الوصف بحد ذاته وصف إبداعي، أراد أن يوصل رسالة مهمة إلى أصحابه وأمته بأهمية الالتفات إلى الإمام علي، باعتباره البوابة الوحيدة لمدينة الرسول، في وقت لم يكن العرب يعهدون مثل هذه الأوصاف الإبداعية والجميلة.
خامسا:
كان الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم قائدا إلهيا مبدعا، وخبيرا عالميا عظيما، في مجال تربية وتزكية النفوس، وتعليم الكتاب، وتعليم الحكمة، وصنع القيادات المجتمعية في مختلف المجالات، وكانت أولى مهماته صلى الله عليه وآله وسلم أن صنع العقلية العلمية الشاملة، بأن هداها إلى المنهجية العلمية التجريبية الصحيحة، التي تعتمد على الحقائق، والصدق، وعلى رفض العواطف والأهواء الشخصية في العلم، (ولا تقف ما ليس لك به علم)، ودعا إلى النظر والتأمل في الكون، والحياة، والنفس، والإنسان، ونهى عن السحر والخرافة، واستخدم أدوات التحصيل المعرفي المنهجية، وأجرى الإحصاءات العلمية، وتعامل مع الأحداث من منطلق التجربة الميدانية والملاحظة الدقيقة، وعلى ضوئها كان يخطط لأحداثه وتحركاته، وهذه هي المنهجية العلمية التي صنعت أمة سادت العالم بالعلم والمعرفة الإبداعية، لولا ما تعرضت له لاحقا من هزات عنيفة، أوقفت ذلك الزخم العلمي والإبداعي، ثم قضت عليه نهائيا، لتعود الأمة إلى ذيل الأمم كما هو حالها اليوم.
سادسا:
لم يترك النبي صلى الله عليه وآله وسلم فرصة إلا واستغلها في سبيل التحصيل العلمي، وكان يفكر كما يقال خارج الصندوق، فحين وقع أسرى المشركين في بدر بقبضة المسلمين، في وقت كان يعاني فيه أهل يثرب من انتشار الأمية، جعل فداء بعض الأسرى من فقراء المشركين أن يعلموا مجموعة من المسلمين وصبيانهم القراءة والكتابة، وهذا ليس مجرد أمنيات، بل كان واقعا رائعا، فبقدر ما عالج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حاجة أولئك الأسرى الفقراء إلى التحرر استطاع توظيف مهاراتهم واستثمارها في سبيل التعليم والعلم بطريقة إبداعية، فيها التحفيز، والدافع، والغاية، وهذا يدل على حرصه الشديد على تعليم عموم المسلمين العلم.
وقد روي أن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم قد أمر بعض أصحابه أن يتعلموا بعض اللغات الأخرى، وأنه دفع ببعضهم لتعلم اللغة السريانية، والعبرانية، وهذا أمر طبيعي وضروري، حتى يأمن غائلة الأعداء، ولا سيما اليهود، وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على الرؤية الإبداعية التي تحرك من خلالها صلى الله عليه وآله وسلم ليحدث أعظم ثورة علمية في التاريخ لو سمح لها بالاستمرار وعدم الإجهاض.
سابعا:
حين نقرأ سيرة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نجد انسجاما تاما وتناسقا عجيبا بين عجلات مسيرته وروافعها وجوانبها، فلم يستأثر برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الملف العسكري على حساب الملف الاقتصادي، ولا القضية الاجتماعية على حساب القضية الإدارية، بل كانت كل عجلات مسيرته وجوانبها تمضي بشكل متزامن مع بعضها، لتخدم القضية الأساسية وهي تحقيق عبادة الله وإقامة القسط في هذه الحياة، فبقدر ما كان يجهز الجيوش ويقودها، ويبني القادة العظماء وهذا يتطلب خبرة إدارية وتربوية وعسكرية، كان أيضا يحث على فلاحة أرض المدينة، وإحياء كل شبر فيها، وهذا يتطلب علما وخبرة ومعارف زراعية، وإدارية، حتى يتكامل الاقتصادي مع العسكري، وهكذا كان يتحرك مع السياسي، مع الاجتماعي، مع الثقافي، وكل شيء منها كان يفضي لخدمة الشيء الآخر، والتكامل معه، ولهذا تحققت معجزة التاريخ الكبرى في غضون 11 سنة غير مجرى التاريخ.
ثامنا:
ظهر علماء أفذاذ، وقادة عظماء من أصحابه وتلامذته، ويكفيه صلى الله عليه وآله وسلم أن يكون الإمام علي من تلامذته والعلماء الذين قادوا الأمة من بعده، وقد قال الله: (أفمن كان على بينة من ربه ويتلوه شاهد منه)، ومن خلال الإمام علي، الذي وصفه الرسول بأنه باب مدينة العلم، نستطيع أن نتعرف على بعض مناهج التعليم الإبداعية التي اعتمدها الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، ومنها:
-التعليم بالاتباع والقدوة والمحبة، فقد قال الإمام علي يصف طريقة تعليم الرسول له، (وضعني في حُجْره، وأنا ولدٌ، يضمّني إلى صدره، ويُكْنِفُني في فراشه، ويُمِسُّني جسده، ويُشِمّني عرفه، …، ولقد قرن اللّه به صلّى اللّه عليه و آله من لدن أن كان فطيما أعظم ملك من ملائكته، يسلك به طريق المكارم، ومحاسن أخلاق العالم، ليله و نهاره. ولقد كنت أتّبعه اتّباع الفصيل (ولد الناقة ) أثر أمّه. يرفعُ لي في كلِّ يوم من أخلاقه عَلَمًا، ويأمرني بالاقتداء به).
وهذا النوع من التعليم الذي غاب عن ساحتنا فلا يعرف الأستاذ طلابه إلا في المحاضرة، بلا اتباع ولا اقتداء، وبات كثير من الأساتذة غير مؤتمنين على أن يتبعهم تلامذتهم، لكن التعليم المبدع والخلاق لا بد أن يعتمد هذه الطريقة، التي كانت منهجية تعلم موسى مع العبد الصالح؛ إذ قال له: (هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَن تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً)، ومنهجية لقمان حين قال لولده: (وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ).
ثانيا: كان يعتمد منهجية الإخلاص والحوار والتفهم والسؤال بدافع التعرُّف العملي؛ ولهذا برّز الإمام علي على كثير من أصحاب رسول الله، وقد قال صلى الله عليه وآله وسلم: (وليس كلّ أصحاب رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم كان يسأله ويستفهمه، وكنت لا يمرّ بي من ذلك شيء إلاّ سألته عنه وحفظته).
لماذا تأخر المسلمون وانكسرت موجة الإسلام الأولى ؟ من أين جاء الخلل؟
لقد أحدث الرسول صلى الله عليه وآله وسلم زخَمًا علميا هائلا كان كفيلا بأن يسيطر المسلمون على الحياة العلمية العالمية جمعاء وفي جميع مراحل التاريخ، لكن مما يؤسف له أن ذلك الزخم سرعان ما تعرض لهزات عنيفة من الانحرافات السياسية والثقافية، وما استتبع ذلك من ارتدادات اجتماعية وأخلاقية ومفاهيم وثقافات خاطئة، جاءت في صدد التبرير لأوضاع الانحرافات التي بدأت من بعد موت الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، وعلى الرغم من أن الحضارة الإسلامية كان لها حضور قوي في القرن الرابع الهجري، وأمسكت زمام العلم في عالم ذلك الزمن، وأبدع العقل العربي الإسلامي في شتى المجالات، غير أن ذلك لم يكن لصلاح الوضع السياسي والإداري الذي يتحكم في العالم الإسلامي، بدليل أن العالم الإسلامي كان يمر بأزمات سياسية عميقة، وحروب، ونزاعات، وتناحر سياسي غير مسبوق، ولكن ذلك كان بسبب ما يحمله الإسلام من قوة ذاتية، وبذور قوة يمكنها أن تنمو حتى في جناب الشعب إذا ما تحرك في خط العلم والمعرفة، ولهذا سرعان ما انطفأت تلك الجذوة العلمية، وتبخرت تلك الحضارة العريقة.
أما اليوم فما وصلت إليه حالة المسلمين من الابتعاد عن ركب الحضارة الإنسانية، وصيرورتها في ذيل الأمم، يعود إلى وجود أسباب وعوامل متراكمة، ولعل أهمها تلك الأخطاء الثقافية التي هي أشبه ما تكون بالفيروسات الحضارية الخطيرة، علقت في وعي الأمة، وكبلت العقل الإبداعي المسلم، ومنها أن فقهاء المسلمين حصروا العلم في تعلم القضايا الفقهية من صلاة وصيام وزكاة وحج ونكاح وطلاق وبيع وشراء ومختلف أنواع المعاملات، وعزفوا عن النظر في ملكوت الله والتعامل مع مظاهره التي أمر الله بالنظر إليها، وكان يكفي المسلمين أن يتحركوا حركة واسعة ودؤوبة تحت الآية الكريمة: (َأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ اللّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمُ اللّهُ يَعْلَمُهُمْ) [الأنفال:60].
وهنا يذكر الشهيد القائد أن هناك مناهج رسَّخَتِ الاهتمام ببعض الجوانب على حساب جوانب أهم، فمثلا تركّزُ المناهج التقليدية التعليمية على قضية وجوب معرفة العبادات، بينما تترك مجالات أكثر أهمية، وإذا لم يتم لحظها ونعرف كيف يمكن أن نصل إلى أدائها، فسنفقد أيضا قيمة تلك العبادات، فالصلاة تصبح لا قيمة لها في الحياة ولا فيما بينك وبين الله، وكذلك الزكاة، والحج، إذا لم ترتبط بالمجالات الأخرى، ومنها الجهاد في سبيل الله[1].
وهنا لا بد من إدراك أهمية تعامل الإنسان مع مظاهر هذه الحياة التي استخلفه الله عليها، حين قال الله للملائكة: (إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً) [البقرة:30]، ثم قال الله لآدم المستَخْلَف في الأرض، (قَالَ يَا آدَمُ أَنبِئْهُم بِأَسْمَآئِهِمْ)، يذكر الشهيد القائد هنا أن هناك جهلا بالدور المنوط بآدم عليه السلام، وأن هذا يعني أنَّ آدمَ عليه السلام كان يعرف أسماء تلك الأشياء التي في هذا العالم المستخلف فيه، وأنه أُعْطِيَ معرفة قائمة من مظاهر هذا العالم الذي سينزل إليه، وهذا يشير إلى أنَّ استخلاف الإنسان على هذه الأرض قضية مرتبطة بمظاهر هذه الحياة، ولهذا يقول الله عز وجل: (وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِّنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لَّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) [الجاثية:13]، والسماء والأرض أشبه شيء بمنزل كبير، واستخلاف الإنسان فيهما مرتبط بمحتوياتهما، ومن خلال تعامله مع تلك المحتويات وفق هديه، وهذا يبين أن استخلاف الإنسان في هذه الحياة مرتبط بتعامله مع مظاهر هذا البناء الكبير، الأرض والسماء، وحين يظهر نمط راق من التعامل مع هذه الأشياء من قبل هذا الخليفة، فسيشهد ذلك على كمال الله ووحدانيته وألوهيته، وهذا يبين أن الإنسان قد كُلِّف فقط بنبذة من عمل الملائكة العبادي، الذي هو التسبيح والتقديس والصلاة والصيام، لكن الغاية من خلقه أن يشهد على كمال الله ووحدانيته وألوهيته من خلال تعامله الراقي والفاعل والمبدع مع مظاهر ملكوت الله الواسع[2].
ويشخّص الشهيد القائد الورطة التي ورط المسلمون أنفسهم فيها بأنها قضية ثقافية فيروسية عطلت مسيرة الحضارة العلمية لدى المسلمين قرونا من الزمن، حيث يقول: “إنه يأتي مَنْ يُقَدِّمُ الغاية من الاستخلاف بطريقة معكوسة، ويقول بأن الدور الذي يجب أن يقوم به الإنسان هو مجرد التسبيح والتقديس والصلاة والصيام فقط، وهو خلاصة ما كُلِّفَ به الملائكة[3]. وهذا ما أنتج في الواقع التعليمي رؤى ناقصة وقاصرة، نظرت إلى التعلم للعلوم التطبيقية وعلوم الحياة والطبيعة والكون برؤية قاصرة، وأنها ليست من الدين في ورد ولا صدر، وأنه لا يتعامل معها إلا الكفار، أما المسلمون فمشغولون بالعبادة والتسبيح والذكر لله وطلب العلم بحسب هذه الرؤية القاصرة”.
ويشرح الشهيد القائد أن هذا أنتج خللا في الميدان، فإذا جئْتَ لتقول لطالب العلم: هيا نجاهد في سبيل الله، فسيجيبك بأنه لا إمكانية لنا في مواجهة الأعداء، حيث ليس لدينا طائرة ولا دبابة ولا سلاح، وهو هو الذي غفل عن غاية الاستخلاف الإلهي للإنسان في هذه الأرض، فقد ترك التعامل مع مظاهر هذه الأمور من حديد وبلاستيك ومعادن وغيرها لصالح عدوه وخصمه. وذكر أن إقامةَ القرآن مرتبطة بآلياتٍ من مظاهر هذه الحياة، منها الحديد، وعندما ينصرف الإنسان عن هذه الأشياء يحصل هذا الخلل، وأضاف: “أثبت الواقع ارتباط إقامة الدين بمظاهر الحياة نفسها، فوصلنا إلى المرحلة هذه، ورأينا وبال أمرنا، أو نقول: عاقبة توجيهنا الخاطئ لانصراف الإنسان”.
ويضيف أنه: ” تجد حياة الإنسان وهو كائن مخلوق وسعة تكوينه والكيفية التي هو عليها مرتبطة بمظاهر الحياة، والدين نفسه ترتبط إقامته، وميدانه، وأخذه ورده، بهذه الحياة، وواقعها، ومظاهرها الارتباط الكامل، وفي الأخير، يأتي توجيه يفصل الإنسان عن هذا كله، وإذا بالدين لا شيء، وإذا بهذا الإنسان أصبح لا شيء، فظهرت أمة متخلفة جاهلة، تفتقر إلى كثير من مظاهر الحياة، لا توجد لها وليست متوفرة عندها، ودينها ضائع، في الأخير شغّل الأعداء مظاهر الحياة، وظهروا على الناس بباطل، وإذا الحق أضعفناه بضعفنا، أو برؤيتنا القاصرة التي لم تنطلق على أساس ولو معرفة هذه السطور حول هذه القصة لوحدها، لأن قصة آدم واستخلافه وكلام الملائكة وهذه القصة وحدها تكفي بأن تعطي رؤية تبين من خلالها أهمية دور الإنسان هنا، وأن دوره مرتبطٌ بمظاهرِ هذه الحياة”[4].
وعلى هذا الأساس يمكن القول بأنه لا غنى للأمة عن العلوم التطبيقية والتجريبية والعصرية وعلوم الكون وما أودع الله فيها من مظاهر وأسرار ونواميس ومعارف، كالفيزياء، والكيمياء، والأحياء، والهندسة, والطب، والبيطرة، وعلم الزراعة والنبات، وعلم الاقتصاد، والجيولوجيا، واستخراج المعادن، والفلك، وعلم النفس، والعلوم العسكرية، والأمنية، وعلوم الدولة، والأخلاق، والتربية، وكثير من العلوم الهامة التي باتت معرفتها ضرورة في نهضة أية أمة وفي اكتساب عزتها وقوتها ومنعتها والإعداد الذي يجب أن تقوم به لمواجهة أعدائها، وهذا هو ما سعى الرسول صلى الله عليه وآله وسلم إلى تثبيته وترسيخه في واقع الأمة ووعيها لولا بعض العوامل والأسباب والثقافات التي أعاقت ومنعت مسيرته الحضارية الإيمانية العلمية المبدعة والخلاقة، وقد آن الأوان للعودة إلى تلك الجادة العظيمة، والمسيرة الحضارية الكريمة.
____________________________________
[1] الثقافة القرآنية.
[2] سورة البقرة، الدرس الثالث من دروس رمضان، ص20- 21.
[3] سورة البقرة، الدرس الثالث من دروس رمضان، ص21.
[4] سورة البقرة، الدرس الثالث من دروس رمضان، ص22.