في مواجهة دعاة تعميم الهزيمة … منطق الانتصار يتقدّم
|| صحافة ||
مبكراً، أعلن وزير حرب العدو الجديد تحقيق “النصر” على المقاومة في لبنان، وبالتوازي بدأت جهات محلية في لبنان الترويج لـ “هزيمة” المقاومة.
استند العدو الى مجموعة “إنجازات” حققها في بداية الحرب، يقف على رأسها اغتيال الأمين العام لحزب الله ورئيس المجلس التنفيذي وعدد من القيادات العسكرية و”تدمير 80 % من ترسانته الصاروخية”. وأضافت الجهات المناوئة للمقاومة في لبنان إلى هذه الحِسبة الخسائر البشرية الكبيرة والدمار الذي لحق بالمناطق المأهولة، باعتبارهما دليلاً كافياً على وقوع الهزيمة، مما يستدعي – وفق هؤلاء- اعتراف المقاومة بالخسارة وتسليم سلاحها.
لطالما اعتبر العدو، بعد حرب 2006 خاصة، أن هناك عناصر قوة لحزب الله يمكن في حال تحييدها إيقاع هزيمة منكرة بالمقاومة في لبنان، ومن جملة هذه العناصر: التخلص من الأمين العام الذي يتمتع بكاريزما وقدرة قيادية وتعبوية من الطراز الرفيع، تدمير القدرات الصاروخية البعيدة المدى التي تهدد العمق الصهيوني في أي حرب مقبلة، قطع الصلة بين القيادة والقوات في الميدان عبر ضرب السلسلة القيادية، وإلحاق الضرر بشبكة الاتصالات الداخلية. ولم يتمكن العدو خلال حرب 2006 من ضرب هذه العناصر بالرغم مما قام به من غارات مكثفة، ولذلك اعتبر أنه أخفق في تحقيق الانتصار حينذاك.
في العدوان الجاري اليوم، أمكن للعدو بعد طول تخطيط وتربّص تسجيل مكاسب على الصعد الأربعة، وبالتالي ظنّ أن “النصر المطلق” متاح بكل المقاييس الموضوعة مسبقاً. مع هذا، لم يتمكن من التقدم والتوغل في عمق الأراضي اللبنانية لتوفير منطقة أمنية عازلة وإعادة مستوطنيه الى شمال فلسطين المحتلة، وبقي بعد أربعين يوماً على إطلاق الحرب البرية في القرى الأمامية وعند تخومها يناور تارة ويتراجع أخرى، بعدما تمكنت المقاومة من تدمير أكثر من 45 دبابة وقتل وجرح أكثر من ألف ضابط وجندي وفق اعترافه، كما واصلت إطلاق الصواريخ من النقطة صفر تقريباً على الحدود باتجاه المستوطنات، واستمر توجيه الصواريخ الطويلة المدى إلى “تل أبيب” وأبعد منها، موسّعة دائرة عدم الأمان في العمق الصهيوني. فضلاً عن ذلك، تمكنت المقاومة بسرعة قياسية من ترميم قدراتها القيادية العليا والوسطى واستعادة التواصل بين القيادة والميدان (التحكم والسيطرة).
تعميم فكرة الهزيمة
دفعت مجريات الحرب في الأيام الاولى الكثيرين ممن لا يدركون ثقافة حزب الله وقدرته على التحمل وتجاوز الصعوبات للاعتقاد بأن حزب الله انتهى وأن مقاومته للعدوان أصبحت عبثية وشكلاً من أشكال الانتحار، وتم تعميم هذه النظرة عبر وسائل إعلام ووسائل التواصل وعبر مجموعة كبيرة من المؤثرين الذين يعملون بالتوجيه عن بُعد من أجل تكريس هذا الاعتقاد وإسقاط الروح المعنوية للمقاومة والمجتمع الحاضن لها.
وتهدف هذه الحملة المنسقة إلى:
أولاً: ضرب الثقة بالمقاومة وقدرتها على الصمود، خاصة بعد الضربات الاستباقية التي تلقتها.
ثانياً: التشكيك في جدوى الصراع مع الكيان الصهيوني من أساسه، ومحاولة تسخيف فكرة الانتصار أمام عدوّ عاتٍ مثله، وبالتالي إشاعة الإحباط واليأس من فكرة المقاومة ككل.
ثالثاً: العمل لفرض مشروع الاستسلام بكل تبعاته وذيوله على لبنان والأمة. وتمثل الترتيبات الأمنية التي يطالب بها العدو مدخلاً لتغيير الواقع الإستراتيجي في لبنان والمنطقة، ولإفساح المجال أمام إعادة تركيب البلد بطريقة تناسب المشروع الأميركي- “الإسرائيلي”. ويُعدّ حزب الله هدفاً رئيساً في جهود الدعاية المعادية، ومتى ما تمت هزيمته يصبح من السهل تعميم الهزيمة، وفق هذا التصور.
رابعاً: التشكيك في القرار الوطني لقيادة المقاومة، تارة بالادعاء أن الاستمرار في القتال هو بطلب من إيران (كان هناك تركيز على قيادة الجمهورية الإسلامية والتهجّم على الإمام الخامنئي شخصياً)، وتارة أخرى أن حزب الله بات يدار بقيادة إيرانية بعد اغتيال الأمين العام السيد الشهيد حسن نصر الله. والواقع أن هذه المزاعم كانت تتردد من قبل الأبواق المعادية طوال عمر نضال حزب الله ضد الاحتلال. ويهدف تكرار الإدعاءات في هذا المجال إلى تجريد المقاومة من بُعدها الوطني ودوافعها الأصيلة.
التلاعب بمفهوم الانتصار
تحاول الدعاية المعادية تحوير مفهوم الانتصار بطريقة أو بأخرى، تمهيداً لإحداث انقلاب في الوعي العام في خضم هذه الحرب المصيرية. ومن المفيد التوقف عند نقاط أساسية في هذا المجال:
1- في غياب قيام توازن في النيران بين المقاومة والعدو المدعوم بأحدث المنتجات الحربية الأمريكية والأوروبية، لا تقاس نتائج الحرب بالخسائر البشرية والمادية، بل تقاس بتحقيق الأهداف الإستراتيجية: في 1982، وصل العدو إلى بيروت بعد تحقيق انتصار عسكري واضح على المقاومة الفلسطينية واللبنانية التي كانت تقاتل آنذاك، وألحق دماراً هائلاً بمناطق عدة في طليعتها العاصمة بيروت، وفرض على لبنان اتفاق الإذعان في 17 أيار 1983. لكن العدو لم يستطع تسييل الانتصار العسكري إلى واقع مستدام، فقد تم إرغامه من قبل المقاومة في الشهور والسنوات التالية على الانسحاب من بيروت، ثم من الجبل والطريق الساحلي، ثم من صيدا فصور والنبطية، ثم من جزين والمنطقة الحدودية المحتلة عام 2000.
ونعرف أيضاً في تاريخ الأمم الأخرى أن دولاً ابتُليت بنكبات بشرية وأضرار كبرى في بنيتها المدنية من جراء غزو خارجي، لكنها قاتلت ولم تستسلم للغازي المحتل، وتمكنت بعد سنوات من الصمود والصبر والنضال من إفشال أهداف العدوان عليها. هذا حصل مع الاتحاد السوفياتي وفرنسا في مواجهة ألمانيا خلال الحرب العالمية الثانية، وحصل مع فيتنام في مواجهة الغزو الأميركي، وحصل مع الشعبين الأفغاني والعراقي قبل عقدين من الزمن في مواجهة الغزو الأمريكي أيضاً. وبالطبع، في كل هذه الحالات كانت الكلفة عالية جداً على الصعيدين البشري والعمراني. ولو كان مقياس الهزيمة هو الخسائر، لكان على هذه البلدان أن تستستلم لإرادة الغازي ولَتغيَّرَ بالتالي مجرى التاريخ لغير مصلحتها.
2- من الواضح أن العدو لم ينجح في كسر إرادة القتال لدى المقاومة وإرادة الصمود لدى أهلها إلى اليوم، بالرغم مما أصاب المجتمع المقاوم من ضربات أليمة على مستويات عدة. وما دامت المقاومة صامدة وتقاتل وتؤلم العدو، وما دام شعبها مسانداً وواقفاً إلى جانبها، فلا يمكن الحديث عن انتصار “إسرائيلي”. نحن في صدد حرب لم تنتهِ بعد، وبالتالي لا يمكن تقييم النتائج من الآن، في وقت يبدو بوضوح أن المقاومة استعادت توازنها القيادي وقدراتها القتالية وتجرّ العدو إلى استنزاف طويل يخشاه إلى درجة الحديث عن قرب إنهاء “المناورة البرية”، بصرف النظر عن احتمال وجود خدعة عسكرية كامنة وراء ذلك. وهنا يلعب الوقت لغير مصلحة العدو، حيث تبرعُ المقاومة في استخدام عامل الزمن لإرهاقه وصولاً إلى إحباط أهدافه وهزيمة مشروعه، معتمدة على إرادة فولاذية استشهادية قدّمت أرقى النماذج في التضحية والثبات، وما زادتها الضرباتُ الموجعة التي أصابتها مؤخراً إلا شدة وبأساً وتصميماً على الانتقام من كيان الاحتلال. كما تستند المقاومة إلى معرفتها بالأرض حيث أقامت على مدى سنوات طويلة بنية تحتية يتعذر على العدو اقتلاعها، وحيث سيكون عليه أن يبحث فوق الأرض وتحتها في كل شبر وتحت كل شجرة وفي كل جبل ووادٍ.
3- لقد أكدت قيادة المقاومة دوماً أنها لا تعمل وفق منطق أنه يمكن القضاء على عدو مدعوم من القوى العظمى في جولة واحدة قاضية، بل إنها تعمل وفق إستراتيجية بعيدة المدى أثبتت على مدى عمر الصراع أنها تأتي بنتائج مثمرة. فقد استغرق تحرير الجزء الأكبر من الأراضي اللبنانية التي احتلها العدو عام 1982 نحو 18 عاماً. وبالتالي، فإن نهج المقاومة يتسم بالفهم العميق لتوازنات الصراع ومراكمة القدرات والإنجازات من دون تعجّل ولا تردّد في الوقت عينه.
4- رسّخت المقاومة من خلال حروب العدو المتتالية في 1993، 1996، 2006، و2023-2024 فهماً محدَّداً وواضحاً للنصر يقول الآتي: النصر هو أن تُفشل أهداف عدوك المعلنة وغير المعلنة. النصر هو أنه عندما تتلقى ضربات قاسية، فإنك تنهض من جديد وتقاوم ولا تستسلم. النصر هو أن تعود وأهلك إلى الديار مرفوعي الرأس، من دون أن توقّع على أية شروط تحدّ من سيادتك على هذه الأرض التي دفعتَ ثمن تحريرها غالياً. وتستند المقاومة في ذلك إلى تراث عقائدي إسلامي- كربلائي يرفض الذل والخضوع لشروط العدو.
5- يمكن أن نضيف أيضاً أن الإجرام الصهيوني الموجَّه ضد المدنيين فضح همجية العدو وحشَدَ الرأي العام العالمي ضده، وهذا مكسب هام في معركة الوعي وكشف زيف الاحتلال وادعاءاته الأخلاقية، مهما تسترت الحكومات الغربية على هذا التوحش المكشوف. وبالتالي، فإن السماح بتسييل إجرام العدو إلى مكسب إستراتيجي بعنوان “تقبّل الهزيمة” هو تواطؤ مع أهداف العدوان.
في الخلاصة، أظهرت المقاومة خلال جولة القتال الأخيرة أن لديها ما يكفي من المرونة والإرادة للتعامل مع الصدمات القاسية وامتصاص آثار الضربة “الإسرائيلية” الإستباقية وترميم القدرات سريعاً خلال الحرب. بهذا المعنى، إذا كان العدو سعى إلى تنفيذ ضربة استباقية على غرار ضربة 5 حزيران 1967 لتقرير نتائج إستراتيجية على مسار الصراع ككل، فإن المقاومة تمكنت حتى الآن وبشكل ملحوظ وملموس في الميدان من استيعاب الموقف ومنع تحويل “النكسة” إلى هزيمة، خلافاً لما يشتهي العدو والمتناغمون مع خطابه. بل إن المقاومة تستعيد المبادرة تدريجياً وتُدخل كل يوم أهدافاً جديدة إلى بنك استهدافاتها وأسلحةً جديدة إلى ساحة المعركة، بينما تراجعت إنجازات العدو العسكرية وبات جلّ همّه حالياً تنفيذ مجازر يومية بحق المدنيين والبنى السكنية هنا وهناك لرفع كلفة الصمود والانتصار.
العهد الاخباري: علي عبادي