سوريا بين مرحلتين… كيف تتموضع الدولة الجديدة؟
موقع أنصار الله . تقرير | علي الدرواني
في سوريا بدأ عهد جديد مختلف كليا عن العهد السابق داخليا وخارجيا، على الاقل حتى هذه اللحظة، عهد على النقيض تماما من أغلب التفاصيل في العهد السابق، بدءا بالسياسة والاقتصاد والامن، وحتى التحالفات الداخلية والخارجية. ومع هذا التغيير الكبير والعميق، لا يبدو أن سوريا الجديدة قادرة على العمل وفق رؤية خاصة بالسلطة الجديدة ذات الخلفية العقائدية التكفيرية، ولهذا بدت -لوهلة- أنها أصبحت تفكر بطريقة مختلفة عما كانت عليه في ذروة الصراع مع نظام الأسد، مظهرة مرونة كبيرة في التعاطي مع كل الشؤون ، سواء كان ذلك تغيراً حقيقياً أو تكتيكيا.
الجغرافيا لها قرارها
إن سوريا -بموقعها المسيطر على اغلب أرض الشام المعروفة تاريخيا بالسباق بين كل الامبراطوريات عبر التاريخ للسيطرة عليها، وتميزها بأعتى الحروب العكسرية بين المحاور، والامبراطوريات قديما وحديثا- تفرض على القيادة الجديدة ما كانت تمليه على النظام السابق من ضرورة التعاطي من موقع المتخوف من كل الأطماع الخارجية -خصوصا الغربية الصليبية- التي تنظر الى سوريا أنها بوابة واسعة للسيطرة على المنطقة العربية الغنية بالنفط والموارد، والمهمة لطرق التجارة الدولية. وقد كان الصراع -في كثير من جوانبه خلال العقد الماضي- يحمل كثيراً من هذه الاطماع والاهداف والاحلام.
هذه الجغرافيا تفرض على سوريا -بقيادتها السابقة والحالية- ان تتموضع في الموقع الذي يتصادم مع العدو الاسرائيلي، واطماعه التوسعية التي كشف عنها بأبشع صورها مع لحظة التغيير الكبير في سوريا. ففي اليوم التالي لرحيل الاسد اقتنص العدو الفرصة التي أعد نفسه لها بالانقضاض على أراضٍ سورية جديدة في المنطقة العازلة، وشن اكبر حملة في تاريخه -حسب توصيف إعلامه هو- ضد مواقع الجيش السوري وقدراته الصاروخية والجوية والبحرية، معلنا القضاء على 80% منها، مُدَّعياً خشيته من وصول تلك القدرات الضخمة الى الجماعات المسلحة التي وصفها بـ”المتمردين”.
التصرف الاسرائيلي العدائي تجاه سوريا الجديدة يؤكد المؤكد بالحقائق التاريخية والجغرافية ان سوريا لن تكون إلا في مكان الآخر المضاد لهذا العدو، ولا يناسبها ان تذهب الى محور التبيعة المطلقة لهؤلاء الاعداء.
“سلام” على المقاس الصهيوني
بعد ايام من اعلان سقوط النظام السوري على يد الجماعات المسلحة بقيادة الجولاني -المصنف على قوائم الارهاب الامريكية، والمدعوم من تركيا- تبادلت القيادة السورية الجديدة مع العدو الاسرائيلي رسائل السلام حسب ما رصدته وسائل الاعلام الصهيونية.
رئيس وزراء كيان العدو المجرم بنيامين نتنياهو ارسل رسالة وصفتها صحيفة الشرق الاوسط السعودية الصادرة من لندن بأنها رسالة «مصالحة» للسلطة الجديدة في سوريا، مؤكداً في رسالته -مرة ثانية- أنه يسعى لإقامة ما سماها علاقات سلمية مع الجميع.
وكان رئيس وزراء العدو قد ارسل تهديداته الى القيادة الجديدة في سوريا بقوله: « سنرد بقوة وسننتزع ثمناً باهظاً اذا سُمح لايران بنقل الاسلحة او العودة الى سوريا او حزب الله« مؤكدا انه يريد اقامة علاقات مع النظام الجديد في سوريا.
وبعد صدور هاتين الرسالتين من المجرم نتنياهو كان الجولاني قد رد على وسائل الاعلام بان “سوريا ليست في وضع يسمح لها بخوض حرب جديدة” معبرا ان “القلق كان من ايران وحزب الله، ووجود النظام السابق”، ملمحا ان هذا الخطر غير موجود حاليا، وانه ينبغي ان تطمئن “الدول الاجنبية” الى دور سوري جديد مغاير لدور سوريا السابق.
وحسب صيحفة معاريف العبرية، فان تصريحات الجولاني جاءت أساساً على خلفية كلام نتيناهو المشار اليه، في «الكريا»، وهذه التصريحات هي رسالة سلام واضحة لكيان العدو.
رسائل السلام المزعوم هذه لا يمكن ان توضع الا في خانة السلام بالمقاس الاسرائيلي، الذي يحدده نتنياهو بمنع وجود ايران، او منع نقل الاسلحة الى حزب الله، وهو المقاس الذي يلبي هواجس الامن العبرية في المنطقة، لكنه بالمقابل لا يقدم شيئا لسوريا غير التهديد والوعيد، بمعنى ان الكيان يريد من سوريا فقط ان تقوم بدور الشرطي لحماية الكيان، وهو الامر الذي لا يتناسب مع موقع سوريا، وثقافة شعبها المعادي للكيان الاسرائيلي، لا سيما وقد سُبقت تصريحات المجرم الصهيوني نتنياهو بشن طائرات جيشه اكثر من 350 غارة على مواقع الجيش السوري ومخازنه ومطاراته ومعداته العسكرية التي كان يفترض ان تؤول -كونها ملكا للشعب السوري- للسلطة الجديدة، والجيش الجديد، والقوات المسلحة المرتقبة. هذا الفعل تشارك فيه الاسرائيلي والامريكي الذي شن هو الاخر عشرات الغارات بزعم محاربة تنظيم داعش.
سوريا ومحور المقاومة
ليس خافيا ان الجماعات المسلحة التي تسيطر على سوريا اليوم هي ذاتها التي التحمت مع قوى المحور المقاوم للعدو الاسرائيلي طوال العقد الماضي، لكن يبدو ان المحور -ممثلا بايران وحزب الله على الاقل- حتى هذه اللحظة لم يبد اي عداء تجاه السلطة الجديدة، وكان العدوان الصهيوني فرصة لاظهار تحول كبير في النظر الى دمشق تحت قيادة الجماعات المسلحة، وعبرت بيانات الادانة الواضحة للعدوان الاسرائيلي والامريكي، والوقوف الى جانب سوريا في وجه هذا العدوان. هكذا جاءت البيانات من اليمن والعراق ايضا.
هناك آمال واضحة بان سوريا لن تغادر مربع المقاومة، هذه الآمال ستدفع -بطبيعة الحال- الى البحث عن ارضية مشتركة لربط علاقات التعاون مع سوريا الجديدة وفقا لمصالح الامة الاسلامية عموما وشعوب منطقتنا خصوصا، لا سيما ان العدو الاسرائيلي واطماعه لا تنتهي بالتوسع، وما يجري في غزة ولبنان وجنوب سوريا، يصرخ فاضحا تلك الاطماع.
وهنا يجب الاشارة الى ان مشاريع التقسيم المرسومة لسوريا تثير حساسية كبيرة لدى دمشق الجديدة وداعمها الرئيس في انقرة، وتتشارك تلك المخاوف بشدة مع ايران والعراق، خصوصا لجهة دعم الاكراد، وهي المسألة التي لطالما مثلت نقطة التقاء رباعي، لسوريا والعراق وتركيا وايران، ويمكن ان تمثل مدخلا للتعاون بين كل هذه الاطراف.
مخاوف مشروعة
في ظل عدم اليقين الحاصل نتيجة الوضع الجديد والهش في سوريا، سواء لجهة الوضع الداخلي او التحالفات الخارجية، وبناء على العقلية العدائية التي تحركت بها الفصائل المسلحة طوال العقد الماضي والذي جعلها تبدو اقرب الى محور واشنطن واسرائيل، فان هناك مخاوف لدى عديد من المراقبين ان تذهب سوريا بعيدا عن مصالح المنطقة، وتلقي بنفسها في حضن واشنطن و”تل ابيب”، نكاية بمحور المقاومة، واظهارا للانتصار عليه. ويستدل هؤلاء ايضا بعدم بروز اي موقف للسلطة الجديدة في دمشق من العدوان الإسرائيلي على سوريا بالتوازي مع استلامها إدارة البلاد، والتصريح البارد لمتحدث هيئة الجولاني عندما علق على العدوان الاسرائيلي مكتفيا بالقول “انه يريد ان يكون هناك احترام لسيادة سوريا”، دون ان يندد او يدين او يرفض او يستنكر ذلك العدوان، وهذا الامر وان كان يبدو منطقيا، لكنه لا يأخذ بعين الاعتبار الكثير من الحقائق التارخية والجغرافية والثقافية، ولو ذهبت دمشق الجديدة الى هذا الخيار -الارتماء في حضن واشنطن و”تل أبيب”- فانه اسوأ الخيارات التي ستذهب بالبلد نحو التقسيم التناحر والحرب الاهلية. وسيكون الفوضى هي وحدها من ستبقى اكثر حضورا، وهذا ما لا يرجوه احد لسوريا واهلها.